إعداد/ جميلة حسين محمد
نشأت بين الاتحاد الأوروبى وجمهورية الصين الشعبية عدة علاقات فى مجالات السلام والازدهار والتنمية المستدامة والتبادلات التجارية وغيرها، ويعتبر الاتحاد الأوروبى أكبر شريك تجارى للصين، وتعد الصين بالنسبة للاتحاد الأوروبى خصمًا منهجيًا بمعنى أنها شريك ومنافس اقتصادى بصورة عامة، وذلك اعتبارًا من مارس 2019.
ووفقًا لما أشارت إليه صحيفة “Politico” فى عام 2021 بأن الصين تصنف كشريك رئيسى للاتحاد الأوروبى فى تجارة السلع، حيث بلغت صادراتها أكثر من 10% أما وارداتها فأكثر من 22%، كما أكدت أنه لا توجد دولة فى الاتحاد الأوروبى تعتبر التجارة فيها مع الصين غير مهمة.
ومن منطلق أن العلاقات الدولية تمر بمنحنيات للصعود والهبوط بين الحين والآخر وفقًا للظروف المحيطة بالمجتمع الدولى والقضايا المستحدثة حول العالم بما يتفق أو يعارض مصلحة أى من الأطراف الدولية، نجد العلاقات الأوروبية الصينية مؤخرًا تمر بتلك الحالة إلى أن وصلت لحد الانقسام الأوروبى تجاه إستراتيجية التعامل مع الصين؛ فما هو الموقف الأوروبى تجاه الصين؟ وما أهم القضايا الشائكة بينهما؟ وأخيرًا ما مرجعية الخلافات بين الطرفين؟
الموقف الأوروبى تجاه الصين
تتصف العلاقات الأوروبية الصينية بالعلاقات الطويلة والمتبادلة، ويعطى الاتحاد الأوروبى أهمية كبيرة لمكانة الصين كقوة مهمة فى العالم وشريك لمعالجة قضايا عالمية، كمكافحة التغير المناخى وضمان حقوق الإنسان والسلام والاستقرار والتنمية، ويؤكد دومًا التزامه بمبدأ “صين واحدة” وذلك وفقًا للرؤية الإستراتيجية الأوروبية تجاه بكين لعام 2020، كذلك يعتبر الاتحاد الصين نافذة نحو الدول الآسيوية فى عدة مجالات كالنقل والطاقة والاتصال الرقمى لتطويرها وتوفير سبل التعاون بشكل متبادل بينهم.
من ناحية أخرى، فإن الصين تتعامل مع الاتحاد الأوروبى كشريك فى الجوانب التجارية والمالية والاقتصادية بشكل عام، وفى هذا الإطار أشارت مجلة ” The Diplomat ” إلى تقرير عن الرؤى السياسية الخارجية الشاملة للزعيم الصينى الحالى (شى جين بينغ) حول كيفية التعامل مع الاتحاد الأوروبى مكونة من 3 ركائز أساسية وهم:
- اعتبار الاتحاد الأوروبى قطبًا حيويًا يمكن أن يقف بشكل مستقل فى نظام الهيمنة متعدد الأقطاب بعد الولايات المتحدة.
- اعتبار الاتحاد الأوروبى شريكًا تجاريًا واقتصاديًا وماليًا فعالًا للصين، بحيث يعمل على استيعاب الجزء الأكبر من الصادرات الصينية، و تظل أوروبا شريكًا رئيسيًا فى توجيه النمو للصين.
- النظر إلى أعضاء داخل الاتحاد الأوروبى كقوة حاسمة ضد الولايات المتحدة، وكذلك العمل مع الدول التى تتعامل ببراغماتية من أجل الدفاع عنها ضد الانتقادات التى يتم توجيها إلى بكين فى أوروبا.
وقد أكد الرئيس الصينى ضرورة تعزيز الأسواق الصينية الأوروبية لتطوير التنمية المشتركة بين الطرفين وتعميق العولمة الاقتصادية، مع ترحيبه بالاسثمارات التجارية الأوروبية، وكذلك ترحيبه بدعم التنمية العالمية للاتحاد الأوروبى ومشاركته فيها، والعمل معًا كشريكين فى مواجهة التحديات العالمية كتحدى التغير المناخى وخطر جائحة كورونا.
قضايا شائكة
يوجد عدد من القضايا المهمة التى تؤثر على العلاقات بين الجانب الأوروبى وبكين، يمكن ذكر أهمها فيما يلى:
جائحة كورونا
تنظر بعض دول الاتحاد الأوروبى فى الطريقة غير الشفافة التى تعاملت بها بكين مع تفشى فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19″، بشأن بيانات الإصابات وخطر ظهور متحورات جديدة ومسؤوليتها عن انتشار الوباء فى العالم، وعليه فرضت دول الاتحاد بعد اجتماع لمسؤولى الصحة فى الاتحاد حزمة إجراءات احترازية وصارمة تجاه الوافدين من الصين.
مسلمى الإيغور
الانتهاكات التى قامت بها ضد أقلية مسلمة تدعى الإيغور فى “إقليم شينغيانغ” حيث تم احتجازهم فى معسكرات فى الإقليم، وتعرضوا إلى التعذيب والإجبار على العمل الشاق بهدف طمس هويتهم، بم يعد انتهاكًا صريحًا لحقوق الإنسان وللنموذج القيمى الأوروبى المستند على إعلاء قيمة حقوق الإنسان، وعليه فرض الاتحاد عقوبات ضد 4 مسؤولين صينيين علاوة على هيئة حكومية.
الملف الروسى الأوكرانى
رأت بعض الدول الأوروبية ظهور حزب صينى روسى فى مقابل الولايات المتحدة وأوروبا يدعم أوكرانيا، وتخشى بعض الدول من أى محاولات قد تقدمها الصين إلى روسيا فى الحرب نظرًا لعلاقتهم الوثيقة، ولكن تجزم الصين بعدم مبادرتها فى تقديم أسلحة لروسيا حتى لا يؤثر ذلك على مصالحها الإستراتيجية من جانب آخر وفق ما نفاه وزير الخارجية الصينى (تشين غانغ) الأسبوع الماضى، بالإضافة إلى محاولتها الرامية للتوصل إلى تسوية سياسية تجاه الأزمة الأوكرانية، حيث نشرت وزارة الخارجية الصينية فى فبراير الماضى وثيقة تشمل 12 بندًا تضمن الدعوة لوقف إطلاق النار، واحترام المصالح المشروعة لجميع الدول فى مجال الأمن، وتبادل أسرى الحرب بين “موسكو وكييف”، وتسوية الأزمة الإنسانية فى أوكرانيا، و رفض فرض عقوبات أحادية الجانب دون قرار بهذا الشأن صادر عن مجلس الأمن الدولى، ودعت الأطراف لدعم “موسكو وكييف” للتحرك تجاه بعضهما البعض.
مرجعية الخلل فى العلاقات
حقيقة الأمر الموقف الأوروبى لم يكن موحدًا بشكل كافٍ من أجل اتخاذ قرارات واضحة مع جمهورية الصين الشعبية، فمنذ عام 2020 انقسم الأوروبيون حول كيفية التعامل مع الصين إلى فريقين؛ أحدهما يرى الحد من القوة الصينية الصاعدة على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية، وتعزيز التعاون مع واشنطن، فى حين رأى الفريق الآخر ضرورة التعاون مع الصين من أجل التعامل مع التحديات العالمية.
وعلى الرغم من توقيع الاتفاقية الشاملة للاستثمار بين الاتحاد الأوروبى والصين فى ديسمبر 2020 والتى تتيح للشركات الأوروبية الوصول إلى الأسواق الصينية، وكذلك تعزيز الاستثمارات الصينية فى أوروبا، والتى من المفترض أن يتم التصديق عليها من جانب حكومات الاتحاد الأوروبى والبرلمان الأوروبى وتدخل حيز النفاذ فى 2022، إلا أنه تم تجميدها بسبب معارضة بعض أعضاء البرلمان الأوروبى وتخوفهم من ما أطلق عليه البعض “التحول الاستبدادى” للنظام الصينى.
وبدأ الاتحاد الأوروبى فى اتخاذ موقف تشددى فى عام 2021 أثناء فرضه عقوبات على الصين بسبب الانتهاكات التى واجهت “مسلمى الإيغور”، وقد قابلت الصين ذلك من خلال فرض عقوبات على مسؤولين فى البرلمان الأوروبى، كذلك إعلان الاتحاد الأوروبى فى 5 مايو لعام 2021 خطة خفض الاعتماد على صادرات كالمواد اللخام، ومكونات العقاقير، وأشباه الموصلات من بعض الدول من ضمنهم الصين، من أجل تنويع مصادر المنتجات الحيوية للاتحاد الأوروبى.
ومن منطلق التخوف من التقارب الصينى الروسى وتأثيره على العلاقات الأوروبية الصينية لإحجام الصين عن إدانة غزو روسيا لأوكرانيا، عُقدت قمة افتراضية فى أبريل الماضى بين الرئيس الصينى “شى جينبينغ” ورئيس المجلس الأوروبى “شارل ميشال” ورئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لايين”، وقد دعا الاتحاد الصين خلال القمة لعدم التدخل من أجل مساعدة روسيا.
فمنذ بداية الحرب يحذر الاتحاد الصين من فرض عقوبات عليها فى حال تزويدها لروسيا بالأسلحة وتقديم دعم علنى لروسيا فى أوكرانيا، وواقع الأمر أن الصين ترى فى دول الاتحاد إزدواجية فى المعايير، لأن الاتحاد يرسل الإمدادات والأسلحة إلى “كييف”.
وفى شهر أكتوبر الماضى أثناء قمة “زعماء التكتل” أعربوا عن قلقهم بشأن الاعتماد على الصين باعتبارها منافس يعمل من أجل رؤية بديلة للنظام العالمى الحالى، والنظر إلى إعادة التوازن بين الصين والاتحاد الأوروبى، وقد صرحت رئيسة المفوضية الأوروبية فى هذا الشأن قائلة “يجب أن نكون يقيظين للغاية عندما يتعلق الأمر بالتبعية، وقد تعلمنا الدرس بشأن ما يتعلق بالاعتماد المفرط للغاز من روسيا، ومدى صعوبة التخلص من هذه التبعية، ومن الضرورى فى حالة الصين التخلص من مخاطر الاعتماد على المواد الخام والتكنولوجيا، ومن ثم فإن الأولويات فى تعزيز قدراتنا الخاصة وتنويع توريد المواد الخام.
وعليه أكد رئيس المجلس الأوروبى “شارل ميشيل” أن أوروبا ستتعامل مع الصين وفق مبدأ عدم التساهل فى العلاقات وكذلك المحافظة على مبدأ التعامل بالمثل، فى مقابل ذلك دعت الصين دول الاتحاد الأوروبى إلى وضع تصور خاص بإستراتيجية التعامل معها مع تأكيدها أنها ليست طرفًا فى الأزمة الروسية الأوكرانية.
وتطور الأمر الأسبوع الماضى إلى ظهور انقسام داخل الاتحاد الأوروبى بشأن إستراتيجية التعامل مع الصين، جاء فى إطار ضغوط من الجانب الأمريكى من أجل اتخاذ موقف أكثر تشددًا تجاه النفوذ الصينى لتزايد حجم حصص بكين فى أوروبا خاصة الحصص التى تمتلكها فى عدد الموانئ فى القارة الأوروبية.
وينقسم الاتحاد ما بين طرف يدعو إلى اتخاذ موقف تشددى كالولايات المتحدة بسبب تخوفهم من تبعيتهم بالاقتصاد الصينى وتؤيده رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين”، والطرف الآخر يدعو إلى اتخاذ موقف أقل حدة من الموقف الأمريكى، ويؤكد عدم التبعية ولكن يرفض الفصل التام عن الصين كدول مثل ألمانيا وفنلندا وأستوانيا واليابان والمجر، ويؤيده أيضًا رئيس المجلس الأوروبى “شارل ميشيل”، فدولة كألمانيا تعتبر من الدول التى تواجه خسارة من هذه الأزمة بسبب إمداد الغاز من روسيا مما جعلها تواجه أزمة طاقة غير مسبوقة وحالة ركود أثرت بشكل كبير على اقتصاد أوروبا، الأمر الذى جعلها تلجأ لفتح طرق تجارية بديلة مع اقتصادات أخرى كالصين لزيادة مواردها المالية، فصادرات الأخيرة مرتبطة بشكل كبيرمع ألمانيا، وقد جاء هذا الانقسام قرب القمة السنوية المقبلة بين الاتحاد الأوروبى والصين ، تلك القمة التى تعقد بين الطرفين السابق ذكرهم من أجل مناقشة العلاقات السياسية والاقتصادية كذلك القضايا العالمية والإقليمية.
مما سبق؛ على الرغم من طبيعة الخلافات التى نشأت بين الجانب الأوروبى والجانب الصينى والتخوف من تبعية بروكسل لبكين، إلا أن فكرة خروج الاتحاد من بؤرة الصين والاستقلال عنها بشكل تام فكرة معقدة وغير مقبولة على أرض الواقع، ولكن ستظل هذه العلاقة مستمرة وفق إستراتيجية تسمح للدول الأوروبية التحرك للحفاظ على وضعها الاقتصادى، مع محاولات التقليل من هذا التبادل والتنسيق من أجل إيجاد بدائل وتعويض الدور الصينى فى بعض القطاعات من ناحية، ومن ناحية أخرى تحقيق استقلالية فى القرارات السياسية والاقتصادية فى مواجهة الهيمنة الأمريكية بما لا يتعارض مع المصالح المشتركة، أما بالنسية للصين فعليها أن تتخذ موقفًا حاسمًا تجاه الحرب الروسية الأوكرانية، حتى لا تخسر الأسواق الأوروبية مع زيادة التوتر بينها وبين الغرب، ولعل زيارة الرئيس الصينى لموسكو هذا الأسبوع لتعزيز التنسيق الإستراتيجى، ومناقشة عدة قضايا على رأسها الأزمة الأوكرانية، ستوضح موقف الصين ومدى إمكانية لعبها دور فعال كدولة راعية للسلام.