مصطفى أحمد مقلد
مقدمة:
شهدت القارة الأفريقية مع اندلاع الحرب الأوكرانية، مزيدًا من الاهتمام العالمي، على الصعيد الدبلوماسي، فقد شهدت القارة جولات مُكثَّفة من «القادة الغربيين، وروسيا، والصين»؛ حيث سعت تلك الأطراف لتأمين الدعم السياسي من القارة الأفريقية، التي تضم 54 دولةً؛ ما يمثل ربع الكتلة التصويتية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتأثَّرت القارة بشدة من تداعيات الحرب؛ ما يجعلها مستعدةً لاتخاذ خطواتٍ إيجابيةٍ، في مقابل الحصول على دعْمٍ اقتصاديٍّ من القُوَى الكُبْرى، بذلك تحوَّلت أفريقيا إلى ساحةٍ للتنافُس الدبلوماسي بين الغرب من جهةٍ، و«روسيا، والصين» من جهةٍ أخرى؛ فمصالحهما لا تتعارض إلى حدٍّ كبيرٍ هناك، هذا مع وجود أطراف أُخرى شرعت في بناء نفوذها في القارة.
والنقاش حول التنافس «الجيوسياسي» في القارة متجددٌ؛ إذ تشهد عبارة “التنافس الجديد على أفريقيا” زَخَمًا كبيرًا، وفي السنوات الخمس الماضية، هناك الكثير من السياسات تُركِّزُ على ذلك التوجُّه، غير أنها تُركِّز على مصلحة الأطراف الكُبْرى، وكثير منها يتجاهل أهم لاعبٍ في هذه اللعبة: «الأفارقة» أنفسهم.
تأثير سياسات القوى الكبرى:
عرقلت الحرب الروسية في أوكرانيا التعافي الواعد لأفريقيا من وباء «COVID-19»، من خلال رفْع أسعار الغذاء والوقود، وتعطيل تجارة السلع والخدمات، وتشديد السياسات المالية، وتقييد التحوُّلات الخضراء، وتقليل تدفُّق تمويل التنمية في القارة؛ ما أدى إلى “أحد أكثر الآثار الضارة” للحرب في أوكرانيا، وهو “التضخُّم المستورد”.
كذلك على مدى عقود، لم يكن تخصيص التمويل الخارجي لقطاعات الإنتاج في أفريقيا، بما في ذلك الصناعة والزراعة من جميع المصادر محوريًّا، ويرجع ذلك بشكلٍ خاصٍّ إلى السياسات التي يتبعها عديدٌ من البلدان الأفريقية، لا سيما تحت وطْأة برامج التكيُّف الهيكلي ومبادرات الحدِّ من الفقر، فقد أدَّت السياسات المفروضة من الخارج إلى تقليص دور الدولة في التنمية الصناعية بشكلٍ كبيرٍ، بالتالي، أدى الدور المتناقص للاستثمار العام في قطاع الصناعة إلى تراجُع التصنيع المُبكِّر في أفريقيا، كما يتضح من عدم وجود تحسُّنٍ في القيمة المضافة للصناعات التحويلية، ومُكوِّن التغيير الهيكلي لمؤشر القدرات الإنتاجية.
زيارات القادة:
بين يونيو وأغسطس 2022، زار القارة الأفريقية المستشار الألماني “أولاف شولتز”، والرئيس الفرنسي “ماكرون”، ووزير الخارجية الأمريكي “بلينكن”، وفي وقتٍ سابقٍ من العام، أجرى الرئيس التركي، مكالمات لثلاث عواصم أفريقية، كما عقد الرئيس الأمريكي، في ديسمبر الماضي، قمة أمريكية أفريقية، هي الأولى منذ عام 2014، وحضرها أكثر من 40 من قادة الدول والحكومات.
أجرى وزير الخارجية الروسي، ثلاث جولات أفريقية منذ اندلاع الحرب، في «يوليو 2022، ويناير 2023، وفبراير 2023»، إضافةً إلى جوْلة وزير الخارجية الصيني “تشين جانغ”، في القارة في يناير 2023، والتي شملت دول «مصر، وإثيوبيا، وأنجولا، والجابون، وبنين».
شهدت تلك الزيارات المُكثَّفة مزيجًا من الضغوط والمُحفِّزات؛ في سبيل خلْق حالةٍ من الاصطفاف للحكومات الأفريقية، وراء كُلِّ طرفٍ؛ بهدف تعزيز موقفه في ساحة الأمم المتحدة، وكذلك أمام الرأي العام العالمي، والمثال الأبرز على ذلك؛ هو زيارة وزير خارجية أوكرانيا لأفريقيا، وهي الأولى من نوعها، في أكتوبر 2022، والتي شملت دول «السنغال، وكوت ديفوار، وغانا، وكينيا»؛ حيث لمّحَ لإمكانية توريد المزيد من الحبوب والقمح إلى الدول الأفريقية؛ في محاولةٍ لاستمالتها.
تعهدات:
أعلنت فرنسا عن إستراتيجيتها الجديدة تجاه أفريقيا، وتحاول الدخول من البوابة الاقتصادية، ذات الأهمية الكبرى للدول الأفريقية، تحت عنوان «إستراتيجية للسيادة الغذائية»، وهو خطابٌ جديدٌ يعكس أولويات مختلفة تناسب الأولويات الأفريقية؛ من أجل إعادة صياغة العلاقات على أُسسٍ جديدةٍ وأكثر صلابة، دون أن يعني ذلك، أن فرنسا بصدد التخلِّي عن أهدافها في القارة.
وفي القمة «الصينية – الأفريقية» التي عُقِدَتْ في نوفمبر من عام 2021، حزمت «بكين» نحو 40 مليار دولار؛ للمساعدة مختلفة الأوجه والأشكال لأفريقيا، كما توصَّلت القمة التي جمعت منظمتيْ «الاتحاد الأوروبي، والوحدة الأفريقية»، في فبراير 2022، إلى بلْورة أُسسٍ وأهدافٍ لشراكةٍ جديدةٍ، أكثر شمولية عما كان قائمًا، وجاءت قمة «تيكاد» التي ضمَّت «اليابان، والدول الأفريقية»، والتي التزمت خلالها اليابان، بتوفير مساعدات في إطار الشراكة مع أفريقيا، بحدود الـ30 مليار دولار للدول الأفريقية، في سياق هذا التوجُّه التنافسي الجديد في أفريقيا بين القوى الدولية.
وجاءت القمة «الأمريكية – الأفريقية»، في شهر ديسمبر الماضي؛ لتعطي دفعة جديدة للتعاون «الأمريكي – الأفريقي»؛ حيث خصَّصت «واشنطن» مبلغًا بحدود الـ55 مليار دولار؛ لدعْم الأولويات في التعاون المشترك بين «الولايات المتحدة، وأفريقيا» في العقود المقبلة.
تعهُّدات القوى الكبرى تحمل شعارات الإنماء والتنمية غير أنها تنطوي في المقام الأول على مصالحها القومية دون اهتمامٍ كبيرٍ بمصالح الدول الأفريقية، ويتجلي ذلك في موضوعات ثلاث:
1) التغيُّر المناخي:
حمل مؤتمر “كوب 27″، رفْض بلْورة طريقة للاتفاق على تخفيض انبعاث الغازات الملوثة للبيئة، والتي تسهم في تغيُّر المناخ، من خلال التسبُّب بالمشكلة المتفاقمة للاحتباس الحراري، فالبلدان المسؤولة عن انبعاثات مرتفعة من الغازات الدفيئة أضعفت الالتزامات، ليس فقط تلك المتعلقة بوضْع حدٍّ لاستخدام الوقود الأُحْفُوري، بل حتى فكرة التخلُّص التدريجي من هذا الوقود المُلوَّث على الإطلاق.
وقبل اتفاق الدول التي شاركت في مؤتمر المناخ “كوب 27″، على إنشاء صندوق “الخسائر والأضرار” المناخية؛ لدعْم الدول الفقيرة المتضررة من تغيُّر المناخ؛ ما يمثل آليةً ماليةً جديدةً؛ لمعالجة قضية الخسائر والأضرار، فإن الدول المتقدمة قاومت المُضي قُدُمًا في هذا النقاش على مدى سنوات عديدة.
وبعد مفاوضاتٍ مضنيةٍ، نصَّ الاتفاق على أن صندوق الخسائر والأضرار سوف يساعد “الدول النامية المُعرَّضة بشكلٍ خاصٍّ لمواجهة التداعيات الخطيرة؛ الناجمة عن ظاهرة تغيُّر المناخ”، تاريخيًّا؛ تتحمل البلدان المتقدمة المسؤولية الأكبر عن الانبعاثات؛ المُسبِّبة لما يُعرف بـ«الاحترار العالمي»، ويدعو اتفاق صندوق الخسائر والأضرار، إلى إطلاق وِرَش عمل العام المقبل؛ للتباحث حيال آلية عمل الصندوق.
وللمضي قُدُمًا في مناقشة تفاصيل الصندوق وآلية تنفيذه، على البلدان المتقدمة الوفاء بالتعهُّد الحالي، البالغ 100 مليار دولار سنويًّا؛ لدعم البلدان ذات الدخل المنخفض؛ لتنفيذ سياسات خفْض الكربون، ورفع مستوى مرونتها، في مواجهة تأثيرات المناخ، عليهم أيضًا؛ تنفيذ التزامهم بمضاعفة التمويل المخصص للتكيُّف، وهو ما لم يُحْدِث تقدُّمًا في شأنه حتى الآن.
2) معالجة الديون:
أدَّت العواقب الاقتصادية لوباء «COVID-19» والغزو الروسي لأوكرانيا، إلى تقويض قدرة العديد من الدول الأفريقية على خدمة ديونها السيادية، وفي الوقت الحاضر، يعاني 22 من البلدان الأفريقية المنخفضة الدخل، من ضائقة ديون بالفعل، أو معرضة بشدة لضائقة الديون، ويُمثِّل المُقْرِضُون الصينيون 12% من الدين الخارجي لأفريقيا؛ فالصين دائن رئيسيٌّ للعديد من الدول الأفريقية، لكن إقراضها انخفض في السنوات الأخيرة، ومن المتوقع أن يتراجع؛ ما يحُدُّ من قدرة الدول الأفريقية على جمع التمويل اللازم؛ لتقديم تحسينات اجتماعية أوسع لسكانها، والاستجابة لتغيُّر المناخ.
الصين لم تتسبب في أزمة الديون الأفريقية في معظم الحالات، لكنها أساسية لإيجاد حلٍّ، وعلى الرغم من التوتُّرات «السياسية، والاقتصادية» المتزايدة، فإن لـ«الصين، والغرب» مصلحة متبادلة قوية في التعاون مع بعضهما، ومع الدول والمؤسسات الأفريقية؛ لمواجهة تحدي أزمة الديون.
في بعض الحالات، أظهرت الصين مرونةً، فقد وافقت «بكين» مرتيْن على إعادة هيكلة الديون المستحقة على جمهورية الكونغو، في عام 2019، ومرةً أُخرى في عام 2021، على الرغم من أن ذلك جاء بسعرٍ مع زياداتٍ في صافي القيمة الحالية للمدفوعات الناتجة عن إعادة الهيكلة.
ومع ذلك، فإن ضعْف التنسيق بين مؤسسات الإقراض الصينية، وتفضيلها للحد الأدنى من الشفافية في عقود القروض، وعدم اهتمامها بترتيبات الحكم المحلي، كان من العوامل المساهمة في أزمة الديون.
كذلك واجهت أفريقيا انخفاض عائدات التجارة والضرائب، حتى مع إجبار البلدان على الإنفاق على شبكات الأمان الاجتماعي، فبات يُطْلَبُ من البلدان، أن تنفق أكثر مع دخول أقل، بعد أن اتجهت تلك الدول للمؤسسات المالية الدولية، بالتالي، زادت المديونية العامة في جميع أنحاء أفريقيا، وفي الوقت نفسه، أدَّى خفْض التصنيف الائتماني إلى زيادة تكاليف الاقتراض بالنسبة للبلدان الأفريقية؛ حيث تقترض أفريقيا بتكلفة أعلى بكثيرٍ من بقية العالم.
إن الوضع العام للديون السيادية في أفريقيا خطير، ويبدو أنه سيزداد سوءًا؛ فالخلافات الفنية والإرادة السياسية المحدودة للتغلُّب عليها، بين «الصين، والحكومات الغربية، والقطاع الخاص»؛ تعني أن الآلية الرئيسية لتخفيف عبْء الديون على المستوى متعدد الأطراف – الإطار المشترك – تتقدم ببطءٍ شديدٍ.
3) مجال الطاقة الأفريقية:
مهَّدت الحرب الأوكرانية الطريق أمام الدول الأفريقية؛ لكسْب المزيد من النفوذ في سوق النفط والغاز العالمي، وذلك في ضوْء تزايُد الطلب على الطاقة في العالم، والذي لعب دوْرًا في ارتفاع أسعار النفط؛ ما ترتب عليه تزايُدًا، فإن النفط الأفريقي اكتسب أهميةً إستراتيجيةً خلال الفترة الأخيرة.
فمثلًا؛ بات الغاز الجزائري في دائرة الضوْء بعد التغيُّرات «الجيوسياسية» العالمية؛ الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، وتفاقم أزمة الطاقة في أوروبا، ووقَّعت «إيطاليا، والجزائر» مذكرات تفاهُم في قطاع الطاقة، ويمكن للدول الأوروبية التنسيق فيما بينها لتحويل بعض الغاز الجزائري المتجه إلى إيطاليا؛ وبذلك تتاح الفرصة لإيطاليا لتحقيق استفادةٍ من الغاز الجزائري المنقول عبر خطوط الأنابيب، ومن ثمَّ؛ يُمْكِنُها تقليل اعتمادها على الغاز الروسي، وكذلك التحوُّل لمركزٍ لتداول الغاز في أوروبا.
في إقليم آخر، تواجه الدول الأفريقية تحديات لزيادة إمداداتها في سوق النفط، في منطقة غرب أفريقيا، مثلًا؛ تبْرُزُ نيجيريا كوجهةٍ مهمةٍ لتصدير النفط، لكن على مدى السنوات الثلاث الماضية، انخفضت صادرات النفط الخام النيجيرية إلى النصف؛ بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج، وانعدام الأمن، والمشكلة المزمنة لسرقة النفط من خطوط الأنابيب، الذي أعاق القطاع في السنوات الأخيرة، بالإضافة لذلك، فإن شركات النفط الكبرى لا تستثمر في العرض النيجيري، وقد باعت العديد من الشركات الأجنبية أصولًا، أو أشارت إلى أنها ستواصل تصفية الاستثمارات في صناعة النفط النيجيرية.
وهو ما لم تقُمْ أوروبا – أو غيرها من القوى الكبرى- حياله بخطوات؛ لمواجهة تلك التحديات تحت شعارات التنمية.
حلول:
1) إعادة صياغة تمويل التنمية، وإعادة التفكير في هيكل التمويل العالمي، من خلال تعزيز تعبئة الموارد المحلية؛ حتى تتمكَّنَ أفريقيا من الاحتفاظ بحصة أكبر من قيمة مواردها «المعدنية، والزراعية، والبشرية الإستراتيجية»، ويمكن تحقيق ذلك، عن طريق خفْض ما يقرب من 90 مليار دولار من التدفُّقات غير المشروعة من القارة، عن طريق تحسين الجهد الضريبي في أفريقيا، ورفْع متوسط الضرائب إلى نِسَبِ الناتج المحلي الإجمالي من 17.5% الحالية إلى 24%، وإلغاء الإعفاءات الضريبية غير الضرورية للشركات الكبيرة.
2) دعم المبادرات التي تُمَكِّن أفريقيا من الاستفادة الكاملة من ثرواتها من الموارد الطبيعية، والاستفادة من آليات التمويل الصديقة للكوكب، والتركيز على الاستثمار الحسَّاس لمخاطر المناخ، كما أن أفريقيا وشركاءها في التنمية، بحاجةٍ إلى الاستثمار في «الأمن الغذائي، والوقود، وزيادة القدرة الإنتاجية، وزيادة القيمة المضافة للصناعات التحويلية والصادرات».
3) إعطاء الأولوية للتحوُّل الهيكلي والتكامل الإقليمي؛ فأفريقيا بحاجةٍ إلى تسخير التقنيات الرقمية، وتعزيز المنافسة الحرة والعادلة على الصعيد العالمي، وتكثيف الدعم للتكامل الإقليمي، والتنويع الاقتصادي، وتعبئة الموارد؛ لسد الفجوات الحَرِجَة في التكنولوجيا والمهارات والبنية التحتية.
4) ينبغي أن يكون التوجُّه الإنمائي العام لأفريقيا، هو الانسحاب التدريجي من الاعتماد على المصادر الخارجية لتمويل التنمية؛ إذ إن الاعتماد المتزايد لأفريقيا على التمويل الخارجي للتنمية سيستمر في استدامة التدخُّلات السياسية؛ ما يجعل التقدُّم «الاجتماعي، والاقتصادي» غير مستقر، وعُرْضَةً لمختلف الصدمات السلبية.
ختامًا:
برزت أفريقيا بعد الحرب الأوكرانية كساحةٍ شديدة الأهمية، تتنافس عليها القوى الكبرى «دبلوماسيًّا، وإستراتيجيًّا»، غير أن تلك العلاقات بين «القوى الكبرى، وأفريقيا» تقوم على أساسٍ غير متوازنٍ، يغْلُب عليه “الاستفادة دون الإفادة”، وهو ما يتجلَّى بإعطاء تعهُّداتٍ إنمائيةٍ كبيرةٍ، تجْذِبُ الدول الأفريقية للاصطفاف وراء القُوَى الكُبْرى، في تنافُسها بيْن بعضها، لكن واقعيًّا؛ تظلُّ الخطوات الفعلية لتنفيذ التعهُّدات “متواضعة”، ومع ذلك، هناك طُرُق يمكن من خلالها دعْم قدرات أفريقيا، دون أن يُمثِّلَ ذلك عبئًا على الدول المتقدمة، غير أن ذلك يتوقف على جِدِّيَّتها في مساعدة أفريقيا.