مصير المصالح الروسية فى ظل الأزمة السودانية

إعداد/ جميلة حسين محمد

نشأ نوع من الشراكة بين موسكو والخرطوم وامتد منذ الحقبة السوفيتية وتتطور بتطور المصالح الروسية فى السودان، ورغبتها بمزيد من التعمق تنفيذًا لإستراتيجيتها الهادفة إلى إحلال موطئ قدم لها فى دول القارة الإفريقية ذات الثروات الطبيعية الهائلة، والأهمية الجيوستراتيجية لدولة السودان، وكذلك مجاورتها للعديد من دول القارة ومنافذها البرية والبحرية، حيث تمتلك ثانى أطول ساحل على البحر الأحمر والذى يعد من أهم الممرات البحرية الدولية، ومن ناحية أخرى تخلق روسيا شبكة من العلاقات والتحالفات الإستراتيجية فى القارة السمراء كبديل للعزلة المفروضة عليها من جانب الغرب، وفى ذات الوقت تسعى لتقديم نفسها كبديل للوجود الغربى فى القارة، ونظرًا للظروف الراهنة والاشتباكات التى يتعرض لها السودان منذ منتصف الشهر الماضى وحالة العنف والقتال التى تشهدها البلاد، وتأثر النفوذ والمصالح الروسية فى السودان بها تطرح الأوضاع تساؤلات حول الموقف الروسى وطبيعة تعامله مع تلك التطورات، وهو ما نتناوله خلال السطور التالية.

ملامح العلاقات

ازدهرت العلاقات الروسية السودانية خلال سنوات حكم الرئيس السابق “عمر البشير” خاصةً العلاقات العسكرية، حيث كانت روسيا المصدر الرئيسى الذى يمد الجيش السودانى بالسلاح، وعندما حدث حراك سياسى  فى 25 أكتوبر 2021 أيدته موسكو بصورة غير مباشرة ورفضت الإدانة الصادرة من مجلس الأمن بشأنه وكذلك حل مجلس السيادة ومجلس الوزراء، وواقع الأمر أن روسيا استغلت الأزمة الداخلية فى السودان بين المكون المدنى والعسكرى، وخسارة الأخيرة لجزء كبير من الدعم الأمريكى والغربى واشتداد الحصار عليه من أجل عودة المكون المدنى الديمقراطى، وذلك للانخراط فى دولة السودان وتقديم يد المساعدة التى تحتاج إليها من أجل تعزيز نفوذها الإستراتيجية.

وفى هذا الإطار استخدمت روسيا حق النقض ضد مشروع قرار يدين إجراءات “البرهان” فى مقابل رفض السودان التصويت على مشروع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذى يتعلق بإدانة العدوان الروسى على أوكرانيا.

الاتفاقات والشراكات العسكرية

توجد العديد من الاتفاقيات العسكرية بين روسيا والسودان والتى منحت لروسيا قواعد مجانية كنقطة تسهيل للوصول إلى مناطق النفوذ الروسى فى القارة، وأتاحت لها استخدام المطارات السودانية لنقل الأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية لمراكز النفوذ الروسى، ومن ضمنها تلك الاتفاقية التى تعتمد على إنشاء قاعدة لوجستية بحرية روسية فى”بورتسودان” على ساحل البحر الأحمر تعرف باسم “قاعدة فلامنجو” والتى سمحت بإرسال عدد محدود من السفن الحربية و300 فرد من العسكر والميدانيين، ويعتبر أول مركز بحرى روسى فى إفريقيا وسيكون بمثابة مخزن ضخم لتدفق المعدات العسكرية إلى مراكز النفوذ الروسى فى القارة، وتم الكشف عن تلك الاتفاقية فى مايو 2019 وصدَّق عليها الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” فى 16 نوفمبر 2020، ولكنها لم تدخل حيز النفاذ حتى الآن.

وفى هذا الإطار أكدت “لانا بدفان” الباحثة فى العلاقات الدولية والأوروبية فى مدرسة الاقتصاد العليا فى موسكو قائلة: “روسيا تعمل على استكمال مشاريعها فى السودان، سواء عبر القواعد العسكرية فى البحر الأحمر، أو استكمال التدفقات الضخمة من مخازن الأسلحة والمعدات العسكرية إلى مركز نفوذها فى تلك المنطقة وخاصة فى القارة الإفريقية”.

ذلك فى مقابل تزويد السودان بالأسلحة ودعمها للنظام القائم، فقد أكد محمد حمدان دقلو “حميدتى” نائب رئيس مجلس السيادة السودانى فى أكثر من تصريح خاصة خلال زياراته الأخيرة لروسيا قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، استعداد الحكومة السودانية للتعاون مع أى دولة تريد بناء قاعدة على سواحل البحر الأحمر على غرار قواعد الأجنبية بسواحل النيجر وجيبوتى.

وتتمثل أبرز المشاهد لتطور العلاقات فى الآونة الأخيرة زيارة وزير الخارجية الروسى “سيرجى لافروف” للسودان فى التاسع من شهر فبراير الماضى، وصرح خلال لقائه مع نظيره السودانى “على الصادق” ورئيس مجلس السيادة الانتقالى “عبد الفتاح البرهان”، ونائبه محمد حمدان دقلو “حميدتي”، بأن السودان وروسيا متفقان على رؤية التوجه نحو عالم ديمقراطى متعدد الأقطاب، كما أكد دعم بلاده للسودان فى رفع العقوبات الدولية من قبل مجلس الأمن الدولى، وكذلك دعم بعضهما فى المحافل الدولية من أجل مصلحة البلدين، ذلك بالإضافة إلى تأكيده على مشاركة السودان فى القمة الروسية الإفريقية الثانية التى ستنعقد فى شهر يوليو القادم، مع مراجعة التواجد للقاعدة العسكرية البحرية فى البحر الأحمر، والتى تمتلك إمكانيات هائلة على الرغم من ضمها لعدد محدود من القوات، ومن ناحية أخرى أعلن رئيس مجلس السيادة الانتقالى “عبد الفتاح البرهان” حرص بلاده على تعزيز علاقاتها مع روسيا بما يخدم المصالح المشتركة بين البلدين.

والجدير بالذكر أن التواجد العسكرى لم يكن الهدف الوحيد لموسكو فى السودان بل تسعى إلى التعاون وعقد شراكات مع الخرطوم فى مجال التنقيب عن الذهب والمواد الخام، حيث تحتل الأخيرة المركز الثالث فى إنتاج الذهب على مستوى القارة الإفريقية، ووفقا للتقديرات الأخيرة للإنتاج السودانى من الذهب فإنها تنتج حوالى 90 مليون طن من الذهب سنويًا، هذا بالإضافة إلى تنوع موارده المعدنية بين الفضة والنحاس واليورانيوم بجانب موارد الطاقة والإمكانيات الزراعية الهائلة، ومن هنا تضاعفت المشروعات الروسية فى قطاع الذهب ومن أهم الشركات الناشطة فى عمليات التنقيب عن الذهب فى السودان شركة “Meroe Gold” وشركة “Esimath”.

وترغب روسيا فى إطار تعزيز الاستفادة الاقتصادية من السودان فى فرض سيطرتها على تدفق النفط الذى يتم نقله من خلال خطوط أنابيب عبر المنشآت السودانية وصولًا إلى ميناء بورتسودان ليتم تصدره إلى الأسواق العالمية، ولعل بناء قاعدة عسكرية فى السودان يساعدها على هذا الأمر، وسبق أن تمت مناقشة هذه الفكرة خلال زيارة وفد وزارى سودانى إلى موسكو برئاسة وزير المعادن السودانى “محمد بشير عبدالله أبو نمو” فى أغسطس العام الماضى، وذلك فى إطار توسيع التعاون الثنائى بين البلدين فى مجال النفط بحيث يتجاوز تعزيز التنسيق فى مجال الإنتاج ليشمل النظر فى تقنيات استخلاص النفط واستخدام الغاز المصاحب وتكرير النفط والبتروكيماويات والتدريب.

تحديات الأزمة السودانية الراهنة

فى ظل ما تشهده الساحة السودانية من حالة الصراع والتأزم نتيجة الاشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع تجنبت “موسكو” اتخاذ موقف داعم لأى من طرفى الصراع دون الأخر، كذلك تجنبت التدخل بشكل مباشر فى القتال ولكنها دعت إلى الحوار والحفاظ على الأمن فى مناطق نفوذها، وفى هذا الإطار صرح وزير الخارجية الروسى “سيرغى لافروف” بضرورة العودة إلى طاولة المفاوضات وعقد حوار سياسى يهدف إلى حماية الشعب السودانى بالمرتبة الأولى، وأن يكون بعيدًا عن أى صراع عسكرى أو استخدام للأسلحة، بالإضافة إلى دعوته بإظهار الإرادة السياسية وضبط النفس واتخاذ خطوات عاجلة لوقف إطلاق النار، ولكن أشارت عدة تقارير إلى تقديم الدعم الروسى -غير المباشر- لـ “حميدتى” قائد قوات الدعم السريع عبر تزويده بأسلحة ومعدات من جنوب شرق ليبيا من مناطق يسيطر عليها اللواء الليبى المتقاعد “خليفة حفتر”، وتنشط فيها مجموعة “فاغنر”.

فالدعم الروسى غير المباشر يُفسر وفقًا لمصلحة روسيا التى تقوم على بقاء الجيش فى السلطة وإيجاد نوع من التوافق بين “البرهان وحميدتى” من أجل استكمال بناء القاعدة البحرية العسكرية فى ميناء بورتسودان على البحر الأحمر، وضمان الاستثمارات والشراكات الروسية فى مجال التنقيب عن الذهب والثروات المعدنية واستمرار صفقات الأسلحة من ناحية، ومن ناحية أخرى حماية المصالح الروسية فى القارة الإفريقية، فإن الصراع فى السودان لا يمكن أن يطيح بالخطط الروسية فى السودان ولكنه قد يؤجل تنفيذها فبالنسبة للقاعدة البحرية سيؤجل افتتاحها وفقًا لمصادر روسية أكدت ثقتها من انطلاق تلك القاعدة، فطرفى الصراع “البرهان وحميدتى” على استعداد من أجل التعاون الروسى وإقامة قاعدة بحرية روسية، ولكن فى نهاية المطاف الأمر يعتمد على تصديق البرلمان السودانى الذى لم يتم التوافق على انتخابه حتى الآن على تلك الاتفاقية.

ومن ناحية أخرى قامت الخارجية الروسية بوضع حالة التدهور التى تشهدها دولة السودان على عاتق الأطراف الخارجية، حيث أشارت فى بيان إلى ما يلى “أدى التدخل الأجنبى واسع النطاق فى الشؤون الداخلية للبلاد إلى فقدان ثقة مواطنى السودان فى السلطات الانتقالية، مما تسبب فى اندلاع احتجاجات متكررة وأثار حالة من عدم الاستقرار العام فى البلاد”.

مجموعة فاغنر

بدأت تتواجد مجموعة فاغنر الروسية والتى يمتلكها رجل الأعمال الروسى “يفغينى بريغوجين” المقرب من الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” بشكل رئيسى فى السودان منذ 2017 فى عهد الرئيس السودانى السابق “عمر البشير” حيث كانت تقوم بتدريب القوات الخاصة المعروفة بقوات الدعم السريع وتبادل المعلومات الاستخباراتية معها.

ومن أجل السيطرة على مناجم الذهب فى “دارفور” حيث منطقة جبل عامر والنيل الأزرق ومناطق سودانية أخرى قامت “فاغنر” بالشراكة مع قوات الدعم السريع بقيادة “حميدتى” المسيطرة على استخراج الذهب منذ فترة طويلة فى السودان وتعمقت الشراكة مع الأخيرة منذ تولى الجيش السودانى للسلطة فى أكتوبر عام  2021.

واتُهمت “فاغنر” على إثر الاشتباكات السودانية الراهنة بتورطها فى الصراع  وتقديم الدعم العسكرى للداخل السودانى، نظرًا لتمتعها بعلاقات عسكرية وتجارية فى السودان خاصة مع قوات الدعم السريع، ولكن نفى مؤسسها هذا الأمر، وصرحت روسيا عبر وزير خارجيتها عن حق السودان فى الاستعانة بخدمات “فاغنر” قائلة: “فاغنر شركة عسكرية خاصة، وأنه يحق لجمهورية إفريقيا الوسطى ومالى والسودان وعدد من البلدان الأخرى التى تلجأ حكوماتها وسلطاتها الشرعية إلى مثل هذه الخدمات، أن تفعل ذلك”.

وفى هذا الإطار أكدت مصادر خاصة لـ”CNN” أن مجموعة “فاغنر” قد زودت قوات الدعم السريع بالصواريخ والأسلحة الثقيلة لمساعدتها فى صراعها ضد الجيش السودانى، حيث أظهرت صور القمر الاصطناعى نشاطًا غير عادى يتبع قوات “فاغنر” عند الحدود الليبية، ووجود طائرة نقل روسية تنتقل بين قاعدتين جويتين ليبيتين ستسخدمهم مجموعة “فاغنر”.

مما سبق؛ على الرغم من التقارب بين موسكو والخرطوم فى السنوات الأخيرة على المستوى العسكرى والاقتصادى إلا أنه مقيد بحالة من عدم الاستقرار التى تشهدها البلاد، خاصة بعد الصراع الأخير بين المكون العسكرى “الجيش وقوات الدعم السريع”، الأمر الذى يجعلها تظهر بصورة غير مباشرة فى المشهد السودانى لصالح قوات الدعم السريع من أجل حماية مصالحها ونفوذها المرتبطة باستكمال القاعدة البحرية على البحر الأحمر “قاعدة فلامنجو” ونفوذها الاقتصادى والشراكات فى مجال التنقيب عن الذهب، فمن المؤكد أن تتدخل أطراف خارجية لصالح أطراف الصراع بصورة غير مباشرة، ومن ثم ترتبط حالة الاشتباكات فى السودان وإطالة أمدها، ومدى نجاح أو فشل المفاوضات بشأن التوصل إلى اتفاق بين الأطراف، باحتمالية التدخل الروسى بصورة مباشرة فى المشهد السودانى خاصة من خلال مجموعة “فاغنر” التى تربطها علاقات وثيقة بقوات الدعم السريع.

 

 

 

              

 

كلمات مفتاحية