التحول من الحياد والترقب إلى الانخراط والوساطة… حسابات الصين تختلف في الحرب الأوكرانية

إعداد: شيماء عبد الحميد

مع اندلاع الحرب “الروسية – الأوكرانية”، صاغت الصين موقفها من الحرب بناءً على مقاربة براجماتية، وبما يتوافق مع مصلحتها، في ضوء حسابات الربح والخسارة، ورصْد انعكاسات الحرب عليها؛ لذلك تبنَّت موقفًا محايدًا؛ للموازنة بين شراكتها المهمة للغاية مع روسيا، وتجنُّب فقدان مصالحها مع الغرب؛ لهذا أعربت بكين عن دعمها لموسكو في مواجهة العقوبات الغربية، وشدَّدت على ضرورة مراعاة المخاوف الأمنية الروسية، وفي الوقت نفسه، دعت إلى احترام وحدة أراضي أوكرانيا، إلا أن الآونة الأخيرة، شهدت مفارقات كبيرة بعد ظهور الصين على الساحة الدولية، وانتقالها من موقع القطب الجيوسياسي المراقب إلى القطب الفاعل في منظومة العلاقات الدولية؛ حيث راحت تفرض حضورها الكبير بصورةٍ أكثرَ جَرْأةً وحيويةً من محيطها المباشر في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ إلى الدوائر الأبعد في “آسيا، وأفريقيا، وأوروبا، وأمريكا اللاتينية”، وكذلك في الشرق الأوسط، خاصةً في ضوْء وساطتها بملف المصالحة “السعودية – الإيرانية”، وقد بدأت بكين تلعب هذا الدور أيضًا في الحرب الأوكرانية؛ ما يشير إلى أن السياسة الخارجية للصين باتت أكثر استعدادًا للمواجهة، ولبثِّ النفوذ الصيني عالميًّا، ولترجمة وزنها الاقتصادي إلى وزْن سياسيٍّ.

تحولات الدور الصيني في الحرب الأوكرانية

التزمت الصين في بداية الحرب الحَذَرَ من الانخراط فيها، وحاولت التمسُّك بنهْج «مسْك العصا من المنتصف»؛ حتى لا تتضرر مصالحها مع أيِّ طرفٍ، ولكن في الآونة الأخيرة، اختلفت ملامح الدور الصيني؛ ليصبح أكثر انخراطًا في معادلة الحرب، ومن ثمَّ يمكن إيضاح الدور الصيني في الأزمة الأوكرانية، من خلال مرحلتين؛ وهما:

أولًا: مرحلة الحياد والحَذَر؛ بعد اندلاع الحرب، بدت الصين وكأنها تقف في منطقة وسط؛ فامتنعت عن تأييد أو إدانة التحرُّك الروسي، كما حافظت على خطابٍ حَذِرٍ تجاه تطورات الأزمة؛ حيث عبَّر المسؤولون الصينيون، عن دعم بلدهم لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها، وسعيهم لإنهاء الحرب في أسرع وقت مُمكِن، وفي الوقت نفسه، أكَّدوا متانة العلاقات مع روسيا، ومعارضة بكين للعقوبات الغربية المفروضة على موسكو، وتفهُّمها تخوُّف روسيا من توسُّع الناتو تجاه الشرق.

كما امتنعت الصين عن التصويت على قرارات الأمم المتحدة التي تدين الحرب “الروسية – الأوكرانية”، ولم تصوِّت على أيِّ قرارٍ ضد روسيا، باستثناء قرار الجمعية العامة، في أبريل 2022، بتعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والذي صوَّتت ضده، فيما ركَّزت تصريحات الصين على دعوة جميع الأطراف إلى ضبْط النفس، وطالبت بحلٍّ سياسيٍّ سلميٍّ، من خلال المفاوضات الدبلوماسية.

ثانيًا: مرحلة الانخراط وتصدُّر المشهد؛ والتي تُشكِّل تغيُّرًا ملحوظًا في الدور الصيني، ومن أهم ملامح هذه المرحلة

  1. مبادرة السلام الصينية؛ أصدرت بكين يوم 24 فبراير 2023، وثيقةً، بعنوان موقف الصين من التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية، مُكوَّنة من 12 بندًا، تُمثِّلُ حلًّا سياسيًّا للأزمة؛ منها: التزام الأطراف المختلفة بعدم اللجوء إلى السلاح النووي، واحترام سيادة الدول، وعدم استهداف المدنيين والمنشآت المدنية، والتخلِّي عن عقلية الحرب الباردة، ووقْف العقوبات من جانبٍ واحدٍ، والحفاظ على استقرار عمل سلاسل التوريد.

وبغض النظر عن موقف “الغرب، وروسيا” من المبادرة، وقدرة بكين على حلِّ الأزمة بالفعل، تكْمُن أهمية الخطوة الصينية في دلالاتها؛ حيث تُشكِّلُ خطة الصين للسلام في أوكرانيا اندماجًا بشكلٍ أكبرَ من جانب الصين في الحرب، عن طريق لعب دور الوسيط للسلام، ويشير ذلك إلى أن بكين قرَّرت أن يكون لها دوْرٌ أكبرُ داخل الأزمة، ويؤكد أن للصين موقفًا متغايرًا يتماشى مع تغيُّر المُعْطَيَات على الساحة الدولية، خاصةً أنَّ هذا الإعلان هو الأول من نوْعه من جانب الصين، منذ بدْء الحرب “الروسية – الأوكرانية”، كما يدل على تخلِّي الصين عن نهْج الاكتفاء بإدلاء تصريحات محايدة، ويكشف التطوُّر الراهن عن تحوُّلٍ صينيٍّ، يستهدف تحقيق انخراطٍ أكبرَ بالأزمة، يُمهِّدُ إلى تحقيق اختراقٍ صينيٍّ سياسيٍّ بالأزمات العالمية الراهنة.

  1. كثافة الزيارات الدبلوماسية الصينية؛ قام الرئيس الصيني، شي جين بينج، بزيارةٍ رسميةٍ إلى روسيا، في الفترة من 20 إلى 22 مارس 2023، والتي تُعدُّ زيارته الأولى لموسكو، منذ بدْء الحرب “الروسية – الأوكرانية”، وقد سبقت هذه الزيارة، زيارة أخرى، قام بها كبير الدبلوماسيين الصينيين، وانغ يي، لموسكو، تزامنت مع حلول الذكرى السنوية الأولى للحرب، وحضوره مؤتمر «ميونخ للأمن»، وجاءت في ختام جولةٍ مكُّوكِيَّةٍ لعددٍ من الدول الأوروبية، استهدفت محاولة بلورة رؤية بكين حول تسوية الأزمة الأوكرانية.
  2. توجُّهٌ أوروبيٌّ متنامٍ تجاه الصين؛ بات لدى الأوروبيين اقتناع أن الصين باتت عنصرًا مهمًا في مُجْريات الحرب الأوكرانية؛ لذلك شهدت الأيام الأخيرة هرولةً أوروبيةً تجاه الصين، سواءً من خلال زيارات أو تصريحات، تطالب بكين بالضغط على موسكو لإنهاء الحرب؛ حيث قام الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ورئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بزيارةٍ رسميةٍ إلى الصين، استمرت 3 أيام، في الأسبوع الأول من أبريل الجاري؛ بحثًا عن بارقة أمل لإنهاء الحرب في أوكرانيا.

وقُبَيْل الزيارة، شدَّدت «دير لاين» على دور الصين في الضغط على روسيا؛ لدفعها للركون إلى محادثات سلام مع جارتها أوكرانيا، ومنْع استمرار الحرب بين البلديْن، مؤكدةً أنه يتعين على الصين أن تلعب دوْرًا في الضغط؛ من أجل تحقيق سلام عادل في أوكرانيا، وأن الأسلوب الذي ستواصل به الصين التعامل مع الأزمة “الروسية – الأوكرانية” سيكون عاملًا حاسمًا في مستقبل العلاقات بين “الاتحاد الأوروبي، وبكين”.

ومن جانبها؛ دعت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، بكين، إلى مطالبة روسيا، بوقْف القتال في أوكرانيا، والعمل بجدِّيَّةٍ أكبرَ لإنهاء أزمة أوكرانيا، معتبرةً أنه لا يوجد دولة أخرى لها تأثير على روسيا أكثر من الصين، وأن قرار كيفية استخدام هذا النفوذ يؤثر بشكلٍ مباشرٍ على المصالح الجوهرية لأوروبا.

  1. الحديث عن تدخُّلٍ عسكريٍّ للصين في الحرب؛ ففي الأيام الأخيرة، ظهرت تحذيرات من جانب واشنطن إلى بكين، من تداعيات دعْم روسيا من الناحية العسكرية، وجاءت التصريحات الأمريكية مدفوعةً بتقارير استخباراتية مركزية، كشفها عددٌ من الصحف، منها صحيفة «وول ستريت جورنال»، التي أشارت إلى قيام الصين بتقديم دعم عسكري إلى موسكو، ومجلة «فورين بوليسي» التي أكدت نقل طائرات مُسيرة زهيدة التكلفة من صناعة شركة صينية إلى أرض المعركة، عن طريق وسطاء إلى طرفيْ الصراع، فضلًا عن مجلة «دير شبيغل» الألمانية، التي ذكرت أن الصين تعتزم تزويد الجيش الروسي بـ100 طائرة من دون طيار، من طراز «زد تي – 180»، القادرة على حمل شحنة متفجرات، يتراوح وزنها بين 35 و50 كيلوجرامًا، بحلول نهاية أبريل الجاري، وصحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية، التي أشارت إلى أن واشنطن أبلغت حلف شمال الأطلسي “الناتو”، بأن روسيا طلبت من الصين 5 أنواعٍ من المعدات العسكرية، بما في ذلك صواريخ «أرض – جو»، وطائرات من دون طيار، ومعدات استخباراتية، ومركبات مدرعة، وعربات للدعم اللوجستي.

مكاسب ودوافع الصين في الحرب

بالنظر إلى ما تتسم به السياسة الخارجية الصينية من براجماتية، يمكن استنتاج وجود دوافع ومكاسب صينية عدة؛ دفعتها إلى تبنِّي سياسة الحياد الذي يراه الغرب حيادًا يميل لتأييد موسكو في بادئ الأمر، وإلى الانخراط في الحرب بصورةٍ واضحةٍ مؤخرًا، ومن بين هذه المكاسب:

أولًا: المكاسب الجيوستراتيجية

– ترى الصين في الحرب الأوكرانية فرصةً لتكريس دوْرها السياسي على الصعيد العالمي؛ حيث ترى بكين، أن لديها في اللحظة الراهنة فرصةً مواتيةً لتكريس صورتها كقوة سياسية عظمى، منافسة للولايات المتحدة، قادرة على المشاركة بشكلٍ عمليٍّ لتسوية الأزمة الأوكرانية، تستطيع من خلالها تحدِّي النفوذ الأمريكي، وتأكيد دورها السياسي والأمني العالمي، كما تبعث برسالةٍ إلى العالم، مفادها؛ أن الصين وسيط عالمي يحظى بالثقة، وقوة داعمة أكثر قبولًا من الولايات المتحدة.

– استثمار حالة التوجُّه نحو الاعتماد على التعددية كنهْجٍ حاكمٍ للنظام الدولي؛ أبرزت الحرب في أوكرانيا وجود مجموعةٍ من الدول غير الراضية عن توزيع القوى الراهن في النظام الدولي، ‏وعلى رأسها؛ “روسيا، والصين” ودول أخرى في “أفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وآسيا”، ووجود اتفاق بين الصين وهذه الدول إزاء ضرورة الأخْذ بالتعددية القطبية كنهْجٍ لإدارة النظام الدولي.

والدليل على ذلك، أنه على الرغم من اتفاق غالبية الدول على إدانة روسيا في الأمم المتحدة، فإن العديد منهم – في الوقت نفسه- رفض سياسة العقوبات الغربية، أو كل ما من شأنه عزْل روسيا عن النظام الدولي، وعلى سبيل المثال؛ صوَّتت 141 دولة لصالح قرار إدانة روسيا؛ بسبب غزوها لأوكرانيا، فيما عارض القرار 5 دول، وامتنعت 35 دولة عن التصويت، بينما اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار تعليق عضوية الاتحاد الروسي في مجلس حقوق الإنسان، بموافقة 93 دولة، ومعارضة 24، وامتناع 58 دولة عن التصويت، وبناءً عليه؛ أكدت المبادرات والمقترحات الصينية الأخيرة، على التوجُّه الدولي الراهن، بما يضمن توسيع شبكة حلفائها حول العالم، الذين يتفقون معها في ضرورة الخروج من دائرة الهيمنة الأُحادية للولايات المتحدة.

– تنسيق الوجود في القارة الأفريقية؛ للصين مصلحةٌ مهمةٌ مع روسيا، تتمثل في الرغبة بالنفاذ إلى القارة الأفريقية؛
حيث إن التعاون “الصيني – الروسي” في أفريقيا، قد يتحول الى نوْعٍ من التعاون؛ لتحجيم نفوذ باقي الدول المتنافسة على أفريقيا، وقد انعكس ذلك في قيام “الصين، وروسيا”، خلال فبراير 2023، بتدريبات عسكرية مُوسَّعة في جنوب أفريقيا، بينما كانت تجري الولايات المتحدة مناورات عسكرية في شرق القارة الأفريقية، وتحديدًا في كينيا، وبحضور عناصر من “الصومال، وأوغندا، ورواندا، وبوتسوانا، وجيبوتي”.

– صرف انتباه الولايات المتحدة عن الصين ومنطقة المحيطيْن «الهندي، والهادئ»؛ يُعدُّ تغيير الاهتمام الأمريكي العسكري بعيدًا بعض الشيء عن جنوب شرق آسيا ومنطقة المحيطيْن «الهادئ، والهندي» تجاه “أوروبا، وأوكرانيا”، بمثابة استفادةٍ صينيةٍ مباشرةٍ من الحرب في أوكرانيا؛ حيث وجدت بكين في استمرار الحرب فرصةً ملائمةً؛ لإلهاء الولايات المتحدة وحلفائها، بما يُعزِّزُ تحركاتها الخارجية في المناطق الإستراتيجية من العالم، لا سيما منطقة المحيطيْن «الهادئ، والهندي».

ثانيًا: المكاسب السياسية

– تجنب تداعيات هزيمة روسيا؛ بعد مرور عامٍ على الحرب الأوكرانية، بات المشهد أكثر تعقيدًا؛ فروسيا التي كان يُعتقَد في البداية، أنها ستحسم الحرب لصالحها، لم تنجح في ذلك الأمر، وراح الغرب يسارع ويضاعف مساعداته العسكرية لـ«كييف»، وهذا التشابُك «الغربي – الروسي» داخل أوكرانيا، جعل هزيمة روسيا أحد السيناريوهات المحتملة للحرب، وهذا السيناريو يُشكِّلُ هاجسًا كبيرًا بالنسبة إلى بكين؛ لأن موسكو حليفٌ مهمٌ لها في مواجهة الغرب، كما تعتبر الصين فشل روسيا في أوكرانيا تهديدًا؛ بالنظر إلى أنه ينطوي على تداعيات سياسية محتملة في روسيا؛ أهمها؛ سقوط نظام “بوتين”، وبالتالي؛ تقوية الولايات المتحدة، وربما الدخول في فترةٍ من الفوضى، وعدم اليقين على طول الحدود بين “روسيا، والصين”، كما تتعارض خسارة روسيا مع المصالح الجوهرية للصين؛ حيث ستجد بكين نفسها وحيدةً ومعزولةً في مواجهة الغرب، وبالتالي؛ تراجُع مكانتها في النظام الدولي، في مقابل تأكيد الهيمنة الأمريكية على العالم.

– تحدِّي الهيمنة الأمريكية؛ ترى الصين في وساطتها لحل الأزمة الأوكرانية، فرصةً لإظهار قوة نفوذها السياسي في مواجهة النفوذ الأمريكي، وفرصةً لتحقيق اختراقٍ عجزت عنه القوى الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة؛ لذلك تسعى بكين إلى تقديم نفسها لاعبًا أساسيًّا ومحوريًّا في تسوية أزمة أوكرانيا.

– إعادة تعزيز العلاقات مع أوروبا؛ يتمثل أحد الأهداف الصينية، طرْح مبادرات من شأنها؛ المساهمة في تسوية أزمة أوكرانيا، في رغبة بكين إعادة تقوية العلاقات مع أوروبا، والتي تأثرت اقتصاديًّا خلال انتشار جائحة «كوفيد – 19»، وسياسيًّا نتيجة اندلاع الحرب في أوكرانيا، لا سيما في ظل عدم اتساق الموقف الصيني والأوروبي إزاء الحرب؛ حيث رفض الصين تنفيذ المطالبات الأوروبية، المتعلقة بإدانة روسيا، وامتناعها عن وصْف الهجوم على أنه غزو روسي لأوكرانيا، والالتزام بالوصف الروسي؛ بكوْنها عملية عسكرية خاصة.

وبناءً عليه؛ كان من المهم بالنسبة للصين، إبراز جهودها الهادفة نحو تسوية سياسية للحرب، وتأكيد توافقها مع الجانب الأوروبي، بشأن رفض استخدام روسيا للأسلحة النووية؛ الأمر الذي يفسر جولة «وانغ يي» الأوروبية، السابقة لإعلان مقترح التسوية، والتي تمَّ التأكيد فيها على محورية التنسيق والتعاون “الصيني – الأوروبي”، في ظلِّ ما نتج عن الصراع في أوكرانيا، من عدم استقرار إقليمي ودولي، وقد بدأ هذا التوجُّه يُؤْتي ثماره؛ حيث الزيارات والتصريحات الأوروبية الأخيرة، بشأن أهمية التنسيق مع الصين لحل الأزمة.

– الحصول على امتيازات من روسيا؛ أصبحت روسيا على درجةٍ كبيرةٍ من الاعتماد على الدعم الصيني، وبالتالي؛ باتت كفة العلاقات بين “موسكو، وبكين” تميل لصالح الصين؛ ما يفرض على روسيا قبول العديد من الطلبات الصينية؛ فمشاريع مثل السكك الحديدية بين “الصين، وقرغيزستان، وأوزبكستان”، وخط أنابيب الغاز قوة سيبيريا رقم 2، أصبحت ممكنة؛ بسبب الصراع بين “روسيا، وأوكرانيا”؛ حيث لم يكن ليتحقق اتفاق السكك الحديدية بين “الصين، وقرغيزستان، وأوكرانيا” بهذه السهولة، إلا مع اندلاع الحرب، خاصةً وأنه ظلَّت “الصين، وروسيا” تتفاوضان حول هذه المسألة لسنوات عديدة، قبل بدْء الصراع “الروسي – الأوكراني”.

وقد عبَّر مسؤولون روس كثيرون، بمن فيهم مسؤولون رفيعو المستوى في “الكرملين”، عن خوفهم من أن التقارُب مع الصين أكثر، دون تحسين العلاقات مع البلدان الغربية في الوقت نفسه، وتعزيز تنافسية الاقتصاد الروسي؛ سيُفْضِي إلى تقييد روسيا إستراتيجيًّا، بينما ستكسب الصين تمدُّدًا “إستراتيجيًّا، واقتصاديًّا، وأمنيًّا”، داخل روسيا وفي محيطها الإقليمي الخاص.

ثالثًا: المكاسب الاقتصادية

– تأمين المزيد من واردات الطاقة الروسية؛ فبينما فرضت الدول الغربية حظر استيراد النفط من روسيا، وقطعت العديد من الشركات الغربية علاقاتها مع روسيا تمامًا، واصلت بكين شراء النفط الروسي، وإن كان ذلك بأسعار مُخفَّضة، وقد بدأت بوادر تعزيز التعاون في الطاقة بين الدولتيْن، في أواخر فبراير عام 2022، بعد توقيع كُلٍّ من شركة غازبروفود سويوز فوستوك لأنابيب الغاز الخاصة وغازبروم برويكتيروفاني، اتفاقية لتنفيذ أعمال التصميم والمسح، كجزءٍ من بناء خط أنابيب الغاز سويوز فوستوك، الذي سيمتد من روسيا عبر منغوليا إلى الصين، بما سيسمح بإمداد ما يصل إلى 50 مليار متر مكعب من الغاز الروسي سنويًّا للصين، ويأتي كجزء من خط أنابيب الغاز الروسي باور أوف سيبريا 2، ومن المتوقع، بدْء أعمال بناء المشروع في 2024؛ ليتم تشغيل خط الأنابيب في 2027-2028.

وتُعدُّ روسيا ثالث أكبر مورد للصين من النفط المنقول بحرًا، ووصلت وارداتها في يناير 2022 إلى 811 ألف برميل يوميًّا، ومن حيث الإجمالي؛ تُعدُّ روسيا ثاني أكبر مورد نفطي للصين؛ إذ استوردت الصين أكثر من 15% من صادرات الخام الروسية، وتمَّ نقل 40% من هذه الواردات عبْر خط أنابيب إسبو، أما بالنسبة للغاز، تُعدُّ روسيا ثالث أكبر مورد للغاز إلى الصين؛ إذ صدرت 16.5 مليار متر مكعب من الغاز للصين في عام 2021، بما يعادل حوالي 5% من الطلب الصيني، فيما تُعدُّ روسيا ثاني أكبر مورد للفحم للصين.

– تعزيز العلاقات التجارية مع روسيا؛ أدَّت الحرب إلى عزْل موسكو من الناحية الاقتصادية عن الغرب؛ ما أدى إلى سعي روسيا إلى تعزيز علاقاتها مع بكين، وقد نتج عن ذلك؛ نمو التجارة بين البلديْن؛ حيث سجلت تجارة الصين مع موسكو رقمًا قياسيًّا، بقيمة 190 مليار دولار عام 2022، وارتفاعًا بنسبة 30% عن العام 2021، كما ارتفعت صادرات روسيا إلى الصين بنسبة 43%، بينما سجلت الواردات من الصين زيادة بنسبة 13%.

– تحدِّي هيمنة الدولار ونظام سويفت المالي؛ فمع العقوبات التي تم فرضها على روسيا؛ لمنعها من استخدام نظام سويفت للتحويلات النقدية، وجدت موسكو نفسها أكثر اعتمادًا على الـ”يوان” الصيني، إلى درجة أن أصبح نصف السيولة الإجمالية لصندوق الرعاية الوطنية في روسيا، مُقوَّمة بالـ”يوان”، كما أصبح الـ”يوان” هو العُمْلة الأكثر تداولًا بين البنوك الروسية؛ حيث ارتفعت حصة الـ”يوان” في سوق العملات الروسية من أقل من 1% إلى 48% بين يناير ونوفمبر من العام 2022.

هل تنجح الصين بالفعل في دور الوسيط بالحرب الأوكرانية؟

تحول الموقف الصيني تجاه الحرب “الروسية – الأوكرانية”، وبات هناك قناعة أوروبية، أن بكين لديها القدرة على إقناع روسيا بالجلوس على طاولة المفاوضات، وقد انقسمت آراء المحللين والخبراء السياسيين حول ما إذا كانت الصين قادرة بالفعل على تحقيق هذا الاختراق أم لا؟ إلى رأييْن، وهما:

  1. الرأي الأول؛ يرى أن الصين ليست قادرة على لعب دور الوسيط في الحرب الأوكرانية، ويعتمد هذا الرأي على مجموعة من المُعْطَيات؛ منها:

– تصاعُد التوترات بين “الصين، والغرب”؛ وخاصةً في ضوء اتهام بكين، بأنها ليست طرفًا محايدًا، وتتبنَّى موقفًا انتقائيًّا، فمن ناحية، تحاول تقديم نفسها علنًا على أنها وسيط سلام، بينما لم تُدِنْ الغزو الروسي، وتخطط لدعم موسكو عسكريًّا، وتساعدها على مواجهة العقوبات المفروضة عليها.

– تعقُّد الأزمة؛ فالأزمة الأوكرانية هي أزمة مُركَّبة متعددة الجوانب، وبالتالي؛ حلها ليس سهلًا، ولا يقتصر على جهود دولة واحدة، بل تتطلب حوارًا دوليًّا جماعيًّا متساويًّا.

– الرفض الأمريكي للوساطة الصينية في الأزمة؛ يرتهن نجاح المبادرة الصينية لتسوية الحرب بالموقف الأمريكي؛ حيث أعلنت واشنطن رفضها صراحةً للمبادرة، بل قد تحاول واشنطن عرْقلة الاتفاقية – قدْر الإمكان- لأنها لن تسمح بأن تصبح الصين هي الدولة التي أنهت الحرب، بما قد يضاعف من أهميتها على الساحة الدولية في السنوات القادمة.

– التقارُب بين الولايات المتحدة وأوروبا بعد الحرب الأوكرانية؛ خاصةً أن واشنطن صارت المورد الرئيسي للغاز المُسَال لأوروبا، ومن شأن هذا التقارُب؛ تضييق الخناق على الصين، ومن الأمثلة في هذا السياق، قرار هولندا بالمُضيّ قُدُمًا في قيود التصدير إلى الصين، في أعقاب خطوة مماثلة على مستوى الولايات، تهدف إلى الحدِّ من وصول بكين إلى أحدث إنتاجٍ للرقائق الدقيقة.

– المبادئ التي تقوم عليها الوساطة الصينية ليست مقبولة لدى الغرب أو روسيا؛ فالحديث عن سلامة الأراضي الأوكرانية، ووقف إطلاق النار، ما هي إلا لغة استهلاكية فقط، لن تكون مقبولةً لدى روسيا؛ فكلاهما مرفوض قطْعًا، ليس فقط لدى “فلاديمير بوتين”، وإنما أيضًا لدى المؤسسة العسكرية، كما لدى قطاع من المجتمع الروسي؛ انطلاقًا من دستور كل من روسيا وأوكرانيا، الذي يعتبر الأراضي المتنازع عليها أراضيه، وبالتالي؛ لا مجال لخطة سلام تنطلق من سلامة أراضي أوكرانيا، كما أن فكرة الصين بوقْف النار مقابل توقُّف حلف الناتو عن ضخِّ الأسلحة إلى أوكرانيا مستحيلة لدى الغرب، ولن تلقى أيَّ ترحيب بها أو الاستعداد لها من قِبَلِ الولايات المتحدة والدول الأوروبية.

  1. الرأي الثاني؛ يرى أنه بإمكان الصين أن تنجح في لعب دور وسيط السلام في الحرب الأوكرانية، وينطلق هذا الرأي من مجموعة مُعْطَيات؛ منها:

– الزَّخَم الناتج عن نجاح وساطة بكين بين “إيران، والسعودية”؛ وتأمل بكين في أن تنجح باستنساخ السيناريو ذاته مع “موسكو، وكييف”، وإن اختلفت الظروف بين الحالتيْن؛ لكن بكين تراهن على قوة علاقاتها مع روسيا، وفي الوقت ذاته، على رغبة أوكرانيا في وقْف إطلاق النار، وفْق تسوية مقبولة.

– إدراك أوروبا أنها الخاسر الأكبر من استمرار الحرب؛ تكشف مختلف المؤشرات الاقتصادية والأمنية، عن أن أوروبا هي المتضرر الأكبر من توابع هذه الحرب، خاصةً فيما يتعلق بأزمة الغاز الطبيعي والتضخُّم؛ لذلك فهي تدعم أيَّ مبادرة من شأنها، أن تنهي الحرب في أوكرانيا، ويدفع تفاقُم هذه الأزمات قادة الدول الأوروبية؛ لمحاولة إيجاد حلٍّ بديلٍ، بعيدًا عن المظلة الأمريكية، ولو بصورةٍ نسبيةٍ، وقد أكدت زيارة المستشار الألماني للصين، في نوفمبر 2022، وزيارة الرئيس “ماكرون” لبكين على هذا التوجُّه، وفي حين قدمت الصين نفسها مؤخرًا كقطب دولي جديد فعَّال، بعد أن أدرك الجميع أن الولايات المتحدة تتحرك وفْق مصالحها، بات القبول بالوساطة الصينية أقرب للواقع والتنفيذ.

– ملائمة الظروف لجلوس روسيا على طاولة المفاوضات؛ فقد تعاظمت الشراكة الإستراتيجية بين “الصين، وروسيا”، خلال عام 2022، وبالتالي؛ باتت تمتلك الصين الأدوات اللازمة للتأثير على القيادة السياسية في موسكو، هذا إلى جانب ترحيب موسكو بالمبادرة الصينية؛ بشرط الاعتراف بالحقائق الموجودة على الأرض، في إشارةٍ إلى الوضع الجديد بالنسبة للأراضي التي ضمَّتها إليها حديثًا، وبهذا لن يسبب قبول روسيا بالعرض الصيني أيَّ حَرَجٍ داخلي أو دولي، خاصةً وأنها أعلنت منذ البداية، أن هدف العملية العسكرية في أوكرانيا، هو تحرير الشرق الأوكراني ليس أكثر، فضلًا عن أن روسيا على أعتاب انتخابات محلية وإقليمية، في سبتمبر من العام الجاري، بالإضافة إلى الانتخابات الرئاسية، في 2024، وبالتالي؛ فإن “بوتين” في حاجةٍ إلى إنجازٍ خارجيٍّ يُعِينُه في الملف الداخلي؛ من أجل أن يحكم قبضته على الداخل الروسي من جديد.

– انخفاض مخزونات الأسلحة والذخائر في كافة الجيوش الأوروبية؛ وهو ما أكده تصريح رئيس الأركان المشتركة الألمانية، بأن المصانع العسكرية الألمانية ستحتاج لتعويض النقص الحاد فيها؛ جرَّاء الدعم اللامحدود لأوكرانيا، إلى العمل بكامل طاقتها إلى ما بعد عام 2030، والأمر ونفسه بالنسبة للجيوش “الفرنسية، والبريطانية، والإيطالية، والتشيكية”؛ ما اضطرها إلى السَّحْب من الاحتياطيات الإستراتيجية؛ ما فسَّر تباطؤ الهجوم الأوكراني، وتأجيل خطة هجوم الربيع من مارس إلى أبريل الجاري، ثم إلى مايو المقبل.

إجمالًا:

بات من الصعب على الصين أن تتجنَّب تطورات الأزمة الأوكرانية؛ لأنها تمسُّ مصالحها بصورة مباشرة، سواء مع روسيا أو الدول الأوروبية، وهو ما تؤكده المقترحات الصينية، الدالة على وجود رغبةٍ من جانب بكين للمشاركة بشكلٍ عمليٍّ بالأزمة الأوكرانية، قد تُمهِّدُ لها مشاركات وثقل أكبر بأزمات دولية أخرى، تستطيع من خلالها منازعة الدور العالمي للولايات المتحدة؛ الأمر الذي يُمكِّنُ الصين من أن تصبح متغيرًا مهمًا في تسوية النزاعات الدولية، ومن ثمَّ المشاركة في إرساء أُسُس الأمن العالمي؛ بما قد يُؤدِّي لاحقًا إلى تعدُّد واتساع نطاق المساحات التي ينبغي على الولايات المتحدة احتواء الصين فيها؛ بما قد يُسْهِم في تشتيت انتباه الولايات المتحدة جُزْئيًّا عن محيط الصين الإقليمي، ولكن كل هذا يرتهن إلى مستقبل دوْرها في الحرب، ومدى قبولها كوسيطٍ لتحقيق السلام في أوكرانيا، وما إذا كانت ستنجح في هذا الدور أم لا؟

كلمات مفتاحية