إعداد : شيماء عبد الحميد
في خطوةٍ جديدةٍ على طريق عودة العلاقات إلى طبيعتها بين «تركيا، ومصر»، زار وزير الخارجية التركي، مولود تشاوش أوغلو، العاصمة المصرية «القاهرة»، يوم 18 مارس الجاري، والتي تُعتبر الزيارة الأولى، منذ عام 2013، وخلال الزيارة، التقى نظيره المصري، سامح شكري؛ حيث عقدا جلسة مباحثات، تناولت أبرز القضايا العالقة بين البلديْن، وسُبُل عودة العلاقات بينهما لمسارها الطبيعي، وخلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب جلسة المباحثات؛ أكد «تشاوش أغلو»، على وجود إرادة سياسية من جانب بلاده للمصالحة مع الدولة المصرية، مُقِرًّا بدورها «الإقليمي، والدولي» المهم، وقد أثارت هذه الخطوة تساؤلًا أساسيًّا، مفاده؛ ما هي السيناريوهات المحتملة لمستقبل العلاقات «المصرية – التركية»، وما هي ارتدادات هذه الزيارة على الملفات العالقة بين الدولتيْن؟
دلالات وتأويلات الزيارة:
تحمل زيارة وزير الخارجية التركي إلى مصر العديد من الدلالات؛ حيث تكْمُنُ أهميتها؛ كوْنها تُعدُّ استكمالًا للقاء الذي جمع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على هامش حفل افتتاح كأس العالم، بقطر، في نوفمبر 2022، والذي كان بمثابة الحجر الذي حرَّك مياه التقارُب الراكدة، بعد توقُّف المحادثات الاستكشافية، التي انطلقت في مايو 2021، وفيما يلي أبرز تأويلات الزيارة:
أولًا: فعالية دبلوماسية الزلزال:
رغم الجمود الذي شاب المباحثات الاستكشافية بين البلديْن، بادرت مصر بمبادرة إنسانية، عُرفت بـ«دبلوماسية الزلزال»؛ حيث وجَّه الرئيس عبد الفتاح السيسي، بإرسال 4 طائرات نقل عسكرية من قاعدة «شرق القاهرة»، مُحمَّلةً بالمساعدات لدعْم الشعب التركي، كما جمع اتصال هاتفي رئيسيْ الدولتيْن، فيما قام وزير الخارجية المصري، بزيارة غير مسبوقة إلى مدينة «أضنة» التركية، التقى فيها بنظيره التركي، وبدا من هذه الزيارة، أن تعثُّر المحادثات لم يمنع مصر من الانفتاح بشكلٍ كبيرٍ على تركيا من الزاوية الإنسانية، وقد كان لهذه الزيارة عنوانان رئيسيان؛ الأول: هو إظهار التضامن والمواساة المصرية للقيادة والشعب التركي، إزاء كارثة الزلازل، وما ترتب عليها من أعباء إنسانية، والثاني: يتعلق بإمكانية أن تكون هذه الزيارة بمثابة انطلاقةٍ جديدةٍ للعلاقات الثنائية بين الجانبيْن.
وعلى الرغم من طغيان الطابع الإنساني لهذه الزيارة على أية اعتبارات أُخرى، فإن المؤتمر الصحفي الثنائي الذي عقده كُلٌّ من «أوغلو، وشكري» في مدينة «أضنة»، أظهر أن كُلًّا الجانبيْن، يرى في الظروف الراهنة والمبادرة المصرية الإنسانية، فرصةً يمكن البناء عليها؛ لكسر الجمود الذي شاب مسار تطبيع العلاقات بينهما، وبالتالي؛ ساعدت دبلوماسية الزلزال على تقريب المسافات بين البلديْن، وتعتبر زيارة وزير الخارجية التركي إلى مصر، انعكاسًا واستغلالًا للزَّخَمِ الناتج عن هذه الدبلوماسية.
ثانيًا: تحرُّكٌ مُهمٌّ في مسار عودة العلاقات:
حيث حملت الزيارة مجموعةً من التعهدات، بالعمل على استكمال مسار تطبيع العلاقات، وقد انعكس ذلك في تصريحات الجانبيْن؛ إذ أكد وزير الخارجية التركي، تشاووش أوغلو، أن الزيارة جاءت لأمريْن؛ عودة العلاقات بين البلديْن على مستوى السفراء، وتنسيق زيارة مرتقبة للرئيس التركي إلى مصر، مشيرًا إلى أن الزيارات بين الطرفيْن ستكون متواصلةً، وأن بلاده سترفع علاقتها مع مصر إلى مستوى السفراء، في أقرب وقتٍ ممكنٍ، فيما وصف «شكري» المباحثات التي جرت بـ«المهمة، والشفافة»، معربًا عن تطلعه إلى فتْح قنوات التواصُل بين الأجهزة الحكومية في «مصر، وتركيا».
وبناءً عليه؛ تؤكد الزيارة على انخراط البلديْن في تسوية الخلافات، وزيادة مساحات التفاهُم تجاه القضايا الخلافية، ومحاولة الوصول إلى نقاطٍ مشتركةٍ، فتبادل الزيارات «المصرية – التركية» على مستوى وزراء الخارجية، يشي بتسريع وتيرة التقارُب السياسي بينهما؛ لأن مستوى زيارات وزراء الخارجية، يسبقه خطواتٌ تمهيديةٌ عديدةٌ على مستوى التنسيق والتفاهُم بين الأجهزة المعنية، ومن ثمَّ، تعتبر الزيارة تحرُّكًا لافتًا، قد يقود إلى عودة العلاقات «سياسيًّا، ودبلوماسيًّا».
ثالثًا: انعكاس للمتغيرات «الإقليمية، والدولية»:
فهذه الزيارة تأتي في ظلِّ مجموعةٍ من التغيُّرات الجيوسياسية، التي تشهدها المنطقة، وتزامنًا مع مجموعةٍ من التحديات «الإقليمية، والدولية»، والتي من أهمها؛ مشكلات «الغذاء، والطاقة»، فضلًا عن المشكلات الاقتصادية في الدولتيْن، ومن ثمَّ؛ تعتبر التطورات السريعة بين «مصر، وتركيا» حصيلة اقتناع من جانبهما، بأن تصفية الخلافات بالطُّرُق الودية أجدى لهما، وأن استمرار الصدام سيكون مُضِرًّا لكلتيْهما.
وقد أكد نائب الرئيس التركي، فؤاد أقطاي، على هذه الفكرة؛ حيث علَّق على المصافحة التي تمَّت بين قائديْ البلديْن في قطر، بأن التحوُّلات الجيوسياسية الأخيرة في الشرق الأوسط، انعكست على مقاربات دول المنطقة، وأن بلاده ستمضي في مسار عودة العلاقات مع «القاهرة»، في إطار الإرادة المشتركة للجانبيْن، والمصالح المشتركة والاحترام المتبادل، ووفقًا لما تتطلبه مصالح الدولتيْن.
رابعًا: تعبير عن حالة الإنهاك السياسي التي تمُرُّ بها تركيا:
والتي دفعتها إلى تبنِّي مسار التهدئة، فيما عُرف بسياسة تصفير المشاكل، التي تبنَّتها «أنقرة» منذ النصف الثاني من عام 2020؛ فقد جاء الانفتاح التركي على مصر، ضمن تحوُّل في السياسة الخارجية، قاد إلى تحسُّن علاقات «أنقرة» مع «السعودية، والإمارات»، وبعد أن تأكدت «أنقرة» من أن «توظيف ورقة الإسلام السياسي، ودعم جماعة الإخوان، وتعمُّد مضايقة هذه الدول»، كلها عناصر لم تعُدْ مُجْدِيةً.
السيناريوهات المحتملة لمسار تطبيع العلاقات
أثارت زيارة وزير الخارجية التركي إلى مصر، زَخَمًا سياسيًّا، بشأن ماهية مستقبل العلاقات «المصرية – التركية»، وإمكانية أن تُسْفِر هذه الزيارة عن نتائج إيجابية، قد تؤدي إلى عودة العلاقات بين الدولتيْن إلى مسارها الطبيعي، وقد انقسمت آراء المحللين في هذا الشأن، إلى عدة سيناريوهات؛ منها:
السيناريو الأول: تحقيق التطبيع الكامل للعلاقات:
ووفقًا لهذا السيناريو، فإن العلاقات بين البلديْن سوف تشهد انطلاقةً كُبْرى، خاصةً بعدما انتقلت من مستوى دبلوماسية نواب وزارء الخارجية إلى دبلوماسية وزراء الخارجية؛ ما يُمهِّدُ الطريق لدبلوماسية قمة الرؤساء بين «السيسي، وأردوغان».
ويستند هذا الرأي إلى مجموعة مُعْطيات، منها:
أولًا: الظروف الداخلية في تركيا، وتداعيات الزلازل المدمرة، التي تعرَّضت لها البلاد؛ إذ تعاني تركيا من عدة أزمات اقتصادية، كـ«ارتفاع الأسعار، وزيادة التضخُّم النقدي»، وذلك تزامنًا مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، المُقرَّرة في 14 مايو المقبل.
وثانيًا: الوضع «الإقليمي، والدولي» الحالي؛ خاصةً في ضوء إرهاصات الحرب «الروسية – الأوكرانية»، والتي كانت لها تأثيرات على الإستراتيجية الحكومية التركية؛ للتعامل مع الأطراف «الإقليمية، والدولية»، في ظلِّ خريطةٍ جديدةٍ للتحالُفات السياسية «الدولية، والإقليمية»، باتت تُشكِّلُ قوةً مهمةً، تدفع «أنقرة» إلى تصفير نزاعاتها مع القوى الإقليمية، والتهيُّؤ للتغيُّرات الدولية القادمة، وهو ما يمكن قراءته في التغيُّرات التي طرأت على الموقف التركي من «السعودية، والإمارات، ومصر».
أمَّا ثالثًا: يُعدُّ التقارُب مع مصر موضوعًا قوميًّا مهمًّا للدولة التركية، بغض النظر عن وجود حكومة بعينها في الحكم؛ ما يدل على أن هذا التقارُب سيستمر، بغض النظر عن نتائج الانتخابات الرئاسية التركية المقبلة.
ورابعًا: مصر منخرطة في ملفات عديدة في الإقليم، منها؛ الملف «العراقي، والسوري، والقضية الفلسطينية، وشرق المتوسط، وليبيا»، وكل هذه الملفات وغيرها مشتبكة بها ومتفاعلة فيها تركيا، وبالتالي؛ «أنقرة» ستكون حريصةً على التنسيق مع مصر في هذا التوقيت.
وخامسًا: تأتي خطوة استعادة العلاقات «التركية – المصرية» في إطار مناخ إقليميٍّ مُوَاتٍ بشكلٍ كبيرٍ؛ بدايةً من المصالحة «الخليجية – المصرية» مع قطر، في إطار اتفاقية «العلا»، في مطلع 2021، وقد كان المُحفِّزَ الأول لبداية صفحةٍ جديدةٍ في العلاقات بين «تركيا، ودول المنطقة»، وتحسين العلاقات بين «أنقرة، والدول الخليجية»، وعلى رأسها؛ «السعودية، والإمارات»، إلى جانب التحرُّكات الإقليمية؛ من أجل إعادة سوريا إلى الحاضنة العربية، وأخيرًا: الاتفاق بين «السعودية، وإيران» على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما.
السيناريو الثاني: فشل محاولات التقارُب بين البلديْن:
ويستند هذا السيناريو على مجموعة مُعطيات، منها؛
أولًا: وجود عددٍ من الملفات الخلافية؛ خاصةً الملف الليبي، الذي يُشكِّلُ نقطة الخلاف الرئيسية؛ فمصر تطالب بانسحابٍ تركيٍّ كاملٍ من الأراضي الليبية، وتتمسك بهذا المطلب، الذي تُعدُّه خطًّا أحمرَ؛ لما تُمثِّلُه هذه الخطوة من أهمية إستراتيجية للأمن القومي المصري، فيما لا تُبْدِي «أنقرة» أيَّ استعدادٍ للتنازل في هذا الملف، وبشأن ملف «شرق المتوسط»، ومطالب «أنقرة» بمزيدٍ من التقارُب المصري في هذه المنطقة؛ فمصر لا يمكنها تقديم ما ترغب فيه تركيا في هذا الملف، لا سيما أن جميع اتفاقات ترسيم الحدود البحرية، التي وقَّعتها مصر مع دول «شرق المتوسط»، خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا مع «اليونان، وقبرص» لم تتعارض مع القانون الدولي الحاكم لعمليات ترسيم الحدود.
ثانيًا: تريد تركيا «نصْف حلٍّ، وشبه خيار»، وهي إستراتيجية الرئيس «أردوغان» والخارجية التركية، التي تعتمد مقاربة قائمة على العمل بحلولٍ مُؤقَّتة وسريعة، وتفاهمات جزئية، وليست «كليَّة، أو نهائية»، بما يسمح بمزيدٍ من التفاهمات الدورية والمتجددة، والتوصُّل إلى حلولٍ نفعيةٍ وسريعةٍ، وبما يحقق الأهداف الرئيسة للسياسة التركية، وهو ما سيصطدم بالموقف المصري.
أما ثالثًا: المحاولات التركية للتقارُب مع مصر، تنْقُصُها الجِدِّيَّة في تنفيذ التعهُّدات المطلوبة، فقد جرت خلال الأعوام الأخيرة، أكثر من مبادرةٍ تركيةٍ للتقارُب مع «القاهرة»، وبلغت تلك الخطوة قمَّتها، مع انطلاق المحادثات الاستكشافية بين البلديْن، منتصف عام 2021، لكنها تعثَّرت؛ بسبب بقاء السياسة التركية تجاه الملفات العالقة دون تغيير.
السيناريو الثالث: تجميد الموقف حتى حسْم معركة الانتخابات التركية:
ويستند هذا السيناريو، على عِدَّةِ مُعْطَيات منها؛
أولًا: ما يهم «أردوغان» – الآن- هو الانتخابات واحتواء آثار الزلزال، وبالتالي؛ سيُؤجِّلُ بعض الملفات الكبرى إلى ما بعد الانتخابات، خاصةً حسْم ملف التقارُب مع «مصر، والنظام السوري».
وثانيًا: يتطلب مشوار التطبيع الكامل للعلاقات وقتًا؛ لأن الملفات العالقة حَرِجَة وحسَّاسة، ربما تؤثر أو تؤخر من عودة العلاقات السياسية بين «مصر، وتركيا»، ومنها؛ الخلاف على «الحدود البحرية، وغاز شرق المتوسط، والملف الليبي»، وكل هذه الملفات تطلب من تركيا، أن تحدد بالضبط موقفها من مصر، وإعادة النظر في تدخلاتها بـ«ليبيا، وشمال سوريا»، ومناوشاتها في العراق، وبالتالي؛ يجب التفاؤُل الحَذِر من الرغبة التركية في تسريع وتيرة التقارُب مع مصر، لا سيما أمام تردُّد «أنقرة» في حسْم الملفات العالقة مع «القاهرة».
ارتدادات التقارُب بين الدولتيْن في حال حدوثه بالفعل
في حال تحقيق اختراقٍ إيجابيٍّ في ملف التقارُب «المصري – التركي»، سيكون لذلك الاختراق تداعيات واضحة ومهمة، سواء فيما يخُصُّ العلاقات الاقتصادية بين البلديْن، أو الملفات الخلافية بينهما، وهو ما يمكن إيضاحه على النحو التالي:
أولًا: ملف «تنظيم الإخوان»؛ كان الدعم التركي لـ«تنظيم الإخوان المسلمين» المصنف إرهابيًّا من جانب مصر، وتحوُّل «أنقرة» إلى مِنَصَّةٍ إعلاميةٍ للتنظيم؛ لمهاجمة الدولة المصرية، من أكثر الملفات حساسية بين الدولتيْن، ولكن مع انطلاق المساعي التركية لتطبيع العلاقات مع «القاهرة»، اتخذت «أنقرة» العديد من الإجراءات، فيما يتعلق بـ«تنظيم الإخوان» ووسائل الإعلام التابعة له، منها؛ طالبت تركيا من وسائل الإعلام التابعة للإخوان، تخفيف حِدَّة انتقاداتها للدولة المصرية، وفي مارس 2021، اتخذت قنوات تابعة للتنظيم تُبثُّ من تركيا، قرارات بوقْف برامج لمذيعين لديها، وهي خُطوة، يُعتقدُ أنها اتُّخذت بتوجيهٍ من السلطات التركية، فضلًا عن أنه في 29 أبريل 2021، قرَّرت إدارة «قناة مكملين» التي كانت تُبثُّ من تركيا، نقْل بثِّها وكافة أعمالها إلى خارج تركيا.
إلى جانب ذلك، أدرجت السلطات التركية عناصر إخوانية، بينهم؛ «مذيعون، ومعدو برامج»، على ما يُسمَّى بأكواد الإرهاب، وتمَّ إبلاغهم، بأنهم مطلوبون لمصر؛ لانتمائهم إلى تنظيمٍ إرهابيٍّ، وبموجب هذا الكود، تفرض السلطات التركية قيودًا مُشدَّدةً على أنشطة هذه العناصر وتحرُّكاتها، ومؤخرًا: رحَّلَتْ السلطات التركية، الإعلامي الموالي لـ«تنظيم الإخوان»، «حسام الغمري» خارج أراضيها، بعد أن جرى توقيفُه من قِبَلِ السلطات التركية، وبعد أن تمَّ إيقاف برنامجه «رؤية»، الذي كان يقدمه على فضائية الشرق، الموالية لـ«الإخوان»، في «إسطنبول»؛ بسبب ما عدَّته «أنقرة» إساءة لـ«القاهرة»، وإخلاله بضوابط التهدئة مع مصر؛ ما اعتبرته تركيا إخلالًا بتعليمات وضوابط الأمن القومي التركي.
وقد أثارت تلك الخطوات من جانب «أنقرة»، مخاوف لدى عناصر وقيادات «تنظيم الإخوان» المقيميين في تركيا، بأن يؤدي التقارُب «المصري – التركي» إلى ترحيلهم من «أنقرة» مستقبلًا، خاصةً بعد ترحيل «الغمري»؛ حيث يُعْطِي ترحيله رسالة، مفادها؛ أن السلطات التركية لن تقف عند حدِّ ترحيل «الغمري» فقط؛ فهناك شخصيات إعلامية وعناصر محكوم عليها في قضايا عنف وقتل بمصر، من المُرشح أن تكون في المقدمة للترحيل، سواء إلى «القاهرة»، أو إلى أيِّ دولة أُخرى، خصوصًا وأن فقدان جماعة «الإخوان المسلمين» للنفوذ على المستوى الإقليمي، يسهل على «أردوغان»، إجراء عمليات تحوُّل في التحالفات؛ ما يضع جماعة «الإخوان» التي يُقيم العديد من أعضائها وقياداتها في تركيا على مُفْترق طرق.
ثانيًا: ملف «شرق المتوسط»؛ يُعدُّ هذا الملف أيضًا من الملفات الخلافية الأساسية بين «مصر، وتركيا»؛ حيث حاولت «أنقرة» مرارًا، تعطيل أو إبطاء الجهود المصرية؛ لتنفيذ خطة تنمية وتحديث قطاع «البترول، والغاز»، والتي بدأت عام 2016، عبْر سلسلةٍ من الخطوات الإقليمية، بدايةً من ترسيم الحدود البحرية مع الدول المقابلة لمصر في «البحر المتوسط، والأحمر»، وتحديدًا «السعودية، واليونان، وقبرص»، وتوقيع مصر في فبراير 2018، اتفاقية مع إسرائيل؛ لتصدير الغاز الطبيعي إلى مصر؛ لإسالته وتصديره، ضمن عقْدٍ بلغت قيمته 15 مليار دولار، ثمَّ توقيع مصر عقْدًا آخر، في سبتمبر 2018، مع الحكومة القبرصية؛ لإقامة خط أنابيب بحري مباشر؛ من أجل نقل الغاز الطبيعي، من حقل «أفروديت» القبرصي، إلى محطات الإسالة والتصدير المصرية؛ بهدف تصديره إلى الأسواق العالمية، بدْءًا من عام 2024، بتكلفةٍ تصل إلى نحو مليار دولار، وصولًا إلى تأسيس «القاهرة» في يناير 2019، منتدى غاز «شرق المتوسط»، مع 6 دول أُخرى، هي: «الأردن، وإسرائيل، وقبرص، واليونان، وإيطاليا، وفلسطين»؛ ليكون بمثابة سوقٍ إقليميةٍ، تعمل على استغلال ثروات الغاز في هذه المنطقة، وهو ما يلاقي امتعاضًا تركيًا؛ حيث ترغب «أنقرة» في التواجُد بالمنتدى، وأن تُؤَمِّنَ احتياجاتها من الغاز.
وفي حال إتمام تطبيع العلاقات بين الدولتيْن، فقد يكون هناك تعاونٌ قريبٌ في ملف الغاز بـ«شرق المتوسط»؛ فقد أعربت تركيا خلال الفترة الأخيرة، عن رغبتها في التعاون مع مصر في مجال تصدير الطاقة، خاصةً بعد تواصُل عدة دول أوروبية مؤخرًا مع مصر؛ للاستفادة من قدراتها اللوجيستية في مجال إسالة الغاز؛ لتعويض جزْءٍ من إمدادات الغاز الأوروبية، وهو ملف يُتوقع أن يشهد تطورات مهمة خلال المدى القريب؛ نظرًا إلى استمرار الحرب في أوكرانيا.
ولكن من جانبٍ آخر؛ تتخوَّف دول منتدى غاز المتوسط من أية ارتدادات محتملة، في حال استئناف العلاقات «المصرية – التركية» في الفترة المقبلة، وحدوث نوعٍ من التقارُب «السياسي، والدبلوماسي» بين «القاهرة، وأنقرة»، بما قد يؤثر في نَمَطِ العلاقات بين دول المنتدى؛ لأن أيَّ تغيُّرٍ مُحْتملٍ سيؤثر بالفعل في نَمَطِ وتوجُّه العلاقات الراهنة والمستقبلية في الفترة المقبلة، بل قد يؤدي إلى سيناريوهاتٍ عدَّةٍ، ستكون لها تَبِعَات على استمرارية وفاعلية دوره، وهو ما تتحسب له كل الأطراف المنضوية في عضويته.
فدخول تركيا في أيِّ علاقات، سواء ضمن فعاليات المنتدى، أو خارجه، سيؤدي إلى تداعيات حقيقية، منها؛ كيفية التعامل مع دول لا تعترف بها، مثل «قبرص»، وكيف ستبني شراكاتها الإستراتيجية مع بعض الدول الأُخرى، مثل «اليونان»، في ظل صراع «سياسي، وعسكري» كبير، امتد إلى «حلف الناتو» نفسه، وما يمكن أن تقدمه تركيا داخل المنتدى، وهل ستلتزم قواعده «السياسية، والإستراتيجية»، بل والاقتصادية أو لا؟
ثالثًا: الملف الليبي؛ على الرغم من عدم وجود مؤشرات واضحة على وجود تغيُّرات جوهرية في المقاربة التركية للأزمة الليبية، فإن بحث هذا الملف بين «القاهرة، وأنقرة» ربما يُفْضِي إلى مقاربةٍ مشتركةٍ، يتم من خلالها دعْم التقارُب الداخلي بين المُكوِّنات الليبية، أو على الأقل، تمهيد الأجواء لتحقيق مصالحةٍ وطنيةٍ حقيقيةٍ، خاصةً في حال إتمام تسويةٍ مناسبةٍ، في ملف غاز «شرق المتوسط»؛ حيث إن «أنقرة» تضغط بالملف الليبي، في مقابل حلحلة أزمة ترسيم الحدود البحرية، بمنطقة «شرق المتوسط»؛ ما يسمح لها بمزيدٍ من حقوق التنقيب على الغاز، وهو ما يتضح في تصريح «أردوغان»، بأن (طلب «أنقرة» الوحيد من مصر، هو تغيير أسلوبها تجاه وضع تركيا في البحر المتوسط).
وفي حال تم تحقيق اختراق في هذا الملف؛ سيكون للتقارُب «المصري – التركي» في هذا التوقيت، نتائج إيجابية على الأزمة في ليبيا، وفي حال نجح هذا التقارُب، فإنه سيخلق قاعدةً مشتركةً بين الدولتيْن، تكون بدايةً لحلِّ الأزمة الشائكة في ليبيا، باعتبار أن الأطراف السياسية الرئيسة في ليبيا منقسمة في ولائها بين الدولتيْن، وموقف هاتيْن الدولتيْن يؤثر بشكلٍ كبيرٍ على المواقف السياسية لهذه الأطراف، وإذا أصبحت «القاهرة، وأنقرة» لديهما رغبة مشتركة في مساعدة الأطراف الليبية؛ لتوحيد الجهود المشتركة، فمن المتوقع، أن يؤدي ذلك إلى إجراء الانتخابات «الرئاسية، والبرلمانية» خلال العام الجاري؛ من أجل استعادة الهدوء على الحدود؛ الأمر الذي قد يتوّج بوضْع خطة عملٍ مشتركةٍ للعمل في ليبيا؛ لتجنُّب أيِّ خلافات كبيرة فيما بعد.
رابعًا: ملف العلاقات الاقتصادية؛ على نقيض مختلف الملفات سالفة الذكر، فَصَلَتْ الدولتان الجانب الاقتصادي عن الفتور السياسي بينهما؛ حيث شهدت العلاقات الاقتصادية بين «مصر، وتركيا» تطورات إيجابية، منها؛ تضاعف إجمالي حجم التجارة بين البلديْن؛ ما يقرب من 3 أضعاف، بيْن عاميْ «2007، و2020»، من 4.42 مليارات دولار إلى نحو 11.14 مليار دولار، فيما ارتفع حجم التبادل التجاري بين «مصر، وتركيا» بنسبة 32.6% العام 2021، فيما زادت صادرات مصر لتركيا، في 2022، بنسبة 70.63%، مقارنةً بالعام 2021؛ حيث بلغت صادرات مصر لتركيا، نحو 2.9 مليار دولار، بينما بلغت الصادرات التركية إلى مصر نحو 2.8 مليار دولار تقريبًا، خلال الفترة من يناير إلي أغسطس 2022، وفي العام ذاته، كانت «أنقرة» أول مستورد للمنتجات المصرية، بقيمة 4 مليارات دولار، بينما وصل التبادل التجاري بينهما 9 مليارات دولار.
فيما بلغ حجم الاستثمارات التركية في مصر 2.5 مليار دولار؛ حيث يوجد أكثر من 200 شركة تركية، تعمل في السوق المصري، ومن المتوقع، أن يتزايد حجم الاستثمارات التركية بعد اللقاء الذي جمع 450 من رجال الأعمال في مصر، بأكثر من 50 من رجال الأعمال في تركيا، في أغسطس الماضي، وتعهَّد شركات تركية، بضخِّ استثمارات جديدة في مصر، بقيمة 500 مليون دولار.
إلى جانب ذلك، نما التعاون بين البلديْن في قطاع الطاقة؛ فبحلول نهاية عام 2021، أصبحت مصر موردًا رئيسيًّا للغاز الطبيعي المُسَال لتركيا، وخلال النصف الأول من عام 2022، تصدَّرت تركيا قائمة أعلى دول العالم استيرادًا للغاز الطبيعي المُسَال من مصر، بقيمةٍ إجماليةٍ، تُقدَّر بحوالي 1.1 مليار دولار، وبنسبة 22% من إجمالي الصادرات.
وفي حال عودة العلاقات «المصرية – التركية» إلى مسارها الطبيعي، سيكون هناك فرصٌ واعدةٌ بين الدولتيْن؛ بسبب موقعهما الجغرافي، وكونهما دولتيْن فيهما صناعات واستثمارات، وبالتالي؛ هذا التقارُب سيساعد في تنشيط حركة التبادل التجاري، ويعمل على ضخِّ استثمارات تركية لمصر، خصوصًا أن مصر تُقدِّمُ فُرصًا وتسهيلاتٍ واعدةً؛ ما يساهم في تنشيطٍ تجاريٍّ كبيرٍ، واستفادة مصر من الأسطول التركي بالتنقيب، بدل العروض الفرنسية، والتطلُّع لعقودٍ طويلة الأجل مع مصر؛ لاستيراد الغاز المُسَال، وهناك مُقترحات وتوقُّعات، بتأسيس سوق مشتركة بين البلديْن، بتوقيع اتفاقية الحريات الأربع: حرية انتقال «رأس المال، والعمال، والسلع، والخدمات»، فضلًا عن تنسيق العمل« الصناعي، والسلعي» بين الدولتيْن، خاصةً أن بِنْيتهما الصناعية تسمح بذلك.
إجمالًا:
ترسم زيارة وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إلى «القاهرة»، ملمحًا جديدًا، في مسار تطبيع العلاقات، يعطي رسالةً، بأن مصر منفتحة على الحوار والتصالح، بشرط أن تكون هناك تغيُّرات وسياسات تركية حقيقية، في ملفات «ليبيا، والإخوان، وشرق المتوسط»، وهذا التغيُّر هو الذي سيعجل بمسار التطبيع أو يحدده، أو أن تظل الأمور بين «الشدِّ، والجذب»، وبالتالي؛ رسْم أيِّ سيناريوهات جديدة للعلاقات «المصرية – التركية» سيمضي في سياقيْن؛ الأول: نجاح التوصُّل إلى تهدئة وتسكين الصراع في ليبيا، والمُضي قُدُمًا في تطوير العلاقات الاقتصادية الجيدة، مع القبول التدريجي لعلاقات «تركية – مصرية» حَذِرَة، خاصة من قِبَلِ مصر، والثاني: العمل على بناء إستراتيجية تفاوضية محسوبة من قِبَلِ الطرفيْن، وبما يسمح فعليًّا بالتحرُّك تجاه الملفات الثنائية والمتعددة، ووفق مقاربة «ثنائية، وإقليمية»، خاصة أن «القاهرة» ستراعي بالفعل مسارات واتجاهات علاقاتها «السياسية، والإستراتيجية».