أخطاء الكرملين الاستراتيجية في أوكرانيا كاتب المقال : ضابط الاتصال السابق لحلف الناتو في البلقان

بقلم الدكتور: أيمن سلامة

مقدمة

أماط الغزو الروسي لأوكرانيا  اللثام عن أخطاء خطيرة متعلقة  بتحديد وتجسيد الإستراتيجية ، واتخاذ القرار الاستراتيجي ،  وتنفيذ الاستراتيجية العسكرية تحديدا في ميان القتال .

جَلي أن ما تنقله الفضائيات و الأقمار الاصطناعية و البيانات العسكرية للدولتين المتحاربتين لا تفصح عن كل الأسرار و المكنون من تطورات ومآلات  العمليات العسكرية  التي لا تستقر، ولكن تستعر و تنتشر ليس في أوكرانيا و حسب ،و لكن في الداخل الروسي كما حدث في الأسابيع الأخيرة من المعارك حامية الوطيس .

يُجمع الثقات من المحللين و  المتابعين في علوم الاستراتيجيا ، و مع اقتراب عام بدء الغزو الروسي لأوكرانيا ، أنه بات من  الواضح بالفعل أن الكرملين ارتكب أخطاء كبيرة أدت إلى اخفاقه في تحقيق حتي واحدة من الأهداف التي تراجع عنها بين الفينة و الفينة  منذ الرابع و العشرين من فبراير هذا العام .

لا مِراء أن الحرب  النفسية ودعاية الحرب التي انتهجتها الدولتان المتحاربتان : روسيا  الفيدرالية و أوكرانيا ، منذ بدء العمليات العسكرية تجعل مهمة المراقبين عسيرة ؛ وعلي ذلك صار عسيرا اجراء تحليل مفصل لبعض الجوانب المهمة في الحرب ، ولكن من الممكن تحديد أهم  حالات الإخفاق الروسي تحديدا وتحليلها.

الاستراتيجية الروسية الكبرى

إن تحليل نجاح الإستراتيجية  لدولة بعينها ، يعني التحقق مما إذا كانت تصل أو تقترب هذه الاستراتيجية من الأهداف الحيوية والدائمة للبلد ،وكان المُخضرم   “يفغيني بريماكوف”  وزير الخارجية الروسي في عام 1996 ، أسس الاستراتيجية الروسية الكبرى منذ أكثر من 20 عامًا،  وقد حدد أهدافًا للرد على الشعور الدائم بالظلم لدى الشعب الروسي .

تجلت أهم محاور هذه الاستراتيجية فيما يلي :  تجنب عالم أحادي القطب ، والحد من النفوذ الأمريكي و الحفاظ على أولوية روسيا في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي ؛ ووقف توسع الناتو ، وكانت هذه  الركائز الثلاثة هي التي بنى عليها الكرملين أفعاله الخارجية خاصة منذ موافقة  الرئيس بوتين على مفهوم الأمن القومي لعام 2000 ، الأمر الذي أعاد روسيا إلى السياسة الواقعية البحتة .

لم يكن  الرئيس بوتين فقط ،  الذي احتضن و اعتنق هذه العقيدة ، ولكن كل هذه الركائز الرئيسية للاستراتيجية الروسية  صارت مغروسة في أذهان النخب السياسية والعسكرية والاقتصادية والأكاديمية في روسيا لدرجة أنه سيكون من الخطأ الاعتقاد ، كما يتصور البعض ، بأن سقوط بوتين سيغير الجمود الروسي .

راهن  الرئيس بوتين في البداية على تحقيق هذه الأهداف الثلاثة من خلال العمليات المعلوماتية ومكافحة التخريب الداخلي ، من قبل الحركات الانفصالية أو المناهضة للنظام أو الاستقلالية أو التدخل في الانتخابات التي تهدد أسس النظام  السياسي في روسيا .

يقينا: أتت التدابير التنفيذية و المراسيم التشريعية و غيرها ثمارها ، حيث  ضبطت هذه الأليات الاحترازية و  المضادة أيضا  بشكل مثالي بين استخدام القوة وقيمة الهدف السياسي ، وهو أساس الاستراتيجية الجيدة .

نافل القول أن ليس بالإمكان تحقيق سوي ما كان ، فالحديث عن  الاستراتيجيات ليس صنوا للحديث عن التكتيكات ، و الغايات بعيدة المدي ليست بالطبع هي ذات  الغايات قصيرة المدي ، وربما تكون  العَجَلة  التي بدأت في فبراير ما برحت تستمر في مجريات  الحرب خاصة في الأسابيع  القليلة .

 يتنافر ولا يلتقي ولو لطرفة عين التخطيط الاستراتيجي مع التنفيذ العَجِل لذلك التخطيط ، خاصة حين يثور الحديث عن مفهوم ” العملية العسكرية ” ، و  المثال الصارخ الذي يضرب في ذلك الصدد ، هو التخطيط الاستراتيجي المصري بمعناه الواسع ل : “عملية بدر ” ، وهي الحرب غير الشاملة التي خاضها الجيش المصري في أكتوبر 1973 .

بالرغم أن القرار السياسي  المصري الأعلى حينئذ لم يسعي  عسكريا ولا سياسيا سوي  لتحريك الموقف  المتجمد في العامين الأخيرين قبل حرب أكتوبر عام 1973 ، لكن استغرق التخطيط الاستراتيجي لاختيار توقيت شن ”  العملية بدر ” سنوات طويلة ، وذلك الصبر المصري لم يتوفر لدي القيادة الروسية وربما يعزي ذلك للثقافة الروسية عينها .

الشغف السياسي و الشعور بالإهانة

تري الكثرة الكاثرة من المحللين أن الكثير من الأخطاء  التي ارتكبتها القيادة الروسية في أوكرانيا لا تُعزَى فقط إلى قيادة بوتين ، ولكنها تتويج للميول المتجذرة في المجتمع الروسي، وحكومته وجيشه ، وهي عوامل تجسد الثالوث الكلاسيكي لنظرية الحرب: العنف ؛ الصدفة والاحتمالات ؛ وطبيعة شغف الأداة السياسية .

منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق يشعر الروس بالإهانة من قبل الغرب  ، و عززت بذكاء  ذلك الشعور القوى النافذة في الدولة الروسية  ، مما دفعهم للاعتقاد بأن ما حدث منذ ذلك الحين ، أي منذ عام 1991، هو إهانة مستمرة لحقهم في إدارة دومينهم .

يشترك المواطنون والأكاديميون والسياسيون  الروس في الاعتقاد بأن الناتو والولايات المتحدة استخدمتا استراتيجيات ميكا فيلية للتوسع في الشرق ، و هذه الرؤية ، التي تعتبر البلدان مجرد بيادق في اللعبة الكبرى ، دفعت الروس إلى الاعتقاد بأنهم محاصرون ، وقام بعض المحللين على كلا الجانبين بتبرير استراتيجية عدوانية من قبل موسكو بحجة أن البيادق تم خطفهم وصار أعداء روسيا  يقتربون من حدودها .

المخاض الروسي العسير في التحول

جَلي أن النظام الروسي خاض مخاضا عسيرا للغاية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق ، حيث انتقلت كافة الأدوات  الاقتصادية ونظم  السوق  من اقتصاد شيوعي مركزي وموجه إلى رأسمالية متوحشة.

إن المحاولات الأولية ذات النوايا الحسنة للعبور بطريقة منظمة ، وتوزيع أصول الدولة بين جميع سكانها ، تدهورت إلى تراكم سريع للغاية لرأس المال ووسائل الإنتاج في أيدي عدد قليل من الأيدي، و تحولت الدولة الروسية من كونها كل شيء على الإطلاق إلى كونها لا شيء تقريبًا.

بدت روسيا غير قادرة على فرض القواعد الأساسية لتنظيم النشاط الاقتصادي ، أو حماية السكان من العنف الوحشي الذي اندلع بين الأوليغارشية الجديدة،  كما حدث عبر التاريخ في جميع البلدان تقريبًا، وفي نهاية المطاف ، كان تراكم القوة لدى بوتين كبيرًا لدرجة أنه فرض إرادته على الأوليغارشية القوية ، الأمر الذي لم يجعله أقوى رجل في روسيا فحسب ، بل صار محبوبًا لدى السكان الذين كان لديهم رجلهم القوي لاستعادة كبريائهم. .

أهم الأخطاء الإستراتيجية

الافتقار إلى الحلفاء

قد يبدو لنا أن المنظمات متعددة الجنسيات تفقد وزنها ، وأن الأمم المتحدة غير كاملة وغير قادرة في كثير من الأحيان على حفظ السلام ، أو أن الإجراءات القائمة على القوة الصارمة تُفرض في عالم تسود فيه الواقعية، لكن الحقيقة هي أنه من الصعب بشكل متزايد العمل من جانب واحد في العالم، حتى الولايات المتحدة أدركت ذلك أثناء غزو العراق عام 2003 ، واضطرت إلى العودة إلى الأمم المتحدة لتمرير قرارات من شأنها أن تسمح لها بالحفاظ على تحالفها وتوسيعه.

تدرك الصين أيضًا هذا الجانب وتعمل بلا كلل لجذب الدول إلى مدارها ، إما من خلال المال أو من خلال تقديم بديل للولايات المتحدة، لكن روسيا قلصت بشكل كبير من شبكتها من التحالفات الدولية في السنوات الأخيرة بسبب عدوانها الأخير ، الذي لم يجد سوى استجابة محدودة في بعض الحكومات في إفريقيا.

دعمت دول قليلة بشكل علني موسكو في حملتها، حتى أولئك الذين يرغبون في القيام بأعمال تجارية مع روسيا يتخوفون من تحريض أنفسهم ضد الغرب من أجل الإبقاء علي علاقات مع شريك عَدّه الغرب غير مستقر ومزاجي

تصور خاطئ للواقع

أكبر الأخطاء التي عدها المخطط الروسي  الاستراتيجي مسلمات واقعية ، هي فرض تصورات غير متسقة مع الحقيقة و كأنها مسلمات لأن الثقافة الروسية سادت علي الواقعية الميدانية ، فصارت هذه الافتراضات الذاتية تؤطر منهاج الاستراتيجيا في موسكو وتكتيكات التشكيلات و الوحدات  القتالية الروسية في الميدان الأوكراني .

لم يكلف المخططون و المروجون الروس أنفسهم عناء إجراء مزيد من التحليل فيما ورد إليهم من معلومات مغلوطة ، فكان القرار الروسي في فبراير الماضي بشن :  “العملية العسكرية المحدودة الخاصة ” مؤسسا في معظمه علي هذه المعلومات :

فيما يلي بعض الافتراضات التي استندت إليها روسيا في اتخاذ قرارها:

  • كانت أوكرانيا منقسمة ، وسيدعم السكان الناطقون بالروسية الغزو والبقية ، الذين أصيبوا بالإحباط بسبب الانجراف الاقتصادي للبلاد ، لن يعارضوا التدخل العسكري
  • كانت أوكرانيا ثاني أفقر دولة في أوروبا في بداية الغزو ، وكان يُنظر إلى الحكومة على أنها فاسدة للغاية ، واعتقد 67 ٪ من السكان أن الدولة كانت تسير في الاتجاه الخاطئ ، وصرح 40 ٪ أنهم لن يدافعوا عن البلاد ضد هجوم و 5٪ فقط رأوا في ضم القرم مشكلة  .
  • الرئيس زيلينسكي زعيم ضعيف داخلياً ، وممثل وكوميدي سابق ، ليس لديه خبرة سياسية أو عسكرية أو أجنبية أو إدارية من أي نوع، وبالكاد تجاوز التأييد الشعبي له 30٪، و لم يكن لديه أي خبرة كقائد حرب تقليدي.
  • القوات المسلحة الروسية قوية وفعالة، ويبدو أن الاستثمار الضخم في التحديث و “التنظيف” الذي تم بعد معارك الشيشان أو الإحباط في  جورجيا أعاد الجيش الروسي إلى وضعه كقوة عظمى،  وأكدت عملية القرم الماهرة والسريعة هذا الجانب.
  • كان الجيش الأوكراني ضعيفًا وغير فعال ،وأظهر عدم قدرته على وقف الأحداث في شبه جزيرة القرم أو دونباس أو دونيسك  عام 2014 ، وأن القوات  المسلحة الأوكرانية هي قوة  “تمركزية ” أي لا تستطيع المناورة بالقوات و الأسلحة لمدة طويلة و في مناطق كثيرة
  • كان لدى روسيا المزيد من الخبرة والعقيدة وتجاوزت جميع الأسلحة الأوكرانية من حيث الكمية والتكنولوجيا

ختامًا 

ينبئ التاريخ دوما بدروس هامة تعتبرها الدول ولا تهملها ، ولا تجعل مصالحها العليا مَطِية لظروف وتطورات الحاضر وحسب ، وقرع دفوف الحرب لا يعوزه مجرد عضلات ، ولكن إعمال الخبرات وتدقيق الحسابات .

كلمات مفتاحية