إعداد: مروة سماحة عبد السلام
وقَّع الرئيس فلاديمير بوتين، 31 مارس 2023، وثيقة، بشأن الموافقة على المفهوم الجديد للسياسة الخارجية للاتحاد الروسي، وتُعدُّ هذه النسخة الـ5 من الوثيقة، التي اعتمدها الاتحاد الروسي، والـ4 تحت حكم «بوتين»، وتمَّ اعتماد النسخ السابقة، في (1993، و 2000، و 2008، و 2013، و 2016).
وينطوي المرسوم على تحديثٍ بخصوص المجالات التي تمثل أولويةً على أجندة السياسة الخارجية الروسية، وتمثل الوثيقة نظام التوجُّهات الخارجية للدولة الروسية، من حيث المحتوى والمبادئ، وهي وثيقة يتم تحديد بنودها من قِبَلِ رئيس الدولة بنفسه، فيما يُعهد بإعداد وتنفيذ الوثيقة إلى وزارة الخارجية الروسية.
وعادةً ما تتناسب أحكام هذه الوثيقة، وتتغير وفقًا لطبيعة ومقتضيات اللحظة السياسية على المستوى الإقليمي والدولي، وفيما نجد أن الظروف الدولية التي فرضتها الحرب «الروسية – الأوكرانية» قد وضعت السياسة الروسية في محل صدارة على قائمة اهتمامات الجمهور العالمي؛ من حيث المنشغلين بالسياسة أو غيرهم، نجد أنه، لهذا السبب، يكون من الضروري، النظر بعين البحث والتأمل لأحكام هذه الوثيقة بين أيدينا، ووضع مقارنة مُوجزة بين أبرز ما يُميِّزُها عما سبقها من وثائق مماثلة من ناحية، وإلقاء نظرةٍ تحليليةٍ على مضمونها من جهةٍ أُخرى.
أهداف الوثيقة الجديدة للسياسة الخارجية الروسية
بادئ ذي بدء، تمثل الطبعة الحالية من الوثيقة أهمية في المقام الأول كدعاية لروسيا؛ للمرة الأولى، يتمُّ ذكر مصطلحات دعائية، مثل «رهاب روسيا، والغرب الجماعي، والنازية الجديدة»، ويكْمُن الغرض الرئيسي منها، في تقديم صراع «موسكو» مع الغرب، على أنه دفاع ضد السياسات الغربية، التي يُزعم أنها تُشكِّلُ تهديدًا وجوديًّا لسيادة روسيا وسلامتها الإقليمية، وتصور الوثيقة روسيا، على أنها المدافع عن العالم غير الغربي ضد الهيمنة الغربية والاستعمار الجديد، كما تعكس الوثيقة أيضًا، إعادة توجيه السياسة الخارجية لروسيا تجاه شركائها غير الغربيين، في المقام الأول «الصين، والهند، و’العالم الإسلامي’، ومنطقة آسيا، والمحيط الهادئ» على حساب العلاقات المُجمَّدة أو العدائية مع المجتمع عبْر الأطلسي، وخاصة الولايات المتحدة.
كما تكْمُن أهمية الوثيقة، في أنه أول بيانٍ سياسيٍّ مُنظم لروسيا، منذ غزوها أوكرانيا، في فبراير 2022، وهو يُقنِّنُ استجابة روسيا المتطورة للتغييرات السلبية في موقفها الدولي، التي تسبَّبَ فيها الغزو.
وفي سياقٍ متصلٍ تمَّت الإشارة إلى الحرب، وإلى أوكرانيا مرةً واحدةً فقط، ثمَّ بشكلٍ غير مباشرٍ، مدعيًّا أن الولايات المتحدة وأوروبا “أطلقتا نوعًا جديدًا من الحرب المختلطة” ضد “المصالح الحيوية لروسيا في الاتجاه الأوكراني”، على النقيض من ذلك، فإن المفهوم السابق الذي نُشر في عام 2016 – بعد عاميْن من العمليات العسكرية الأولى لروسيا في أوكرانيا – كان ينُصُّ على دعم “الروابط الثقافية والروحية مع أوكرانيا، في جميع المجالات، على أساس الاحترام والالتزام المتبادليْن”، ومع ذلك، تهيمن الحرب على المفهوم الجديد، من ثلاث نواحٍ، كالتالي:
- التركيز على الجنوب العالمي
أدَّى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى انفصالها السياسي والاقتصادي شبه الكامل عن الغرب، وقد أجبر هذا «موسكو» على تكثيف إعادة توجيه سياستها الخارجية، وهو التحوُّل الذي تمَّ تحديده في نشْرها الشهر الماضي، لمفهوم السياسة الخارجية الجديد.
وتصور الوثيقة الولايات المتحدة وشركاءها الغربيين، على أنهم يسعوْن إلى “نوْعٍ جديدٍ من الحرب المختلطة؛ تهدف إلى إضعاف روسيا بكل طريقةٍ ممكنةٍ”؛ نتيجةً لذلك؛ تسعى روسيا إلى توسيع العلاقات “البنَّاءة” في أماكن أُخرى، مستفيدةً من الوضع العالمي متعدد الأقطاب الأكثر تقلُّبًا.
اختصارًا:
لا تتوقع روسيا تحسُّنًا مبكرًا في علاقاتها مع الغرب؛ لذلك فهي تتودد بنشاط إلى شركاء جُدُد؛ لتجنُّب العُزْلة السياسية، وهذا ينعكس بوضوحٍ في إستراتيجيتها الجديدة، في سياستها الخارجية؛ فيكرس مفهوم السياسة الخارجية الجديدة لروسيا معظم الاهتمام للتعاون مع الدول غير الغربية، كما تمَّ ذكر كُلٍّ من «الصين، والهند، وأمريكا اللاتينية» ورغبة روسيا العميقة في التحالُف معهما، بجانب الإشارة إلى «أفريقيا، والعالم الإسلامي»، والرغبة في توطيد العلاقة، والتواجد في تلك المناطق، وهذا يمثل اختلافًا صارخًا، بالنسبة لمفهوم ٢٠١٦، الذي أشار إلى «العالم الإسلامي، وأفريقيا» في مجرد فقرةٍ وجيزةٍ، تشمل حدود التنمية فقط، وليس التعاون والتحالف، وبالنسبة للعلاقات «الروسية – الصينية»؛ فبمنظور ٢٠١٦، كان يشوبها نظرة ترقُّبٍ وحَذَرٍ من الجانب الصيني؛ لذا فمفهوم 2023، يُعدُّ اختلافًا جِذْريًّا عن سابقيه من المفاهيم.
نظرة متناقضة عن الغرب
أظهر مفهوم عام 2016، آفاق تعاونٍ أعمقَ مع «حلف شمال الأطلسي، والاتحاد الأوروبي، والدول الغربية» بشكلٍ منفردٍ، وبالتالي؛ فالوضع في عام 2023، مختلفٌ بشكلٍ كبيرٍ عن ذلك؛ حيث يُصوِّر الغربَ على أنه معادٍ بشكلٍ قاطعٍ؛ حيث تنتهج أمريكا و”أقمارها الصناعية” “سياسةً طويلة الأمد معادية لروسيا؛ تهدف إلى إضعاف روسيا بكل طريقة ممكنة”.
كما أن معظم الدول الأوروبية “تخلق تهديدات لأمن وسيادة الاتحاد الروسي، وتكتسب مزايا اقتصادية أُحادية الجانب، وتقوض الاستقرار السياسي المحلي، وتُقوِّض القيم الروحية والأخلاقية التقليدية الروسية”.
واللافت للنظر، أن المفهوم يذكر مرارًا وتكرارًا الجهود الغربية؛ لتقويضٍ ليس فقط مصالح روسيا، ولكن سلامتها الإقليمية.
من ناحيةٍ أُخرى، يتصور المفهوم نظامًا أمنيًّا مستقبليًّا، بمجرد أن “تدرك الدول الأوروبية، عدم جدوى سياسة المواجهة وطموحات الهيمنة”، وتُحرِّر نفسها من الهيمنة الأمريكية، وتكون مستعدةً للتعاون في “نموذج جديد للتعايش” مع روسيا.
أما بالنسبة لأمريكا، “المُحرِّض الرئيسي والمنظم والمنفذ” للسياسة المعادية لروسيا، فإن المفهوم يشير إلى أنه في الوقت المناسب، يمكن أن تسعى إلى علاقة أكثر توطيدًا؛ لتأمين توازن المصالح؛ حيث هناك نفحة من انفراج الحرب الباردة في إحياء المصطلح السوفيتي “التعايش السلمي”، وإشارته إلى “التكافؤ الإستراتيجي”.
- الرد على العقوبات:
يحدد المفهوم ردّ روسيا على تصعيد أسلوب الحكم الاقتصادي القسْري الغربي ضدها، وهو يدعو إلى إنشاء “تجارة عالمية وأنظمة نقدية ومالية” ضد إساءة استخدام “مركز الاحتكار أو المهيمن في مناطق معينة من الاقتصاد العالمي”، وهذه إشارات واضحة إلى جهود روسيا؛ للتهرُّب من العقوبات، بعملات جديدة وبنية تحتية جديدة للمدفوعات، وأكَّدت روسيا خلال ذلك المفهوم، أنها ستتخذ “إجراءات متناظرة وغير متكافئة” ضد الدول التي تستخدم العقوبات أو “تكنولوجيا المعلومات والاتصالات”؛ لتهديد “سيادة روسيا وسلامة أراضيها”.
ختامًا:
يمكن القول: إن روسيا أرادت عبْر الإعلان عن مفهومٍ جديدٍ لسياستها الخارجية، إرسال عدة رسائل للغرب، أهمها؛ أن روسيا بالتعاون مع «الصين، والهند»، يمكنها بناء عالمٍ جديدٍ مُتعدِّد الأقطاب، وأنها ستكون قادرةً على تجاوُز العقوبات الاقتصادية الغربية؛ بفضل التعاوُن مع «الصين، والهند».
الرسالة الثانية: وجهتها للاتحاد الأوروبي، عبْر التأكيد أنها ستعمل ضد الهيمنة الأمريكية على العالم؛ ما يعني أنها ستمُدُّ يدها للتعاون مع كل دول العالم، الراغبة في التحرُّر من تلك الهيمنة، إشارةً إلى «أفريقيا، وأمريكا الجنوبية» على وجه الخصوص.
وفي سياق العلاقات «المصرية – الروسية»، وبالنظر إلى مفهوم روسيا الجديد للسياسة الخارجية، فمن المحتمل زيادة توطيد العلاقات الثنائية بيْن البلديْن، والعمل على توسيعها من نواحٍ عِدَّة، أهمها؛ الناحية الاقتصادية، لا سيما أن مصر أكبر شريكٍ تجاريٍّ لروسيا في أفريقيا، والعلاقات بين الدولتيْن مستقرة، ويغلبها التعاون.