إعداد: رضوى الشريف
يبدو أن الأحداث في دول الجوار الليبي، أصبحت تكشف مظاهر التدخُّل الخارجي، وشكله وحجمه، ودور المجتمع الدولي، الذي يضغط باتجاه إجراء انتخابات في ليبيا؛ بدعوى الاهتمام باستقرارها، دون أيِّ تدخُّلٍ خارجيٍّ، فمنذ بدْء الاشتباكات في السودان، بدأ الحديث يتصاعد عن أثره على الجنوب الليبي، ليس بسبب الحدود المشتركة بين البلديْن فقط؛ بل بسبب انتشار المئات من المسلحين في تلك الرُّقْعة، على علاقةٍ بأحد طرفيْ الصراع، وتحديدًا “الجنجويد”، التابعة لقائد الدعم السريع في السودان، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وإن كان الوجود المُسلَّح ذاته معروفًا منذ مدة طويلة بالنسبة إلى الليبيين والأطراف الخارجية.
وعلاوةً على أزمة مرتزقة “فاغنر”، الذين اعترفت موسكو بوجودهم في ليبيا، بعد إنكاره لفترةٍ طويلةٍ، طفا على السطح لأسابيع عدة، حديث عن حجم وقوة مسلحي حركات التمرد التشادية، إثْر اتهامها بالتورُّط في مقتل الرئيس التشادي، إدريس ديبي، في أبريل 2021.
يُضاف إلى هذا عشرات الحوادث الأُخرى، التي تكشف في كل مرةٍ عن تدخُّلٍ خارجيٍّ عسكريٍّ كبيرٍ في ليبيا، ولا يبدو أن كل هذه الأحداث تكشف عن جديدٍ، بشأن التدخُّل العسكري الخارجي، بل تثيره في كلِّ مرةٍ من زاويةٍ معينةٍ، وتظهره للسطح، وتُضاف إلى ملف إخراج المقاتلين الأجانب والمرتزقة، الذي يُعدُّ من أهم الملفات الأساسية؛ لتشكيل لجنة “5 +5” العسكرية الليبية المشتركة، منذ أكتوبر 2020.
وهذا الملف لا يتعلق باستقرار الأمن في البلاد فقط، ولا سيادتها ووحدتها، بل بات مسألةً أساسيةً؛ لإجراء الانتخابات بمعْزِلٍ عن التدخُّلات الخارجية؛ لإجرائها وتأثيرها في نتائجها، لكن يبدو أن الأحداث في السودان ستكشف عن الأثر الأخطر في ملف المقاتلين الأجانب والمرتزقة، فهي ليست ككل الحروب الأخرى، وسط مخاوف من إمكانية تمدُّدها للخارج، من بينها ليبيا.
مخاوف ليبية
وتتصاعد مخاوف الليبيين من تداعيات النزاع الحالي في السودان، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، على جنوب بلادهم، فبينما حذَّر بعض السياسيين والخبراء الأمنيين من اختراق الحدود الجنوبية، نبّه آخرون إلى ضرورة التخلُّص من ظاهرة الميليشيات وتوحيد المؤسسة العسكرية، بالإضافة إلى انعكاس ما يجري في الخرطوم على ملف ترحيل «المرتزقة» إلى دولهم؛ حيث يُذكر أن المبعوث الأممي لدى ليبيا، عبد الله باتيلي، قد قام منذ أسبوعيْن بجولةٍ أفريقيةٍ شملت تشاد، والنيجر، والسودان على رأسها؛ من أجل مناقشة آلية إخراج المرتزقة الأفارقة من ليبيا، ومنهم؛ مرتزقة تابعون لقوات “جنجويد”.
وفي سياق المخاوف الليبية، حذَّر وزير الدفاع الليبي السابق، محمد محمود البرغثي، من أن ما يحدث بالسودان – بغض النظر عن نتائجه النهائية- سينعكس على الأوضاع في ليبيا؛ نظرًا لوجود حدودٍ مشتركةٍ “هشَّة أمنيًّا”، مشيرًا إلى أن عناصر الفريق الخاسر بهذا الصراع، قد يجدون بها ملاذًا آمنًا، وينطلقون منها نحو الأراضي الليبية.
وعرضت حكومة الوحدة المنتهية ولايتها، على لسان وزيرة خارجيتها، نجلاء المنقوش، تأدية دور وساطة لوقف النِّزاع في السودان، لكن هذه الحكومة لا تملك السيطرة على كافة الأراضي الليبية، لا سيما جنوب ليبيا، التي تسيطر على معظمها قوات اللواء المتقاعد، خليفة حفتر.
بينما تلتزم قيادة اللواء المتقاعد، خليفة حفتر – الذي تسيطر قواته على الجنوب الشرقي، المُتّاخِم للسودان- الصمت حتى الآن، لكن رئيس هيئة التنظيم والإدارة العسكرية بالجنوب، التابع لقيادة اللواء «حفتر»، العميد عبد السلام البوسيفي، وجّه نداءً إلى رئاسة الأركان شرقًا وغربًا؛ لسرعة تفادِي الموقف، عبر إغلاق الحدود مع السودان، وتكليف قوات عسكرية بحمايتها، ومنْع أيِّ تسلُّلٍ، ووضع طائرات للاستطلاع بمطار “الكفرة”، القريب من الحدود، إلَّا أن قيادة «حفتر» لم يصدُرْ عنها أيُّ تجاوُبٍ، أو تعليق على ندائه.
“الجنجويد” في الجنوب الليبي
بالإضافة للحدود المشتركة مع السودان، يعاني الجنوب الليبي من فراغٍ أمنيٍّ، ومن غيابٍ لسيطرة المؤسسات الرسمية وخدماتها، واستغلَّت العديد من الحركات الأفريقية المسلحة هذا الفراغ للتوزُّع فيه؛ بحثًا عن نقاط تمركُزٍ تنطلق منها لمعارضة السلطات الرسمية في بلدانها، ومنها أعداد غير معروفة من مسلحي “الجنجويد”، الذين انبثقت عنهم قوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي).
ولا يخفى على الكثير، وجود بعضٍ من قوات “الجنجويد” في الجنوب الليبي منذ أعوام، كحلفاء لـ«حفتر»، عندما قاموا بدعمه، في محاولته لدخول العاصمة طرابلس، عام 2019، بالإضافة إلى تأمين مواقعه العسكرية والحيوية في الجنوب الشرقي للبلاد.
ولكن ضعفت قبضة الميليشيات في الآونة الأخيرة، مع انجراف المقاتلين عبر الحدود الجنوبية لليبيا إلى تشاد والنيجر والسودان، إلَّا أن بعض هذه الميليشيات لا تزال قائمةً، ولا تزال تقوم بأعمال النَّهْب والسرقة والقتل وتهريب اللاجئين والاتّجار بالبشر، في المناطق الحدودية للدول الثلاث وليبيا، كما أكَّدت منظمة «هيومن رايتس ووتش» والتقرير العالمي حول الاتّجار بالبشر.
ارتباط الصراع السوداني والليبي
بالرغم من أن «حفتر» لم يعُدْ بحاجةٍ لقوات الـ”جنجويد” بالمستوى السابق نفسه، إلا أن ارتباطات الصراع في السودان بالخارج، تكاد تكون ذاتها ارتباطات الصراع السابق في ليبيا بالخارج؛ بمعنى أن أطرافًا خارجيةً تدعم الصراع الحالي في السودان، كانت تدعم الصراع الليبي في السابق، والمقصود هنا؛ هو روسيا التي تُمثِّلُ أهمَّ الأطراف التي لا ترغب في التنازُل عن مصالحها في أفريقيا.
وفي هذا السياق، يُشكِّلُ «حميدتي» حَجَرَ زاويةٍ في النُّفُوذ الرُّوسيّ في كامل المنطقة، وصولًا إلى ليبيا، وبالتالي؛ سيُخفِّفُ استمرار الصراع الضغط الدولي على موسكو، بشأن إخراج مجموعة «فاغنر» من المنطقة؛ بسبب أن الانشغال الدولي والإقليمي سيكون مُركِّزًا على ما يحْدُثُ في السودان، خصوصًا إذا توسَّعت دائرة القتال، وكل ذلك سيفتح لموسكو مساحةً لإعادة ترتيب أوراقها، بدْءًا من ليبيا التي ستخِفُّ عنها الأضواء، وصولًا إلى منطقة الساحل الأفريقي؛ بناء عليه، فمن غير المرجح، أن تسمح موسكو بهزيمة «حميدتي» الذي يُشكِّلُ حاضنةً لـ«فاغنر» في أفريقيا الوسطى والسودان، فهزيمته عمليًّا؛ تعني تراجُع الوجود الروسي، وعلى الأقل، لن تسمح بهزيمته بشكلٍ كاملٍ، بنقل الوضع إلى حالة التفاوُض السياسي؛ حيث يكون «حميدتي» لاعبًا أساسيًّا فيها.
وعلى الصعيد السياسي، فإن تداعيات الوضع في السودان على العملية السياسية في ليبيا ستكون كبيرةً؛ حيث في حال نجاح «حميدتي»، فإنه سيُعزِّزُ قوة مقاتليه في جنوب ليبيا، وفشله سيزيد عددهم، وفي كلتا الحالتيْن سيكون من الصعب إجراء الانتخابات، في ظلِّ التهديدات الأمنية في الجنوب الليبي.
في النهاية
حتى لو كانت موسكو طرفًا يُغذِّي حالة الصراع الحالي في السودان، فلن تسلم الساحة الليبية، خاصةً أن واشنطن والعواصم الغربية تدفع الأطراف الليبية باتجاه سريع؛ لتكوين قوةٍ عسكريةٍ مشتركةٍ، والقصد الواضح من هدف تشكيل تلك القوة المشتركة؛ هو توجُّهها إلى الجنوب؛ من أجل التضييق على «فاغنر»، واستهداف المصالح الروسية، والآن الأوضاع في السودان قد تُسرِّعُ هذا الإجراء، وتُجْبِرُ الأطراف الليبية، على الدخول في صراعٍ مسلحٍ مع «فاغنر»، وربما الـ”جنجويد” وغيرها، وعندها لا يمكن التكهُّن بالنتيجة، ولكن الوضع الأقرب لتوقُّعِهِ، هو أن الانتخابات الليبية المرتقب انعقادُها في هذا العام، لا شكَّ بأنها ستشهد تحدِّيًا أمنيًّا كبيرًا.