الـنـفـوذ الـصـيـنـي الـمُـتـنـامي فـي أمـريـكـا الـلاتـيـنـيـة

إعداد : ميار هانى

تعد أمريكا اللاتينية، بما يتوافر لديها من موارد طبيعية هائلة وموقع استراتيجي هام بالقرب من الولايات المتحدة الأمريكية، أحد الأقاليم الجغرافية المهمة التي طالما حرصت الصين على تعظيم نفوذها بها. وقد نجحت بكين، إلى حد كبير، في تعزيز حضورها على العديد من الأصعدة، مستفيدة من التراجع النسبى للاهتمام الأمريكي بالمنطقة. ويلقى التطور الأخير الضوء على صعود حضور الصين في أمريكا اللاتينية، وذلك بأعلان هندوراس مؤخراً قطع علاقاتها الدبلوماسية مع تايوان ودعمها بدلاً من ذلك لسياسة “الصين الواحدة”. وعليه، تسعى تلك الورقة للإجابة على عدة أسئلة:

ما هى الجذور التاريخية للعلاقات الصينية – اللاتينية؟

كيف وسعت بكين نفوذها عبر أمريكا اللاتينية؟

ما هى أبرز الدوافع المُحركة للصين لتعزيز صلاتها ببلدان أمريكا اللاتينية؟

ما هو الموقف الأمريكى من تنامى النفوذ الصينى بمنطقة نفوذها التقليدى؟

ما هى العوامل المحددة لمستقبل التنافس الأمريكي – الصيني؟

أولاً: نبذة عن الجذور التاريخية للعلاقات الصينية – اللاتينية

تعود علاقات الصين بالمنطقة إلى القرن السادس عشر الميلادى ، وذلك عندما سهل طريق مانيلا جاليون التجاري تبادل التوابل والحرير بين الصين والمكسيك. وبحلول عام 1840، كانت علاقات الصين ببعض دول المنطقة مرتبطة إلى حد كبير بالهجرة، حيث تم إرسال مئات الآلاف من المهاجرين الصينيين للعمل كخدم بعقود ، في بيرو وكوبا، غالباً في مزارع السكر أو مناجم الفضة، ولم تبدأ بلدان أمريكا اللاتينية في تكوين علاقات سياسية واقتصادية وثقافية متطورة مع الصين إلا بعد دخولها منظمة التجارة العالمية في عام 2001.

ثانياً: كيف وسعت بكين نفوذها عبر أمريكا اللاتينية؟

وسعت الصين نفوذها عبر أمريكا اللاتينية من خلال إقامة علاقات اقتصادية متطورة وروابط امنية، فضلاً عن استخدام القوة الناعمة للتأثير على المواقف العامة ومكافحة المشاعر المعادية للصين في المنطقة، وذلك على النحو التالى:

شراكة اقتصادية متنامية

نمت العلاقات التجارية بين الصين وبلدان أمريكا اللاتينية على مدار العقدين الماضيين؛ فبعد أن استأثرت السوق الصينية بأقل من 2% فقط من صادرات أمريكا اللاتينية بعام 2000، استطاعت ان تقفز لتحقق معدل سنوي متوسط قدره 31%، لتصل قيمتها إلى 180 مليار دولار في عام 2010، و450 مليار دولار فى عام 2021، ويتوقع الخبراء الإقتصاديون أن هذا الرقم قد يتجاوز 700 مليار دولار بحلول عام 2035.

وتتألف صادرات أمريكا اللاتينية للصين بشكل أساسى من فول الصويا والنفط والنحاس وغير ذلك من المواد الخام التي تحتاجها البلاد لدفع عجلة التنمية، وفى المقابل، تستورد أمريكا اللاتينية من الصين منتجات مُصنعة ذات ثمناً أعلى، وهى التجارة التى يراها الخبراء الاقتصاديون بأنها ساهمت فى تقويض الصناعات المحلية لصالح السلع الصينية الأرخص.
وتعد الصين حالياً أكبر شريك تجارى لأمريكا الجنوبية، مُتفوقة بذلك على واشنطن، وتأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في التجارة مع أمريكا اللاتينية ككل.

وتعد بكين مصدراً رئيسياً للاستثمار الأجنبي المباشر فى أمريكا اللاتينية، والتى أصبحت ثاني أكبر متلقٍّ لاستثمارات بكين المباشِرة بعد آسيا، إذ نما الاستثمار الصيني في المنطقة من 12 مليار دولار في عام 2000 إلى 315 مليار دولار في عام 2020. وتتركز هذه الاستثمارات في عدة مجالات على النحو الأتى:

قـطـاع الـطــاقـة والـمـعـادن:

استثمرت الصين فى قطاع المواد الخام من خلال بناء مصانع ومصافى فى البلدان التى التى تتميز بوجود كميات كبيرة من النفط والغاز الطبيعى والفحم واليورانيوم والنحاس، وعلى سبيل المثال: تُشارك ” Power China” الشركة الصينية المملوكة للدولة بشكل كبير فى تطوير قطاع الطاقة، إذ لديها ما يزيد عن خمسين مشروعاً جارياً في خمسة عشر بلداً من بلدان أمريكا اللاتينية.
كما اولت الصين أهتماماً بقطاع الطاقة المتجددة من خلال تمويل مشاريع كبرى للطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وعلى سبيل المثال: تمويل بنك التنمية الصينى أكبر محطة للطاقة الشمسية في أمريكا اللاتينية في خوخوي بالأرجنتين، ومزرعة بونتا سييرا للرياح في كوكيمبو بشيلي.

وقد استثمرت بكين خلال الآونة الأخيرة حوالى 4.5 مليار دولار فى إنتاج الليثيوم فى المكسيك، وما يعرف بدول مثلث الليثيوم في الأرجنتين وبوليفيا وتشيلي التى تحتوى على أكثر من نصف الليثيوم في العالم، والذى أضحى يمثل عنصراً أساسياً في الاقتصاد العالمي كونه يُعَد جزءاً أساسياً تعتمد عليه الدول الصناعية الكبرى فى تصنيع السيارات الكهربائية من خلال بطاريات الليثيوم، إلى جانب الهواتف وأجهزة الحاسب الألى والكاميرات الرقمية، كما أنه يدخل في عدد من الصناعات العسكرية الحديثة.

الـبـنـيـة الـتـحـتـيـة:

موّلت الصين مشاريع البناء في جميع أنحاء المنطقة، مع إيلاء تركيز خاص للسكك الحديدية والموانئ والسدود، وعلى سبيل المثال: . ضخت الصين عشرات المليارات من الدولارات في صورة استثمارات في الطرق السريعة بالأرجنتين، وشبكات الكهرباء بالبرازيل، ومحطات الموانئ فى بيرو، والشبكة اللاسلكية في المكسيك، ومصانع معالجة الليثيوم ببوليفيا.

الـفـضـاء:

استثمرت بكين في قطاع الفضاء في أمريكا اللاتينية بدءاً من اجراء الأبحاث وإنتاج الأقمار الصناعية المشتركة بينها وبين البرازيل في عام 1988. وتقع أكبر منشأة فضائية صينية غير محلية في صحراء باتاغونيا في الأرجنتين، ولديها محطات أرضية تابعة للأقمار الصناعية في بوليفيا والبرازيل والإكوادور وفنزويلا.

إلى جانب ذلك، تعد الصين مصدر رئيسى للإقراض فى المنطقة، فخلال الفترة من عام 2005 إلى عام 2020، أقرض بنك التنمية الصيني المملوك للدولة، وبنك التصدير والاستيراد الصيني معاً نحو 137 مليار دولار لحكومات أمريكا اللاتينية، متجاوزين بذلك الإقراض السنوي من قبل المؤسسات المالية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية. وتعد فنزويلا، التي تمتلك بعضا من أكبر احتياطيات النفط في العالم، أكبر مقترض من الصين مع ديون تزيد على 62 مليار دولار تراكمت منذ عام 2007 .

ومن الجدير بالذكر أن تبنى بكين شروطاً أقل وأكثر تساهلاً، فضلاً عن عدم ربط مساعداتها بشروط سياسية تتعلق بالديمقراطية أو الحكم الرشيد أو حقوق الإنسان، كما تفعل الولايات المتحدة في الكثير من الأحيان، أدى إلى ارتفاع جاذبيتها لدى بلدان أمريكا اللاتينية، وذلك باعتبارها مصدراً بديلاً للسلع الغربية والاستثمارات والقروض، وعليه، ساهمت تلك العوامل فى تقوية العلاقات الصينية- اللاتينية، فضلاً عن زيادة النفوذ الاقتصادي الصيني في القارة اللاتينية، وهو ما بدى جلياً بتمكين الصين من أن تصبح عضواً مصوتاً في بنك التنمية للبلدان الأمريكية وبنك التنمية الكاريبي، فضلاً عن إعلان 20 دولة مشاركتها في مبادرة الحزام والطريق الصينية.

ومع ذلك، أثار النفوذ الاقتصادى الصينى المتزايد في أمريكا اللاتينية بعض المخاوف، إذ أعرب مسؤولون عن قلقهم فيما يتعلق بالمركز المهيمن الذي حققته الشركات الصينية في القطاعات الاقتصادية الرئيسية، فقد أشار رجل أعمال في قطاع الطاقة في نوفمبر 2019 إلى أن بيرو «تنتقل من الخصخصة إلى التأميم، وليس لصالح دولة بيرو ولكن لصالح الدولة الصينية». وردد رئيس اللجنة الاقتصادية في مجلس النواب التشيلي هذه المخاوف بعد عام، وكتب أن الشركات الصينية “ليست خاصة” بل هي شركات وهمية “تابعة للدولة الصينية والحزب الشيوعي”. كما يرى عدد من الخبراء الاقتصاديون أن الاعتماد علي القروض الصينية يمكن أن يدفع الدول غير المستقرة اقتصاديا مثل فنزويلا إلى ما يسمى “فخاخ الديون” الذى قد يؤدي إلى التخلف عن السداد، إلى جانب التحذير من أن سيطرة الصين المتزايدة على البنية التحتية الحيوية مثل شبكات الطاقة تشكل مخاطر على الأمن القومي.

روابط أمنية صاعدة

هناك اعتقاد خاطئ بأن المصالح الصينية في أمريكا اللاتينية تقتصر فقط على المجال الاقتصادي، إلا انها تتجاوز بكثير المصالح الاقتصادية، إذ عززت الصين علاقاتها العسكرية مع العديد من بلدان أمريكا اللاتينية، ويقوم نفوذها العسكرى في الأساس من خلال القوة الناعمة، وليس الوجود المادي، وقد بدأ التعاون العسكرى بينهم من خلال مبيعات الأسلحة، التى وجدت بها الصين سوقاً مثمراً، وبدأت كمجرد أسلحة صغيرة حتى أصبحت تشمل الطائرات والمركبات المدرعة وغيره من الأسلحة الثقيلة، فضلاً عن توفير برامج التدريب المشتركة وتقديم المِنَح الدراسية لعناصر من هذه القوات وغيره، ما أدى إلى وجود تفاعل أكبر بين هذه الدول وجيوشها والصين.

وتعد فنزويلا أكبر مشترى للمعدات العسكرية الصينية في المنطقة، وذلك بعد حظر الولايات المتحدة الأمريكية جميع مبيعاتها من الأسلحة لفنزويلا بدءاً من عام 2006. كما ورد أن قيمة مبيعات بكين من الأسلحة إلى فنزويلا، بين عامي 2009 و 2019 ، قد بلغت ما يزيد عن 615 مليون دولار .

ويتجلى الوجود الأمنى الصيني المتنامي أيضا في مشاركة بعض قوات جيش التحرير الشعبي الصيني في بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في هايتي، ونشر سفينته الطبية فى موانئ دول المنطقة خلال ثلاث مناسبات منفصلة، بالإضافة إلى إرسال سفنه الحربية بشكل منتظم لإجراء تدريبات مشتركة، والمشاركة في الدورات التدريبية، وتبادل الزيارات لضباط الجيش والشرطة في دول المنطقة والصين.كما وفرت الصين الإمدادات العسكرية لإنفاذ القانون المحلي في عدد من الدول، وعلى سبيل المثال، قامت الصين بتزويد الشرطة البوليفية بمعدات مكافحة الشغب والمركبات العسكرية، كما تبرعت بمعدات النقل والدراجات النارية لقوات الشرطة في غيانا وترينيداد.

القوة الناعمة الصينية فى أمريكا اللاتينية

سعت بكين لاستخدام القوة الناعمة فى أمريكا اللاتينية لتكوين صورة إيجابية من شأنها أن تسهل مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية عن طريق الإقناع بدلاً من الإكراه.

فقد سعت الصين لتوسيع وجودها الدبلوماسى من خلال زيارة الرئيس شي جين بينغ أمريكا اللاتينية إحدى عشرة مرة منذ توليه منصبه في عام 2013 ووقع شراكات استراتيجية – وهو أعلى تصنيف تقدمه بكين للحلفاء الدبلوماسيين – مع سبع دول ، الأرجنتين والبرازيل وتشيلي والإكوادور والمكسيك وبيرو وفنزويلا.

كما عززت علاقاتها الثقافية والتعليمية مع بلدان أمريكا اللاتينية، فضلاً عن التكنولوجيا، أحدأكثر آلياتها كفاءة للقوة الناعمة، وذلك من خلال قدرتها على إنتاج معدات تكنولوجية متطورة للترفيه والأمن والعمليات الحكومية والبحث العلمي بأسعار منخفضة (بسبب الدعم المكثف من قبل الحكومة الصينية بالإضافة إلى الافتقار إلى ثقافة حقوق الملكية الفكرية) تمكن الصين من تزويد حكومات أمريكا اللاتينية والشركات بإمكانية الوصول إلى المنتجات التكنولوجية التي لن تكون مجدية اقتصاديا إذا تم الحصول عليها من الولايات المتحدة أو أوروبا، وبالتالى تطوير علاقة ثقة مع المستهلكين في أمريكا اللاتينية.

كما أدت جائحة كوفيد–19 إلى تسريع هذا الاتجاه، فقد اتاحت الفرصة لبكين لتوسيع نطاق نفوذها في المنطقة وتحسين صورتها وكسب ود الحكومات الإقليمية، وذلك من خلال ستخدامها ما يُسمى ب “الدبلوماسية الطبية” أو ” دبلوماسية اللقاح”، حيث أقامت الصين علاقات أكثر ودية مع بلدان أمريكا اللاتينية من خلال توزيع المعدات الطبية مثل الأقنعة وأجهزة التنفس الصناعي ومجموعات الاختبار التشخيصى ، فضلاً عن تقديم قروض بمليارات الدولارات للبلدان لشراء اللقاحات الصينية؛ والاستثمار في مرافق إنتاج اللقاحات المحلية. وذلك فى الوقت الذى رفضت فيه إدارة ترامب تقديم مساعدات مالية لفنزويلا لمواجهة الوباء، في مارس 2020 ،بسبب عدم اعترافها بحكومة الرئيس نيكولاس مادورو، وهو الأمر الذي على إثره تدخلت بكين لتقديم إمدادات طبية و لها ولغيرها من بلدان المنطقة.

ومن الجدير بالذكر أن قد أظهرت بعض الإحصائيات تفوق الصين على الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق تصورات مواطنى البلدان اللاتينية، فوفقاً لمسح أجرته مؤسسة أمريكاز باروميتر لعام 2017، يوجد معدل ثقة أقل في الحكومة الأمريكية مقارنة بالحكومة الصينية في10 دول لاتينية، كما أظهر مسح 2019 زيادة فى عدد الدول التى لديها ثقة أقل في الحكومة الأمريكية مقارنة بالحكومة الصينية لتصل إلى 13 دولة.

ثالثاً: دوافـع مـتـعـددة

تٌفسر دوافع عديدة تعزيز بكين حضورها فى أمريكا اللاتينية، وذلك على النحو التالى:

تحقيق الأهداف الاقتصادية:

يعد الهدف الأول والأكثر وضوحاً على الإطلاق للصين في أمريكا اللاتينية، هو خلق المزيد من الأسواق لمنتجاتها وشركاتها باعتبار امريكا اللاتينية سوقاً استهلاكياً ضخم بعدد سكان بلغ نحو 658 مليون نسمة وفقاً لإحصائيات عام 2021. بالإضافة إلى الحصول على الموارد الطبيعية بأفضل سعر ممكن وضمن تدفق مستمر.

توسيع نطاق مبادرة الحزام والطريق:

رغبة الصين بتوسيع نطاق مشروع الحزام والطريق، الذى تم اطلاقه بعام 2013، ليشمل دول أمريكا اللاتينية التي تحتل مكانة محورية في حركة الملاحة الدولية،وقد استطاعت الصين اقناع 21 دولة بالانضمام إلى المبادرة.

مُـزاحـمـة الـخـصـوم:

فى سياق التنافس الصينى-الأمريكى وتحركات واشنطن المتواصلة لتوسيع نفوذها فى شمال شرق آسيا، والتى تعتبرها الصين من مناطق نفوذها التقليدى، تسعى الصين على الجهة الأخرى لتعزيز حضورها بامريكا اللاتينية باعتبارها بديلاً للولايات المتحدة، مستغلة التراجع النسبى للنفوذ الأمريكى التقليدى بالمنطقة.

حشد الدعم لسياسة “صين واحدة”

تسعى بكين إلى كسب الدعم لمواقفها الدولية، بما فى ذلك الموقف من تايوان، التى تعتبرها جزءاً من أراضيها. وتعترف 13 دولة فقط فى العالم بتايوان رسمياً، من بينهم 7 بلدان من أمريكا اللاتينية. وبالتالى، تعمل الصين على توسيع نفوذها على نطاق واسع بالمنطقة وتقليص عدد الدول المعترفه بتايوان ومحاولة عزلها دولياً.

رابعاً: الموقف الأمريكى من تنامى النفوذ الصينى بمنطقة نفوذها التقليدى

تعد قائمة نجاحات بكين في أمريكا اللاتينية طويلة وملفتة للنظر، الأمر الذى أثار مخاوف صانعو السياسة والمسؤولون العسكريون الأمريكيون بينما حولت واشنطن تركيزها نحو آسيا والمحيط الهادئ . إذ جادل الأدميرال كريج فالر، الرئيس السابق للقيادة الجنوبية الأمريكية فى عام 2021: “نحن نفقد ميزتنا الموضعية في نصف الكرة هذا وهناك حاجة إلى اتخاذ إجراءات فورية لعكس هذا الاتجاه”.

ويفسر عدد من المحللين تزايد النفوذ الصينى فيما يعرف ب “الفناء الخلفى لواشنطن” نتيجة لاتخاذ الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب نهجاً أكثر تشدداً من أسلافه من خلال فرض عقوبات وتراجع العلاقات التجارية مع عدد من بلدان المنطقة وخفض التمويل للمنظمات الإقليمية.

ولطالما جادل الرئيس الأمريكى الحالى جو بايدن، بأن الولايات المتحدة ينبغى عليها تجديد قيادتها وتعزيز الشراكات الأمريكية بالمنطقة لمواجهة الصين الصاعدة، واصفاً أياها بأنها “منافس استراتيجي”.

وقد أطلق الرئيس بايدن مبادرة “إعادة بناء عالم أفضل” Build Back Better World (B3W)مع قادة دول مجموعة السبع G7 فى عام 2021، تهدف إلى تلبية المتطلبات التمويلية اللازمة لتطوير البنية التحتية في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، بما في ذلك في أمريكا اللاتينية، وتكون بمثابة البديل المنافس لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية.

كما سعت إدارته إلى حشد الدعم لتايوان، إلى جانب زيادة تبرعات واشنطن باللقاحات للمنطقة، والتي بلغ مجموعها حوالي 65 مليون جرعة بحلول أوائل عام 2022، كما استمرت فى إثارة المخاوف بشأن هواوي. ومع ذلك، ينتقد محللو أمريكا اللاتينية إدارة الرئيس بايدن لعدم إيلاء الأهتمام الكافى بالمنطقة وافتقارها إلى استراتيجية تجارية واستثمارية شاملة للتعاون.

خامساً: مستقبل التنافس الأمريكي – الصيني على النفوذ في أمريكا اللاتينية

تُحدد جملة من العوامل مستقبل التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين في أمريكا اللاتينية، وفيما يلى نتناول أبرزها:
التوجهات السياسية لدول المنطقة:

تشهد المنطقة وجود العديد من الشخصيات والأحزاب اليسارية في السلطة، فضلاُ عن تزايد في التوجهات الإيجابية لدى حكومات دول أمريكا اللاتينية وشعوبها نحو الصين، في مقابل تراجع النظرة الإيجابية تجاه الولايات المتحدة، خلال السنوات الأخيرة، وهو الأمر الذى انعكس خلال قمة الأمريكتين الأخيرة، التى تم انعقادها بلوس أنجلوس، إذ امتنعت أربع دول من أمريكا اللاتينية، بما فى ذلك المكسيك، عن حضور القمة على إثر عدم دعوة واشنطن فنزويلا وكوبا ونيكاراجوا، وذلك لسيطرة اليساريين المناهضين لواشنطن على السلطة. وعليه، من المتوقع ان يسلك عدد من حكومات أمريكا اللاتينية مسارات تهدف لتعزيز علاقاتها بالصين.

تطورات الأوضاع الداخلية لبلدان أمريكا اللاتينية:

تتيح تطورات الأوضاع فى تلك البلدان الفرصة، سواء لواشنطن أو بكين، لتقوية نفوذها وتوسيع تواجدها بالمنطقة إذا استطاعت حسن استغلال الفرصة لصالحها، فعلى سبيل المثال تردى الأوضاع الإقتصادية لدولة ما سيجعلها فى حاجة ماسة للحصول على مساعدات خارجية.

السياسات الأمريكية اتجاة المنطقة:

يمكننا القول إن مع استمرار تبني واشنطن استراتيجية يغلب عليها المقاربة الأمنية مع عدم إيلاء الأهتمام الكافى بالمنطقة وافتقارها إلى استراتيجية تجارية واستثمارية شاملة للتعاون، فمن المرجح ألا تعتبر عدد من بلدان المنطقة واشنطن الشريك الأكثر جاذبية، على الأقل فيما يتعلق بالعلاقات الإقتصادية، مع السعى بكين لتوسيع نفوذها.

السياسات الصينية اتجاة المنطقة:

من جملة ما سبق، من المرتقب أن تستمر الصين في كسب الأصدقاء من تشيلي إلى المكسيك، وتعزيز علاقاتها على مختلف الأصعدة مع بلدان أمريكا اللاتينية، بما يضمن تحقيق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، بغض النظر عن التحول القادم في سياسة الولايات المتحدة تجاه المنطقة.

الـخـاتـمـة:

سعت الصين لتعزيز نفوذها عبر أمريكا اللاتينية من خلال إقامة علاقات اقتصادية متطورة وروابط امنية، فضلاً عن استخدامها القوة الناعمة. ويعد تحقيق مصالح بكين الاقتصادية و مزاحمة نفوذ الولايات المتحدة فضلاً عن محاولة عزل تايوان دولياً أحد أبرز الدوافع المُحركة للصين لتعزيز صلاتها ببلدان أمريكا اللاتينية.
وقد أدى مسعى الصين إلى ردود فعل من واشنطن، التي تعتبر المنطقة فناءها الخلفي، إلا انها لم تدير الكثير من الرد، ومع استمرار عدم إيلاء المنطقة التركيز الكافىى لمواجهة جهود بكين ، سوف تواصل الأخيرة تعزيز نفوذها في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأمريكية.

كلمات مفتاحية