إعداد: رضوى الشريف
تشهد الساحة الليبية تطورات متسارعة، في أعقاب تصويت البرلمان الليبي بالأغلبية، وفي غياب رئيسه، عقيلة صالح، الثلاثاء 16 مايو، على إيقاف رئيس الحكومة المكلفة من المجلس، فتحي باشاغا، وإحالته إلى التحقيق، وتكليف وزير المالية في الحكومة ذاتها، أسامة حماد، بمهام رئاسة الحكومة، الذي تعهَّد في أول خطاب بعد تكليفه، الأحد الماضي، بمدِّ اليد لـ”الجميع”، مشيرًا إلى الشروع في إطلاق “حوار وطني شامل”.
وفي محاولةٍ لإزالة الغموض والجدل حول القرار المفاجئ بإيقاف “باشاغا”، وإحالته للتحقيق، كثَّف المتحدث الرسمي باسم مجلس النواب، عبد الله بليحق، ظهوره الإعلامي، الأيام الماضية؛ لتوضيح أسباب وخلفيات القرار، وضمن تصريحاته ذكر “بليحق”، بأن عددًا من أعضاء المجلس قد طالبوا منذ فترة بالتحقيق مع “باشاغا”، حول أداء حكومته وعدم تنفيذها لأيٍّ من بنود البرنامج الذي قدَّمه لمجلس النواب، مؤكدًا أن “باشاغا” فشل في الإيفاء بالعديد من التزاماته، ومنها؛ دخول العاصمة طرابلس ومباشرة العمل منها، والحصول على اعتراف من المجتمع الدولي بالحكومة، الذي أثَّر على حضورها السياسي والدولي، رغم نيْلها الثقة من مجلس النواب، ولم يتحدث “بليحق” عن سبب تغيُّب رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، عن رئاسة الجلسة، التي ترأَّسها نائباه، الأول: فوزي النويري، والثاني: الهادي الصغير، كما لم يصدر – حتى الآن- أيَّ تعليق من جانب “باشاغا” حِيَالَ استجابته لقرار إيقافه وإحالته إلى التحقيق.
وأثار قرار البرلمان غضب خالد المشري، رئيس مجلس الدولة، الذي عبّر عن غضبه من قرار إيقاف “باشاغا” عن العمل وإحالته إلى التحقيق، واصفًا قرار مجلس النواب بـ”العبث السياسي”، ودعا “المشري” مجلس النواب إلى الالتفات لما وصفه بـ “مصلحة الدولة العليا” بالاتفاق مع المجلس الأعلى للدولة على خارطة طريق واضحة، تؤدي إلى الانتخابات، في ظلِّ حكومة مُوحَّدة صغيرة؛ لغرض إجراء الانتخابات، وإنهاء المرحلة الانتقالية، والكف عن الإسهاب في إصدار القوانين والتشريعات التي لا تتطلبها المرحلة الحالية.
لا شكَّ بأن الخطوة المفاجئة التي أقدم عليها البرلمان الليبي بإيقاف “باشاغا”، وتعيين “حماد” بديلًا له كرئيس للحكومة، تزيد من إرباك المشهد السياسي في البلاد، فماهي الأسباب الخفية وراء إيقاف “باشاغا” في هذا التوقيت؟ وماهي ارتدادات ذلك القرار على مصير المشهد السياسي في ليبيا؟
فوضى تشريعية وانقسامات داخل مجلس النواب
من الواضح أن عدم حضور عقيلة صالح، لجلسة الثلاثاء الماضي، يؤشر على وجود خلافات وأنه يرفض استبعاد “باشاغا”، فالنائب الأول الذي ترأَّس الجلسة، لم يوضح سبب تغيُّب “صالح”، كما هي العادة في كل الجلسات التي يترأسها في غياب “عقيلة”، كما أن عزوف أكثرية النواب عن حضور الجلسة، هو الآخر مؤشر على تلك الخلافات.
كما أن إصدار “النويري” قرارًا بمعزل عن “صالح”، بشأن ضرورة اجتماع المجلس دوريًّا ليوميْن من كل أسبوع، إشارة أخرى لرغبة طيْفٍ من النواب في استبعاد “صالح” من رئاسة المجلس، إلا أن إسقاط “باشاغا” قد يكون سهلًا، لكن ليس من السهل استبعاد “صالح” من منصبه، فهو يحظى بدعم إقليمي ودولي؛ وعليه لا بُدَّ من موافقة داعميه من الخارج على استبعاده، وهو أمر صعب؛ حيث سبق وأن كانت هناك محاولات سابقة لإسقاط “صالح” من رئاسة المجلس، وعلى الرغم من الأغلبية داخل مجلس النواب التي قادت تلك المحاولات، وأبرزها؛ اجتماعات طنجة المغربية، في نوفمبر 2020، وغدامس في ديسمبر 2020، وصبراته في فبراير 2021، غير أنها فشلت.
وفي وقتٍ لاحقٍ، مساء السبت الماضي، خرج رئيس مجلس النوّاب، عقيلة صالح، عن صمته، وأكد في تصريحات صحفية، بأن إجراءات إيقاف رئيس الحكومة الليبية المُكلَّف، فتحي باشاغا، كانت متسرعة، ولم تتم وفقًا للقانون، مشيرًا إلى عدم رضاه عن هذا القرار، ونوَّه إلى أن إجراءات إقالة الحكومة أو رئيسها تتطلب المساءلة ثم التحقيق، هذا وأشار “عقيلة” إلى أن إجراء الانتخابات يتطلب حكومة جديدة محايدة، موضحًا أنه لن يقبلوا إشراف حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، على الانتخابات.
يبدو أن خطوة البرلمان بإيقاف “باشاغا” أسفرت – بدون شك- عن وجود تصدُّع داخل الشرق الليبي؛ حيث أصحبت تتعالى الأصوات بأن مجلس النواب تتجاذبه أطراف متصارعة، همُّها الوحيد تحقيق مصالح شخصية مشتركة بينها وبين بعض العناصر من القوات المسلحة في الشرق الليبي، التي ثبت في أكثر من مرة تدخُّلها في قرارات البرلمان، ويستدل على ذلك بتصريح لعضو لجنة الأمن القومي بالبرلمان، علي التكبالي، الذي أشار إلى وجود حالةٍ من الاستقطاب داخل البرلمان الليبي منذ فترة، ما بين تيار مؤيد لـ”باشاغا” ويدافع عن بقائه، وآخر داعم لـ”الدبيبة”، ويريد الإطاحة بـ”باشاغا” وحكومته، وثالث يريد حكومة جديدة بعيدة عن المحاصصة.
قرار إداري أم سياسي؟
بالعودة إلى تصريحات عددٍ من أعضاء مجلس النواب بخصوص إيقاف “باشاغا”، هناك فجوة وتباين كبير حول دواعي إيقافه وإحالته للتحقيق، فمن الأسباب الإدارية التي تتعلق بالدور الرقابي للمجلس ومحاسبة الحكومة التي اختارها وما قيل: إنها تجاوزت تقصيرًا وقعت فيه الحكومة، منها؛ الفشل في الدخول للعاصمة طرابلس، وتأكيد سلطتها على المنطقة الغربية، وليس فقط وسط وشرق البلاد كما هو الحال اليوم، إلى التجاوزات التي ربما تصل إلى فساد، بحسب لجنة الرقابة التي أعدت تقريرًا بخصوص أداء الحكومة وأوجه صرف الأموال التي تحصَّلت عليها.
ومن النواب من أرجع أسباب الإقالة إلى تضارُب “المصالح” وخلاف بين عدد من أعضاء مجلس النواب ورئيس الحكومة المكلفة من قِبَلِهِ، حول مخصصات مشروعات وما في حكمها، تصل إلى ثلاثة مليارات دينار، رفض “باشاغا” متابعتهم فيها؛ فحركوا المجلس أو الأعضاء الذين صوَّتوا لصالح إيقافه والتحقيق معه في هذا الاتجاه.
أما المجموعة التي يرتفع لديها النَّفس الجهويّ في مجلس النواب، ساندت قرار الإيقاف، من منطلق أن “باشاغا” وحكومته لم يقدموا للمناطق التي تخضع له في الشرق شيئًا يُذكر، بينما “الدبيبة” وحكومته يطلق المشروعات التنموية في الغرب، وهم يطالبون بأن يكون على رأس الحكومة من يسعى في مصالح تلك المناطق.
وعلى صعيدٍ آخر، فإن بعض المراقبين اتجهوا إلى محركات تعلو على سلطة المجلس ومواقف أعضائه وكتله، وتُرجع ما وقع إلى تطورات سياسية في اتجاهات مختلفة، منها؛ التقارب بين “الدبيبة، وحفتر”، وأن إيقاف “باشاغا” وتعيين أسامة حمادة – الذي يربطه علاقة وطيدة مع “حفتر”- قد يفسح المجال لتسوية بينهما، تنتهي إلى تعزيز سلطة ونفوذ حكومة الوحدة الوطنية المنتهية الولاية في الشرق والجنوب، مقابل تنازلات لصالح “حفتر” تتعلق ببعض الصلاحيات في القرار المالي والأمني العسكري، ويستند هذا التكهُّن على ما ظهر من تفاهمات بين القوى العسكرية النافذة في الغرب والشرق، والتي جمعتها سلسلة من اللقاءات، رأى البعض أنها تخدم مسار التوافق الحكومي.
البعض اتجه بالتكهُّن أبعد من الجغرافيا الليبية، وأوعز قرار إيقاف “باشاغا”، واحتمال إدانته من قِبَلِ اللجنة التي كلفت بالتحقيق معه إلى تدافع بين “حفتر”، ومن خلفه الإمارات وروسيا، ومن جهة مصر ومن يساندها في سياستها تجاه الأزمة السودانية، ويستند هؤلاء إلى معلوماتٍ تؤكد أن هناك خلافًا بين “حفتر” والقاهرة ومحوره اليوم السودان – بسبب وجود أقاويل مرتبطة بدعم “حفتر” لقوات الدعم السريع- وأن الاتجاه غربًا صوْب حكومة الوحدة المنتهية ولايتها، والتي تحظى بمباركة إماراتية، يتطلب إخراج “باشاغا” وحكومته من المشهد، والترتيب مع حكومة الوحدة، بإدخال بعض التعديلات عليها، عن طريق ضمِّ مجموعة من الوزراء، ونائب لرئيس الحكومة، من ترشيح قائد قوات شرق ليبيا، على أن يستتبع ذلك السماح للحكومة بممارسة مهامها في المناطق الواقعة تحت سيطرة “حفتر”.
تحديات: قرار إيقاف “باشاغا “سيزعزع بنية التحالفات القائمة
ولكن من العوامل التي تُهدِّد بنسْف أيِّ صفقة تترتب على هذه الاتصالات، أن “الدبيبة” لا يحظى بتأييد كامل للمجموعات المسلحة في غرب البلاد، وفي طرابلس تحديدًا، هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر، فالعامل القبلي والاجتماعي له دوره المؤثر في شرق البلاد، ويميل بشكل أكبر إلى جانب عقيلة صالح.
فبجانب التحركات التي شهدتها ليبيا الفترة الأخيرة، استقبل رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، الخميس الماضي وفدًا كبيرًا من أعيان ومشايخ وحكماء المنطقة الغربية، وعددًا من أعيان ومشايخ وحكماء المنطقة الشرقية، وتناول اللقاء الذي انعقد بمدينة القبة الأوضاع السياسية في البلاد، ومطالب الشعب بالانتخابات، عن طريق تشكيل حكومة مصغرة ذات مهمات محددة، تنسق وتنظم الانتخابات.
وعلى هامش المساعي المصرية لاحتواء التطورات الأخيرة، أرسلت القاهرة وفديْن أمنييْن، أحدهما: إلى شرقي ليبيا، والآخر: إلى غربها، ذلك بعد وصول معلومات إلى القاهرة، بشأن خلافات بين “حفتر، وباشاغا”، تبعتها تحرُّكاتٌ من جانب الأول للإطاحة بالأخير.
في كل الأحوال، فإن قرار استبعاد “باشاغا” سيزعزع بنية التحالفات القائمة، فقد نرى تقاربًا أكثر قوة بين “عقيلة صالح، وخالد المشري” على الصعيد السياسي، فقد انطلق، الإثنين الماضي، في مدينة بوزنيقة المغربية، اجتماع اللجنة الليبية، المعروفة باسم “6+6″، والمكلّفة من مجلسَيْ “النواب، والدولة” بإعداد القوانين الانتخابية.
وقد نشاهد نشاطًا جديدًا لإحياء تحالف القوى العسكرية الموالية لـ”باشاغا” في مصراته مع القوى العسكرية التي يقودها، أسامة الجويلي، في الزنتان، التي قد تخطو خطوة جديدة لتهديد “الدبيبة” في معقله بطرابلس، التي لم تعُدْ القوى المسلحة فيها بذات ولائها السابق لـ”الدبيبة”.
خلاصة
أعادت التحرُّكات التي اتخذها البرلمان الليبي، بإيقاف رئيس الحكومة المكلف منه، فتحي باشاغا، إلى الأذهان طرْح قضية ضرورة توحيد السلطة التنفيذية في ليبيا؛ استعدادًا لإجراء الانتخابات “الرئاسية، والتشريعية”؛ لحسْم حالة الصراع على الشرعية، التي تعصف بالبلاد، منذ عام 2011.
وجرت اجتماعات ولقاءات مُكثَّفة بين ممثلين عن مختلف الأطراف الليبية، في عددٍ من العواصم العربية، خلال الأسابيع الماضية؛ للاتفاق على معالجة أزمة وجود حكومتيْن في البلاد، والدفْع قُدُمًا نحو “تعديل” حكومة الوحدة في الغرب، بحيث يتحقق التوافق الكامل حولها؛ وذلك لمعالجة أزمة الانسداد السياسي وحالة الاستقطاب التي يشهدها المشهد الليبي منذ أشهر، ويُذكر أن المفاوضات التي تجري لتعديل حكومة الوحدة، يطالب فيها ممثلو برقة بعددٍ من الوزارات السيادية، وفي مقدمتها “الخارجية، والمالية، والدفاع”، وهو ما يعارضه ممثلو حكومة الوحدة في هذه المفاوضات، الذين يريدون تحقيق توافق حول حكومة الوحدة، باعتباره مكسبًا أساسيًّا والتمسُّك ببعض الوزارات الفاعلة والمؤثرة خاصة السيادية.
أما ورقة فتحي باشاغا، التي كانت محاولة لفرض واقع سياسي جديد، بإيجاد حكومة موازية أسقطت بتحالفات أقوى منه، واللافت في الأمر، أن إيقاف “باشاغا” وإحالته للتحقيق، تم اتخاذه قبْل استدعاء الحكومة للمساءلة، وبالتوازي مع المحادثات المكثفة، التي تهدف لإيجاد سلطة تنفيذية موحدة ومقبولة لكافة الأطراف؛ وذلك تفعيلًا للنداءات التي توجهها البعثة الأممية، بضرورة عمل المكونات الليبية على تحقيق ذلك.
ما يجري في ليبيا حاليًا، هو محاولة لضبط المشهد السياسي وترضية كافة الأطراف بوزارات ومناصب في إطار حكومة واحدة، وهي حكومة الوحدة الوطنية، بالإضافة لتهميش دور بعض المؤسسات، والعمل الذي يجري على “قدم وساق”؛ لإدخال تعديل وزاري في حكومة الوحدة، يتم بالتوازي مع تكليف أسامة حماد، وزير مالية حكومة “باشاغا”، بتولِّي رئاسة الحكومة خَلَفًا للأخير، وذلك لتخوُّف بعض الأطراف السياسية الفاعلة، من فشل المفاوضات الجارية لتعديل حكومة الوحدة، وبالتالي يمكنهم العودة إلى المربع السابق، المتمثل في حكومة موازية، يديرها أسامة حماد، الذي يرتبط بعلاقات جيدة مع بعض الأطراف الليبية.
تداعيات ما يجري في ليبيا على المشهد السياسي
من المرجح بأن يكون لها تأثيرات كبيرة، في إمكانية إرجاء عملية تنظيم الانتخابات “الرئاسية، والتشريعية” إلى عام آخر، بالإضافة لتهميش عمل لجنة «6+6» التي كلَّفها البرلمان بإعداد القوانين الانتخابية، والتي ستعقد اجتماعاتها خارج البلاد؛ ما يشكل ضغطًا على البعثة الأممية، التي لم تكشف حتى اللحظة رؤيتها لتشكيل لجنة رفيعة المستوى، تتولى عملية الترتيب للعملية الانتخابية في ليبيا، خلال العام الجاري، كما يشدد المبعوث الأممي، عبد الله باتيلي.