لمواجهة التحديات الأمنية: تحولات استراتيجية الدفاع اليابانية

إعداد: أحمد محمد فهمي

بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية عام 1945، ترسخت ثقافة يابانية جديدة أساسها استبعاد المشاركة في الحروب والنزاعات، ومنع استخدام القوة في تسوية النزاعات الدولية، وهو ما نصت عليه المادة التاسعة من الدستور الياباني الصادر عام 1947، ونتيجة لهذا المنطلق، صارت اليابان تعتمد على الترتيبات الأمنية مع الولايات المتحدة الأمريكية كركيزة أساسية للأمن الوطني الياباني والحفاظ على مصالحها.

ونتيجة لعدة مستجدات على الساحة الدولية وخاصة التصعيد الأمني في منطقة جنوب شرق آسيا، ومنها الأعمال العسكرية والتجارب النووية المتكررة لكوريا الشمالية، والتحديات الاستراتيجية التي صارت تطرحها الصين مع وجود نزاعات حدودية لم تحل بين البلدين، والتهديدات التي تواجه النظام العالمي جراء الحرب الروسية الأوكرانية، رأت اليابان ضرورة إعادة تقييم دورها مع ضرورة وجود سياسة أمنية وطنية مستقلة تحل مشكلة اعتمادها أمنيًا على الولايات المتحدة الأمريكية.

ولمواجهة التحديات الأمنية لأمنها القومي، صادقت حكومة رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا في ديسمبر الماضى، على الاستراتيجية العسكرية الجديدة والتي تحدد سياستها وأهدافها الدفاعية وتتشكل من ثلاث وثائق، وهي استراتيجية الأمن القومي واستراتيجية الدفاع الوطني وبرنامج التعزيز الدفاعي.

العلاقات الأمنية مع الولايات المتحدة:

نتيجة للتحالف الياباني الأمريكي كانت السياسة العسكرية اليابانية دفاعية فقط، وكانت قوات الدفاع الذاتي اليابانية متركزة حول الدفاع عن الأراضي اليابانية بالرغم من ظهور عمليات تصعيد وتحديات أمنية في المنطقة، إلا أن اليابان صارت ملتزمة بالنهج الذي وضعته لنفسها.

وفي الاجتماعات التي كانت تعقد بين لجنة التواصل الأمني اليابانية الأمريكية كان هناك توافقا على الأهداف الإقليمية والعالمية المشتركة، وعلى دعم الوجود الأمريكي في اليابان، ونقل القوات اليابانية إلى الجنوب الغربي نحو كيوشو وجزر ريكيو، بهدف إسهام أكبر لليابان في التحالف الأمني مع الولايات المتحدة.

وفي ديسمبر عام 2010، أقرت اليابان القواعد الإرشادية لبرنامج الدفاع الوطني لعام 2011 ولمدة عشر سنوات تالية، وكذلك برنامج الدفاع على المدى المتوسط للفترة من 2011 إلى 2015، والتي أوضحت فيها أن قوات الدفاع الذاتي اليابانية لا تستطيع القيام بواجبات الدفاع عن اليابان بكفاءة، ومن ثم فهي لا تزال في حاجة للتحالف الأمني مع الولايات المتحدة.

تحديات متصاعدة:

في ظل المستجدات على الساحة الدولية برزت مدى قوة التحديات الأمنية أمام اليابان، والتي صارت تشكل تهديدات مباشرة لمصالحها الحيوية، خاصة بعد التصعيد الموجه للتواجد الأمريكي على المسرح الآسيوى، فرأت اليابان نفسها طرفًا في المعادلة وأنه صار عليها أن تتدارك تلك التصعيدات وأن تستعد لها.

فعلى صعيد تطورات الحرب الروسية الأوكرانية، أعلنت الحكومة اليابانية أنها ستفرض إلى جانب مجموعة دول السبع عقوبات على روسيا، وبدأت في تقديم الدعم والمساعدات للحكومة الأوكرانية، وبتلك الخطوات فقد نسفت الجهود الدبلوماسية اليابانية الماضية في المحاولة للوصول إلى اتفاق مع جارتها روسيا بخصوص الجزر المتنازع عليها “جزر الكوريل” في ظل الرفض الروسي للتفاوض، بل وقيام الأخيرة بتعزيز دفاعاتها في سلسة الجزر، بالتالي صار من المستحيل العودة للسياسات السابقة، كما تبدد ما جاء في استراتيجية الأمن القومي الياباني عام 2013، والتى دعت إلى تعزيز التعاون مع روسيا في جميع المجالات.

وفيما يتعلق بالصين، قامت الصين بعدة تحركات رأت اليابان أنها تشكل تهديدا مباشرا لأمنها القومي، فقد قامت بتنفيذ برنامج تحديث عسكري شامل، وعززت من وجودها البحري في بحر الصين الشرقي بالقرب من اليابان، مع وجود شبه دائم لسفن خفر السواحل الصينية في المياه المحيطة بجزر سينكاكو، وهي الجزر المتنازع عليها بين الدولتين.

كما أصبحت اليابان قلقة من التفاهمات المشتركة والتعاون العسكري بين الصين وروسيا، ومنها اتجاه الدولتين لتطوير الصواريخ “فرط صوتية”، وزيادة نشاطهما العسكري بالقرب من اليابان، حيث نفذا طلعات جوية ومناورات بحرية مشتركة، كذلك ترى اليابان أن ما تقوم به روسيا تجاه أوكرانيا قد يشجع الصين على اتخاذ الخطوة نفسها نحو استخدام القوة تجاه تايوان، والتي تستمر بالمطالبة بها، مع قيام الصين بعقد مناورات عسكرية من فترة لأخرى حول تايوان وانتهاك مجالها الجوي.

وعلى صعيد كوريا الشمالية، فقد شكلت التجارب النووية المستمرة والتصعيد الصاروخي لبيونج يانج، وعبور صواريخها المنطقة الاقتصادية الخالصة لليابان، بشكل متكرر ومن دون سابق إنذار، تحديات أمنية كبيرة للسلطات اليابانية، وقد تسببت في تفعيل نظام الإنذار المبكر “جي-أليرت”، وحذرت فيه سكان المناطق الشمالية والشمالية الشرقية للاحتماء داخل مبان أو تحت الأرض.

أبرز ما تضمنته الاستراتيجية الجديدة:

تتضمن هذه الاستراتيجية، مضاعفة اليابان لإنفاقها الدفاعي من 1% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 2% بحلول عام 2027، وهو المماثل لإنفاق دول حلف شمال الأطلسي “ناتو”، وهو ما يجعل اليابان في إطار ميزانية الدفاع المحتملة والبالغة 315 مليار دولار، صاحبة ثالث أكبر إنفاق عسكري في العالم بعد أمريكا والصين.

كما تطالب هذه الاستراتيجية بمواجهة التهديدات الخارجية عن طريق امتلاك أسلحة هجومية وهذا يتطلب شراء عدد 500 من الصواريخ الأمريكية العابرة للقارات من طراز “توماهوك” و”إس.م-6″ يمكنها إصابة السفن أو الصواريخ الأرضية على مسافة تتراوح بين 1500 و3000 كيلومتر، كما تمكن اليابان أيضًا من ضرب الأهداف العسكرية في آسيا، بما في ذلك الصين وكوريا الشمالية وروسيا، كما تشمل الخطة كذلك إعادة تشكيل هيكل القيادة العسكرية.

كما أكدت الاستراتيجية على حق القوات اليابانية في شن “ضربات مضادة” ضد دول تعتبرها معادية، غير أن طوكيو قيدت تنفيذ هذه الضربات المضادة بـ3 شروط وهى أنها تشكل تهديدا حتميا لليابان أو لدولة صديقة يقود لتهديد حتمي لليابان، وأن لا توجد وسيلة أخرى لتفادي الضربات التي تعتبر معادية، وأن يكون الرد بالحد الأدنى الممكن.

لكن الاستراتيجية قد أشارت كذلك إلى أهمية “القوة الوطنية الشاملة” التي تشير إلى الاستخدام المشترك للدبلوماسية والقوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجيا والاستخبارات.

هل تلك الاستراتيجية مخالفة للمادة التاسعة:

تنص المادة التاسعة من الدستور الياباني لعام 1947، على أن “الشعب الياباني يتخلى إلى الأبد عن الحرب كحق سيادي للدولة وعن القيام بأي أعمال عدوان أو تهديد بواسطة العنف كوسيلة لحل النزاعات الدولية، ومن أجل تحقيق ذلك لا يتم امتلاك قوات برية أو بحرية أو جوية أو غيرها من القوات العسكرية، ولا تعترف الدولة بحقها في خوض الحروب”.

ورغم القيود الصارمة التي تفرضها المادة التاسعة على تسليح اليابان ونشاطه العسكري وحظرها لاستخدام القوة، وصفت اليابان استراتيجيتها الجديدة بأنها “هجوم وقائي” لإضفاء الشرعية عليها كوسيلة “لمهاجمة قوات العدو التي تحاول غزو اليابان”، لكن بموجب هذه الاستراتيجية سوف تنتقل اليابان في علاقاتها الأمنية مع الولايات المتحدة بعد سبع عقود من الاعتماد إلى المشاركة، وهو ما يغير الخارطة الجيوسياسية للمنطقة.

تصعيد أمني محتمل:

إن هذه الاستراتيجية الجديدة قد تدفع دول المنطقة وخاصة روسيا والصين وكوريا الشمالية إلى تفسيرها بشكل خاطئ، وهو أن المنطقة قد دخلت مرحلة سباق تسلح، بدعم من الولايات المتحدة لحليفاتها اليابان، وهو ما قد يؤدي إلى معضلة أمنية متصاعدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ في المقام الأول وفي المنافسة الأمنية العالمية بعد ذلك.

خاصة وأنه بعد إعلان تلك الاستراتيجية الجديدة سافر رئيس الوزراء اليابانى فوميو كيشيدا إلى الولايات المتحدة، واجتمع بالرئيس الأمريكي جو بايدن، وأصدارا بيانا مشتركا حمل عدة رسائل أمنية وعسكرية للصين وكوريا الشمالية وروسيا، منها تمديد معاهدة الدفاع لتشمل الفضاء، وهو ما يشير إلى تشكيل تحالف في المنطقة أمام التطلعات التصعيدية لدول المنطقة، في الوقت نفسه، أعلن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، نشر قوة رد سريع بحلول عام 2025 في جزيرة أوكيناوا اليابانية، لتعزيز الدفاع عن الأرخبيل الياباني بأكمله، أمام الأطماع الصينية.

ردود الأفعال:

رحبت الولايات المتحدة الأمريكية باستراتيجية اليابان الجديدة، مشيرة إلى أن الوثائق اليابانية الجديدة تعيد تشكيل قدرة التحالف مع أمريكا على تعزيز السلام وحماية النظام القائم على القواعد في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وحول العالم، مشيدة بالتزام اليابان بتحديث التحالف معها، من خلال زيادة الاستثمار في البعثات والقدرات المعززة والتعاون الدفاعي الوثيق مع الولايات المتحدة وغيرها من الحلفاء والشركاء، مؤكدة أن اليابان هي شريكها الذي لا غنى عنه في مواجهة التحديات الأكثر إلحاحًا للاستقرار العالمي، وفي دعم جميع الدول التي تعتز بنظام دولي قائم على القواعد.

أما الصين فقد أعلنت رفضها الشديد وعدم رضاها عن تحديث الوثائق الرئيسية المتعلقة بالدفاع الياباني، والتى تصف بكين بأنها “أكبر تحد استراتيجي” لطوكيو، وقد قامت السفارة الصينية في طوكيو بتقديم احتجاجات شديدة لطوكيو، مشيرة إلى أن تحرك اليابان ينحرف بشكل خطير عن الحقائق الأساسية ويثير التوترات والمواجهة الإقليمية، مطالبة اليابان بعدم الانغماس في استخدام ما يسمى بالتهديد الصيني للانغماس في توسعها العسكري.

من جانبها، نددت كوريا الشمالية، بالاستراتيجية الدفاعية الجديدة التي اعتمدتها اليابان، محذرة من أنها لن تقف مكتوفة اليدين أمام هذا التهديد الخطير للسلم العالمي وما تسبب به من تغيير جذري في البيئة الأمنية الإقليمية، مؤكدة أن اليابان تخلق أزمة أمنية خطيرة باعتمادها استراتيجية أمنية جديدة تضفي عمليًا طابعًا رسميًا على امتلاكها قدرات لشن ضربات وقائية ضد دول أخرى.

في المقابل، أصدرت كوريا الجنوبية، احتجاجًا على استراتيجية الأمن القومي الجديدة لليابان، والتى كررت إدعاء سيادتها على جزر “دوكدو” الواقعة في أقصى شرق كوريا الجنوبية، المتنارع عليها، مشيرة إلى ضرورة إدراك الحكومة اليابانية أن تكرار الإدعاءات الخاطئة المتعلقة بجزر “دوكدو” لن يساعد في الجهود المبذولة لإقامة العلاقة الموجهة نحو المستقبل بين البلدين، مؤكدة أنها سترد بصرامة على أي أعمال استفزازية في تلك الجزر.

فيما أشارت روسيا إلى أن اليابان باتت الآن بعد تبنيها استراتيجية دفاعية جديدة على طريق حشد غير مسبوق للقوة العسكرية، محذرة من أن عودتها إلى “العسكرة الجامحة” ستثير حتما تحديات أمنية جديدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، مؤكدة أن اليابان بدأت بالفعل في تعزيز “غير مسبوق” لقواتها العسكرية بما في ذلك اكتساب إمكانات هائلة، مشيرة إلى أن حكومة فوميو كيشيدا مستعدة للذهاب إلى أبعد بكثير من الخطط المعلنة، والاندماج بإحكام في الألعاب الجيوسياسية الأميركية حسب وصفها.

وختامًا:

إن تزايد التحديات الاستراتيجية وغير المسبوقة قد ضغطت على اليابان لتغيير استراتيجيتها الدفاعية وزياردة إنفاقها العسكري، والتي بالتأكيد سوف تؤثر على نشاطها ونموها الاقتصادي، إلا أن الضغوطات الداخلية والمؤثرات الخارجية قد أجبرتها على اتخاذ تلك الخطوة، وذلك على غرار زيادة الإنفاق العسكري الذي أعلنته ألمانيا كرد فعل على الحرب الروسية في أوكرانيا والذي طالت تداعياته القارة الأوروبية.

إن اليابان والتي عانت في نهاية الحرب العالمية الثانية من أضرار مدمرة نتيجة قصفها لأول مرة في التاريخ بقنابل ذرية، تدرك جيدًا عواقب استخدام القوة العسكرية، بالتالي هي تؤكد أنها لن تلجأ إلى استخدامها إلا في إطار وقائي فقط للحفاظ على أمنها ومصالحها القومية، خاصة في ظل ارتفاع التصعيدات العسكرية في المنطقة.

لكن بهذه الاستراتيجية الجديدة أنهت اليابان عقودًا من تبني سياسة التعايش السلمي، والالتزام بعدم امتلاك قوة عسكرية، وهو إما أن يساعد على الوصول إلى حالة من توازن القوى فيساعد على السلام واستقراره، أو أن يزيد من التوترات والتصعيدات في المنطقة.

المصادر:

“تحوّل تاريخي: سعي استراتيجية الأمن القومي اليابانية لمواجهة تهديدات الصين”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 28/12/2022، متاح على: https://bit.ly/3WxR1pS.

“اليابان تكشف عن استراتيجية دفاعية “غير مسبوقة” وكوريا الجنوبية تحتج على أحد بنودها”، الجزيرة نت، 16/12/2022، متاح على: https://bit.ly/3J82xVY.

تولغا ساكمان، “في 3 أسئلة.. استراتيجية الدفاع اليابانية الجديدة”، وكالة الأناضول التركية، 20/1/2023، متاح على: https://bit.ly/3J9n2BB.

طارق إبراهيم ثابت، “السياسة الدفاعية لليابان وتأثيرات الدور الأمريكي”، مجلة آفاق سياسية العدد23، المركز العربي للبحوث والدراسات، نوفمبر 2015، ص42-44.

السيد صدقي عابدين، “التوجهات العسكرية تتغير.. السياسة الدفاعية اليابانية الجديدة”، مجلة السياسية الدولية العدد 84، أبريل 2011، ص146-148.

Sheila A Smith, “Japan doubles down in defense of post-war order”, 5/9/2022, Asia times, Available: https://bit.ly/3kCEPap

Daniel Darling, “Japan Prepares for a New Era in Defense Approach and Investment”, DSM.forecast international, 12/12/2022, Available: https://bit.ly/3Wzi2cJ

كلمات مفتاحية