فنلندا والسويد في الناتو … إعادة عسكرة أوروبا

بقلم دكتور أيمن سلامة

ضابط الاتصال السابق في حلف الناتو

بعد أيامٍ من الغزو الروسي لأوكرانيا صَرّحت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون ديرلاين، في البرلمان الأوروبي أن الاتحاد الأوروبي أصبح أكثر اتحادًا من أي وقت مضى وأنه تم إحراز المزيد من التقدم في مسائل الأمن والدفاع المشترك، و ألمحت في إشارة واضحة إلى الإفراج عن 500 مليون يورو من أصول الإتحاد لصالح العون العسكري الضخم بل التاريخي لأوكرانيا، ويأتي ذلك بالمخالفة للمواثيق الدولية المختلفة للاتحاد الأوروبي التي تحظر صراحة تخصيص أموال من الميزانية المشتركة للمشاريع ذات ” التداعيات العسكرية أو الدفاعية “.

هشاشة المنظومة الأمنية المشتركة الأوربية

قبل بضعة أشهر من غزو أوكرانيا، صرح فون دير لاين، وزير الدفاع الألماني السابق في خطاب حالة الاتحاد، أنه في مواجهة انعدام الثقة وفي عالم مضطرب بشكل متزايد : “ما نحتاجه سياسة و استراتيجية  موحدة للدفاع “، وتَعكس  التصريحات و الواقع الميداني علي الأرض في أوكرانيا قبل الحدث الجلل الذي لم تَستفق منه بعد القارة العجوز .

كشفت الحرب الدائرة في أوكرانيا أن عسكرة أوروبا هو طموح  رسمي و شعبي لطالما تاقت له الدول السبع وعشرين أعضاء الإتحاد الأوروبي، ولكن لم تكن تصريحات مسؤولي الهيئات و المؤسسات المختلفة بذاك السفور الذي يعكس الحقيقة  المباغتة و الصادمة التي دشنها  الرئيس الروسي بوتين في يوم 24 فبراير 2022، فقد عمد هؤلاء المسؤولين  للحديث بِعبارات  مُلطّفة مٌستترة بدلا من العبارات الخشنة الصريحة، حيث تحدثوا عن ” البوصلة الإستراتيجية ” و ” الاستقلال الذاتي الإستراتيجي الأكبر” .

الافتقار للإرادة السياسة

حين سُئِلت، فون دير لاين، عن المسببات التي  حالت دون أن تقوم منظمة الإتحاد الأوروبي باستحداث ثمة آليات لتأطير العمل العسكري المشترك لدول الإتحاد الأوروبي لمجابهة تهديدات حالة ومباشرة للأمن للدول الأعضاء في هذا الاتحاد، أجابت : ” حتى الآن يبدو أن هناك الكثير من التحديات والعقبات التي يتعين التغلب عليها، و أكدت إنه ليس هناك نقص في الوسائل و القدرات الأوروبية المختلفة، ولكن تَكمن المشكلة في الافتقار إلى الإرادة السياسية ” .

يقيناً وفي ذات الصدد، لقد شكل الغزو الروسي لأوكرانيا أكبر وأهم رافعة أحدثت ذلك الزخم الهائل الأوروبي على المستوي الرسمي و الذي تواكب مع الحراك الشعبي في كافة دول الإتحاد الأوروبي، و دون استثناء، فتدفقت الدماء الدافئة في شرايين الاتحاد الأوروبي، ومَهّدت هذه الرافعة التاريخية لتشكيل أقوي نَسق أوروبي موحد لدول الإتحاد منذ إرساء اللبنات الأولي في الاتحاد عام 1957 في روما على أسس اقتصادية لا أمنية أو عسكرية حينئذ .

بهذا المعنى، صَرّح الممثل الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي “جوزيب بوريل “، في مقابلة في بداية غزو أوكرانيا: ” نحن الأوروبيين بنينا الاتحاد مثل حديقة على الطراز الفرنسي، مرتبة، جميلة جيدة العناية لكن بقية العالم غابة، وإذا كُنا لا نريد أن تأكل الغابة حديقتنا، فعلينا أن نستيقظ و اختتم حديثه المهم بعبارة كاشفة: “أوروبا في خطر”.

الحرب الهجينة مع بيلاروسيا

في ظل غياب التهديدات العسكرية التقليدية التي من شأنها أن تبرر زيادة الإنفاق الدفاعي، أضحي  أمن الحدود الأوروبية علي رأس الشواغل الحيوية  للاتحاد الأوروبي، و على مدار السنوات  الأخيرة، صارت الصناعات الدفاعية  العسكرية الأوروبية في مجال تأمين الحدود و إغلاق كل منافذ  الهجرة غير الشرعية – للحالمين بالرفاه و الأمن الأوربيين- منجما للذهب لصناعة الدفاع الأوروبية، واستفادت شركات الدفاع والأمن من بيع الأسلحة إلى منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، مما يؤجج الصراعات التي تسبب في فرار العديد من الأشخاص الذين يأتون إلى أوروبا بحثًا عن ملاذ.

نفس الشركات التي تقدم المعدات لحرس الحدود بعد ذلك، وتكنولوجيا المراقبة لمراقبة الحدود، والبنية التحتية التكنولوجية لتتبع تحركات السكان . إنها “تجارة كره للأجانب” على حد تعبير الباحثة الفرنسية كلير رودييه. الأعمال التجارية التي نظرًا لتعتيم هوامشها وانتشارها، لديها المزيد والمزيد من بنود الميزانية في الاتحاد الأوروبي متنكرة في صورة مساعدات إنمائية أو “تعزيز الجوار الجيد”.

أضحت التدفقات الهائلة لحشود طالبي اللجوء إلي أوروبا والتي حاولت العبور بشكل غير قانوني إلى بولندا وليتوانيا، حصان طروادة لهذه الشركات، فاستغلت تدفقات طالبي اللجوء  “كسلاح سياسي”، حيث دشنت هذه  الشركات حملات سياسية و برلمانية في دول الإتحاد الأوربي من أجل ” محاربة ” طارقي أبواب الإتحاد الأوروبي في ليتوانيا وبولندا، بحسبان أن هؤلاء يشكلون التهديد المداهم و المباشر لأمن الاتحاد الأوروبي، و لم يستغرق الأمر سوي أيام قليلة، فَروّج المحللون السياسيون في الاتحاد الأوروبي و الناتو لخطر ما نعتوه ب ” الحرب الهجينة ”  التي تشنها بيلاروسيا ضد دول الاتحاد الأوروبي، و مع تصاعد أتون هذه الحرب الهجينة شهدت أروقة الحلف الأطلسي مناقشات و مشاورات ساخنة حول ما إذا كان هذا النوع من العمل الهجين يمكن أن يفعل المادة الأغر في ميثاق معاهدة الأطلسي و هي  المادة الخامسة، التي تنص على الدفاع المتبادل.

لقد عكست الحرب الهجينة بجلاء، حقيقة ماهية وطبيعة السياسة الأمنية لدول الإتحاد الأوروبي، حين أرسل الأطلسي كتائب ردع مختلفة إلى كل دولة من دول البلطيق (إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا) بالإضافة إلى بولندا، وبدأت الاتحاد الأوروبي في بناء أسوار حدودية جديدة على طول مئات الكيلومترات من حدود الاتحاد الأوروبي مع بيلاروسيا.

شرعية المشروع العسكري الأوروبي الموحد

من المحال ترسيم الحدود الأمنية و  العسكرية بين المنظمتين الدوليتين : حلف الناتو من جانب، و الاتحاد الأوروبي من جانب آخر، ولا مشاحة أن انضمام كل من السويد و فنلندا لحلف الناتو العتيد، وبسرعة البرق و السهم و الطرف وبالرغم من المعارضة الانتهازية التركية في بادئ الأمر، وبالرغم أيضا من  المعطيات التاريخية و القانونية للدوليتين  المنضمتين حديثا للحلف، صارت مخالب الدب الروسي التي ما فتئت تنهش في التخوم الأوروبية هي  الذريعة المثالية لبناء المشروع العسكري الأوروبي الجديد، كما يخلق و يُضفي أكبر شرعية جديدة و علي مختلف الأصعدة لتدشين نسقا جديدا موحدا للأمن الأوروبي، وصار هناك مشترك أوروبي جديد يجمع أي تنازع أوربي – أوروبي بصدد استراتيجية جديدة للأوربيين، وينزع عنها الوصم التاريخي من الحليف الأطلسي ” الولايات المتحدة الأمريكية ” لأوروبا بكونها القارة العجوز.

أحدث الغزو الروسي لأكرانيا دويا شديدا، قارع دوي المدافع وأزيز الطائرات، في أروقة بروكسل وشنّف ذلك الصدى آذان شعوب دول  الإتحاد الأوروبي  وصارت العبارة المجلجلة “أوروبا اليوم أكثر اتحادًا من أي وقت مضى” هي الشعار الجديد في أروقة بروكسل، ومثلت تعويذة تتكرر لدرء أشباح الأزمات الأخيرة وتبرز في الخارج أن أوروبا لديها مرة أخرى مشروع سياسي مشترك.

أزمة أوروبا مدعاة  لمشروع مشترك

بهزيمة الاستفتاء على مسودة الدستور الأوروبي في فرنسا وهولندا، فقد الاتحاد الأوروبي أفق مشروع الوحدة السياسية الكاملة، و بدا أن الحلم الفيدرالي بدولة أوروبية صار يتلاشى، ولذلك مثل غياب مشروع سياسي أوروبي يتجاوز الفائدة القصوى بعيدة المنال للأسواق، وإضفاء الطابع الدستوري على الليبرالية الجديدة وتكريس نموذج للسلطة البيروقراطية المحمية من الإرادة الشعبية، قد أدى تدريجياً إلى تآكل الدعم الاجتماعي للاتحاد الأوروبي.

أوروبا تكسر تابوهاتها العسكرية

أدي خروج المملكة المتحدة من منظومة  الاتحاد الأوروبي إلي التفكير المؤسساتي و للمرة الأولي لتأطير العمل العسكري الأوربي المشترك، بل و الاندماج العسكري، ففي  خطابه عن حالة الاتحاد لعام 2016، كسر الرئيس السابق للمفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، المُحرمات الأوروبية التقليدية بشأن القضايا العسكرية، فتحدث عن صندوق دفاع مشترك و”مقر أوروبي” و “قوة عسكرية مشتركة” و “تكملة الناتو”،  وبهذه الطريقة، استحسنت الدول القائدة و الرائدة في منظومة  الاتحاد الأوروبي هذه الأطروحات المغايرة للمسلمات بل المحرمات التاريخية، فدافعت فرنسا تدليلا لا حصرا، عن الحاجة إلى جيش أوروبي لرعاية مصالحها الاستعمارية الجديدة – القديمة في إفريقيا، وحازت الدعم السياسي الكبير من دول الإتحاد في نزاعها المستفحل مع مالي، و الذي أفضي لسحب القوة الفرنسية من هذا البلد .

لم يقتصر الأمر علي فرنسا في مجال كسر المحرمات الأوروبية التي انفكت دول الاتحاد تسلم بها كناموس طبيعي، فطالت الرياح العاتية للغزو الأوروبي العقيدة الألمانية المحافظة، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، في مجال التصنيع العسكري  حيث أثرت حرب أوكرانيا على الرأي العام الألماني في مجال  تمويل صناعة الأسلحة، وأحدث ذلك التغيير الجذري في اتجاهات الرأي العام مفعول السحر، فأعلن بنك Commerzba ، أحد البنوك الألمانية الرئيسية عن قراره بتخصيص جزء من استثماراته في صناعة الأسلحة وهو الأمر الذي  لم يكن من الممكن تصوره قبل بضعة أشهر فقط بسبب تأثيره على الرأي العام.

تسريع مشروع عسكرة الاتحاد الأوروبي

نافل القول، أن اقتراح إنقاذ مشروع تكامل الاتحاد الأوروبي حول إعادة عسكرة أوروبا هو عملية جارية منذ سنوات، فلا أحد يستطيع أن ينكر أن غزو أوكرانيا قد أدى إلى تسريعها بشكل كبير ومنحها الشرعية الداعمة، و المثال الذي يضرب في ذلك السياق هو الاستفتاء الأخير في الدنمارك الذي تخلت بموجبه الدولة الإسكندنافية بعد 30 عامًا عن بند الاستبعاد الطوعي لسياسات الدفاع في الاتحاد الأوروبي،  وهذا يعني من بين أمور أخرى، أن الدنمارك سوف تصبح عضوا كامل العضوية في سياسة الأمن والدفاع المشتركة؛ في حين يمكن إرسال الجنود الدنماركيين إلى العمليات العسكرية للاتحاد الأوروبي إذا تمت المصادقة عليها من قبل الأغلبية في البرلمان الدنماركي .

في بلد متشكك تقليديًا في الاتحاد الأوروبي، أيد 66.9٪ من الناخبين اندماج الدنمارك في البرامج العسكرية للاتحاد الأوروبي، وهو ما يمثل أكبر انتصار لمقياس الاتحاد الأوروبي في تصويت دنماركي، وهنا عبر رئيس المجلس الأوروبي، تشارلز ميشيل، في صفحته الرسمية على تويتر: “لقد اتخذ شعب الدنمارك قرارًا تاريخيًا،  لقد تغير العالم منذ غزو روسيا لأوكرانيا، و هذا القرار سيفيد أوروبا وسيجعل من الاتحاد الأوروبي الشعب الدنماركي أكثر أمانًا وأقوى “.

إجماع أوروبي على البوصلة الاستراتيجية

في سياق أصداء الحرب في أوكرانيا، وافقت الدول الأعضاء على البوصلة الاستراتيجية في مارس 2022، وهي خطة عمل لتعزيز سياسة الأمن والدفاع في الاتحاد الأوروبي من الآن وحتى عام 2030، وعلى الرغم من أن هذه البوصلة الاستراتيجية كانت قيد الإعداد منذ عامين، إلا أن محتواها تكيف بسرعة مع السياق الجديد الذي أحدثه الغزو الروسي لأوكرانيا.

لقد وردت في البوصلة الاستراتيجية الأوروبية، وكنتيجة مباشرة للحرب في أوكرانيا، مستحدثات متوازية مع الحرب الدائرة في التخوم الشرقية لدول  الاتحاد الأوروبي، ومن بين هذه العبارات المثيرة : ” تجبرنا هذه البيئة الأمنية الأكثر عدائية على اتخاذ قفزة حاسمة وتدفعنا  لزيادة قدرتنا ورغبتنا في العمل، وتعزيز قدرتنا على الصمود وضمان التضامن والمساعدة المتبادلة “، وتكرر البوصلة الإستراتيجية عدة مرات أن عدوان روسيا على أوكرانيا يشكل تحولًا جذريًا في التاريخ الأوروبي و يتعين على الاتحاد الأوروبي الرد عليه .

الدب الروسي نزع الحياد التقليدي للسويد وفنلندا

أصر القادة السياسيون في كلا البلدين مرارًا وتكرارًا على أن الغزو الروسي لأوكرانيا جعلهم يغيرون موقفهم التاريخي من الحياد،  وصرحت رئيسة الوزراء السويدية، ماجدالينا أندرسون، في بيان في أبريل2022: “عندما غزت روسيا أوكرانيا، تغير الموقف الأمني ​​للسويد بشكل جذري”، وفي المقابل، بررت رئيسة الوزراء الفنلندية التغير الدراماتيكي للموقف السياسي و الأمني والعسكري لدولتها حين وسمت روسيا بأنها : ” ليست الجارة التي اعتقدنا أنها كذلك “.

تغير رقعة الشطرنج الجيوسياسية العالمية

بتوسع بل بزحف الناتو شرقا، فإن ذلك يعني تغييرًا ملحوظًا في رقعة الشطرنج الجيوسياسية العالمية وبما يشكله ذلك التوسع  من  تداعيات مستقبلية، ففنلندا العدو السابق للاتحاد السوفيتي السابق، تتاخم  روسيا في حدود 1300 كيلومتر، وبهذه الطريقة، إضافة إلى دول الشمال  الأوروبي التي تتمتع بإمكانيات عسكرية ملحوظة، يستطيع الحلف بحر البلطيق بشكل نهائي .

يقيناً، إن خلع عباءة الحياد التي لطالما تدثرت بها كل من السويد وفنلندا لعقود طويلة، سيمثل للناتو ليس فقط ذا أهمية مادية واستراتيجية، ولكنه يمثل أيضًا انتصارًا سياسيًا بعيد المدى لحلف الناتو في مواجهة روسيا العدو التقليدي للحلف، كما سيعيد البني الهيكلية و المؤسساتية للدولتين  و في الصدارة منها البناء الدستوري الذي شكل ركنا ركينا من شكل و نظام وكيان هاتين الدولتين .

ختاما :

ليس في كل الظروف يصدق القول المأثور: ” إنك لن تجني من الشوك عنباً “، فالكارثة الكبرى التي حلت بأوروبا تحديدا، جراء الحرب في أوكرانيا، وهذه البيئة الأمنية الأكثر عدائية التي لم تُخَبّر بها منظمة  الاتحاد الأوروبي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حَفّزت المنظمة الأوربية علي اتخاذ قفزات حاسمة، وعززت من قدرات دول الاتحاد الأوروبي على الصمود و التضامن وتوحيد السياسات الأمنية و العسكرية.

كلمات مفتاحية