تهديدات محتملة.. انعكاسات الأوضاع فى السودان على المصالح الأمريكية

إعداد: أكرم السيد

تعاملت الإدارة الأمريكية مع الصراع فى السودان منذ اندلاعه تعاملًا متدرجًا، اختلف باختلاف تمادى طرفى النزاع من الجيش وقوات الدعم السريع فى أعمال العنف، حيث أدانت واشنطن التصعيد العسكرى وطالبت بوقفه، وسرعان ما انخرطت مع أطراف إقليمية وتوصلت إلى عدد من الهدنات الإنسانية، ومن ثم تبنت واشنطن والسعودية مفاوضات غير مباشرة فى جدة جمعت ممثلين عن طرفى النزاع، ويأتى هذا انطلاقًا من أهمية الملف السودانى لواشنطن نظرًا لعدة اعتبارات نرصدها فيما يلى.

أولًا: مواجهة النفوذ الروسى:

يمتد الصراع الجارى بين الجيش السودانى وقوات الدعم السريع ليشمل أبعادًا دولية أكبر من كونه مجرد صراع داخلى بين طرفين سودانيين، فعلى الصعيد الدولى، وكما هو معلوم فإن الفترة الراهنة تشهد جمودًا كبيرًا فى العلاقات بين واشنطن وموسكو فى ضوء العملية الروسية فى أوكرانيا، وهذه الحالة من جمود العلاقات أدت بدورها لنشاط القضايا الخلافية الأخرى بين واشنطن وموسكو، وسعى البلدان إلى الانخراط فى الصراعات التى تنشب فى أجزاء متفرقة من العالم رغبة فى هندسة هذه الصراعات بالطريقة المُثلى التى تقطع على الطرف الآخر تحقيق مكاسب إستراتيجية، وعليه فإنه بالحديث عن السودان فإننا هنا نتحدث عن دولة مهمة بالنسبة لروسيا بالنظر إلى الاعتبارات التالية، والتى تنظر إليها واشنطن أيضًا بعين الاهتمام وتتخذها كمنطلق للتحرك تجاه الملف السودانى:

١- ثروات هائلة، فوفق العديد من الإحصائيات، فإن السودان يحتل مكانة متقدمة جدًا على صعيد القارة الإفريقية فى إنتاجه للذهب، حيث يقع فى المرتبة الثانية فى إنتاج الذهب، فضلًا عن امتلاء أراضيه بالعديد من المعادن الأخرى كالفضة والنحاس واليورانيوم، علاوة على ذلك، فإن الأراضى المؤهلة للزراعة فى السودان تقدر بحوالى ٢١٦ مليون فدان، وهو رقم ضخم يجعل السودان فى مصاف دول العالم من حيث قدراتها الزراعية.

كل هذه الأسباب تجعل الصراع فى السودان محل اهتمام بالغ من الأطراف الدولية لاسيما موسكو، نظرًا لثقل موارد هذه الدولة.

٢- قواعد عسكرية، فبالرجوع إلى تاريخ العلاقات بين موسكو والخرطوم، سنجد أن سجلًا حافلًا من الشراكات قد جمع البلدين معًا منذ الحقبة السوفيتية، وهذه الشراكات تتعاظم أهميتها فى الفترة الراهنة خاصة فى ظل الاضطرابات التى يشهدها المسرح الدولى، تلك الاضطرابات قد جعلت الدول الكبرى تنخرط بشكل أكبر من أجل استقطاب دول القارة الإفريقية إلى صفوفها.

وعليه، فإنه يمكن اعتبار السودان مثالًا واضحًا على ذلك كونها دولة تسعى الأطراف الدولية إلى استقطابها أو إدارة الصراع فيها بالطريقة التى تحقق من خلالها أهدافها، وتحبط أيضًا من خلالها نوايا وأغراض وخطط الأطراف الأخرى، ولذا فإن موسكو تنظر إلى السودان باعتباره بوابة عسكرية لها على البحر الأحمر، وأن تدعيم العلاقات مع الخرطوم يمكنه أن يؤدى لتحقيق وتعظيم هذا المسعى، بالإضافة إلى ذلك فإن اتفاقيات كثيرة تجمع البلدين قد سهلت من عملية استخدام الأراضى السودانية لإرسال الأسلحة والذخيرة إلى البلاد ومنها إلى مختلف دول القارة.

٣- دور فاغنر فى الصراع، حيث إنه منذ بداية الصراع فى أبريل الماضى، تواردت العديد من المعلومات التى تفيد بانخراط مجموعة فاغنر فى الصراع السودانى، وعلى الرغم من توارد معلومات بهذا الشأن إلا أن فاغنر قد نفتها تمامًا، حيث قالت المجموعة على لسان قائدها إنه لم يكن هناك مقاتل واحد منها فى السودان منذ ما يقارب العامين، وعلى أى حال، وسواء كانت فاغنر منخرطة فى الصراع أو غير منخرطة، فإن لدى الإدارة الأمريكية مخاوف من أن تستخدم موسكو هذه المجموعة لتحقيق مزيد من النفوذ فى السودان، لاسيما وأن موسكو قد استخدمت فاغنر فى العديد من دول الجوار المحطية بالسودان لتدعيم نفوذها فى القارة الإفريقية.

ثانيًا: تدعيم الوجود العسكرى:

عكس الصراع الجارى فى السودان الأهمية الإستراتيجية للتواجد العسكرى فى المنطقة بشكل كبير، ذلك التواجد الذى قل مداه فى الفترة الماضية – تحديدًا منذ فترة حكم الرئيس دونالد ترامب- ولم يصبح على نفس الوتيرة التى كان عليها من قبل.

وعليه، فإن ثمة أهمية ملحة للتواجد الأمريكى فى السودان، وقد استندت هذه الأهمية -فى ضوء الصراع فى السودان- على عدة مؤشرات، ومن الوارد أن تستند عليها الولايات المتحدة فى الفترة القادمة لإعادة رسم تواجدها العسكرى فى السودان، وهى كالتالى:

  1. القاعدة الأمريكية فى جيبوتى، كان للقاعدة الأمريكية فى جيبوتى دور كبير منذ بداية الصراع فى السودان خاصة فى إجلاء الرعايا الأمريكيين، حيث تمتلك الولايات المتحدة فى جيبوتى قاعدة عسكرية يقدر عدد جنودها بألفى جندى، وأضافت واشنطن إليها مئات الجنود للمساعدة فى عمليات الإجلاء، لذا فإن هذه الأهمية التى قد عكسها الصراع فى السودان للقواعد العسكرية من الممكن أن تزيد من احتمالات وجود قاعدة عسكرية أمريكية فى السودان مستقبلًا، لاسيما وأن هذه المنطقة من القارة الإفريقية منطقة ذات أهمية مركبة لواشنطن، نظرًا لتعلق الأمر بمكافحة الإرهاب وبالتحديد الإرهاب الذى ينشط فى الصومال وتقوده حركة الشباب، أو تعلق الأمر بخطوط الملاحة فى البحر الأحمر ومضيق باب المندب.
  2.  التواجد العسكرى فى بورتسودان، تشهد سواحل بورتسودان السودانية المطلة على البحر الأحمر تواجدًا عسكريًا أمريكيًا يتمثل فى عدة قطع بحرية وحاملات طائرات تابعة للولايات المتحدة، إذ لا يستبعد أن يتحول الأمر فى المدى القريب من مجرد قطع عسكرية طفيفة إلى قاعدة عسكرية، إذ أنه فى ظل الحديث عن استخدام روسيا لقوات فاغنر فى المنطقة، والمخاوف المتعلقة بأن يتحول البحر الأحمر وخطوطه الملاحية اللصيقة بالسودان إلى منطقة مضطربة أمنيًا، لا يستبعد أن تشرع الولايات المتحدة فى هذا المسعى المتعلق بإنشاء قاعدة عسكرية -تعمل جنبًا إلى جنب مع قاعدتها فى جيبوتى- خاصة وأن الصراع فى السودان يزيد الاتجاه لذلك مع اقتراب البلاد من حالة اللادولة.
  3.  مواجهة النفوذ الدولى فى البحر الأحمر، إن نظرة الولايات المتحدة للبحر الأحمر لا تتعلق فقط بكونه ممرًا ملاحيًا عالميًا يسهم انتظام خطوط الملاحة فيه إلى ضمان تيسير حركة التجارة العالمية، حيث تمتد أهمية البحر الأحمر لأبعد من هذا، ولعل اعتبار البحر الأحمر بمثابة الجدار العازل لتحركات روسيا والصين تجاه القارة الإفريقية هو ما يهم الولايات المتحدة فى هذا الوقت، خاصة وأن حركة الملاحة عبر البحر الأحمر تسير بشكل جيد، كما أنه ليست من مصلحة أى من الأطراف الدولية المتصارعة أن تعرقل حركة الملاحة فيه، إذ أن الأضرار سوف تقع على عاتق الجميع، وبطبيعة الحال لن يستفيد أحد من كل ذلك، وفى الوقت الذى قد تسعى فيه موسكو لاستخدام أذرعها العسكرية لتدعيم تواجدها فى السودان، وقد تسعى أيضًا بكين للانخراط بشكل جاد فى مختلف القضايا الدولية وإيجاد سبل تسوية لها، فسوف يتوازى معه بالتبعية اهتمام أكبر وجاد من واشنطن للانخراط فى الملف السودانى ومواجهة تمدد نفوذ الخصوم.

ثالثًا: دور صينى نشط:

فى الوقت الذى كانت تضع فيه الولايات المتحدة السودان فى قائمة الدول الراعية للإرهاب وتفرض عليها عقوبات متنوعة فى جميع المجالات، عملت الصين على تطوير علاقاتها مع السودان بطريقة أدت إلى جعل بكين من أكبر شركاء الخرطوم على الصعيد التجارى، إذ استفادت الخرطوم من القطيعة الدولية المفروضة عليها فى تنمية علاقاتها مع الصين فى مجالات عدة، حيث وجدت الخرطوم منفذًا لتصريف منتجاتها النفطية لتصبح من أكبر مصدرى النفط إلى بكين، بالإضافة إلى شروع بكين فى تنفيذ العديد من المشروعات التنموية ومشروعات البنى التحتية بطريقة أدت بمرور الوقت لزيادة فاتورة الديون السودانية التى اقترضتها السودان من الصين وتحولها لأرقام لم تستطع السودان الوفاء بها حتى الآونة الأخيرة.

وخلاصة القول، إن الفراغ الذى غلب على مجمل العلاقات السودانية الأمريكية أدى من الناحية الأخرى إلى تنامى فى علاقات السودان والصين، وهو ما تضعه الإدارة الأمريكية فى الحسبان هذه المرة، فمنذ اندلاع الصراع الحالى بين طرفى المكون العسكرى فى السودان، تعقد العديد من الآمال على الدور الصينى وقدرته على لعب دور الوسيط بين طرفى الأزمة السودانية، لاسيما وأن الدبلوماسية السودانية تعيش دورًا نشيطًا فى إطلاق المبادرات ولعب دور الوساطات فى العديد من الأزمات الدولية الراهنة، ولعل لعب الصين -فى الآونة الأخيرة- دور الوسيط بين السعودية إيران، وكذا إعلانها الاستعداد للتوسط فى القضية الفلسطينية، فضلًا عن تقدمها بإعلان مبادرة سلام لإيجاد حلًا للحرب الروسية فى أوكرانيا، كل ذلك ينبأ بأن تغيرًا ملحوظًا فى النهج الصينى حيال قضايا المنطقة والعالم قد برز وآخذٌ فى التطور.

وعليه، فى ظل عدم نجاح الجهود الجارية إلى الآن فى إيجاد حلًا لوقف إطلاق النار بشكل دائم بين قوات الجيش وقوات الدعم، واختراق الجانبين للعديد من الهدنات المُعلن عنها سلفًا ولم يلتزما بها، فإن فكرة لعب الصين دور الوساطة فى هذا الصراع لا يمكن اعتبارها بالأمر المستعبد، خاصة وأنها قد لعبت مثل هذه الدور فى أزمات سابقة بين دول القارة، وهو ما لن تستقبله واشنطن بالترحيب على أى حال.

رابعًا: استقرار إقليمى مهدد:

ليس من قبيل المبالغة القول بإن حالة عدم الاستقرار التى تشهدها الدولة السودانية سوف تلقى بظلالها على أوضاع الإقليم، فعلى الرغم من أن الوضع الحالى كارثى على المستوى الإنسانى الداخلى فى السودان، فضلًا عن انعكاس الأوضاع السودانية المضطربة على دول الجوار المحيطة بها، إلا أنه على المستوى المتوسط والبعيد إذا استمر الصراع الجارى إلى مدى زمنى طويل، فإن ثمة حالة من الأعباء غير المنظورة والملاحظة الآن سوف تضرب دول الجوار كافة، بل سيمتد الأمر ليصل إلى أبعد من ذلك، إذ إن بإمكان حالة عدم الاستقرار هذه أن تضرب أمن منطقة البحر الأحمر الذى يتداخل فى حمايته العديد من الأطراف وهو ما سيزيد الأوضاع سوءً.

ومن زاوية أخرى، فإن استمرار هشاشة الدولة السودانية، ينبأ بتزايد نشاط العناصر والجماعات الإرهابية، والنظر إلى الدولة السودانية، نجد أن الوضع هناك لا يقتصر على صراع الجيش وقوات الدعم فحسب، بل تعانى الدولة السودانية من الافتقار إلى وضع حد لانتشار الأسلحة خارج منظومة الدولة، وكذا انتشار الجماعات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام وغير الموقعة عليه، فضلًا عن تواجد ملحوظ للأبعاد القبلية هناك، يتوازى مع ذلك حالة نشاط للجماعات الإرهابية فى دول المنطقة كحركة الشباب فى الصومال.

وعليه، فإن الأوضاع الراهنة المضطربة من شأنها تعطيل استمرار الحالة الأمنية التعاونية بين الخرطوم وواشنطن التى أعقبت إسقاط نظام البشير، وهو ما سيتطلب تحرك سريع من الإدارة الأمريكية لاحتواء الأوضاع.

خامسًا: تحركات أمريكية:

منذ اليوم الأول من اشتعال الصراع، دعت الإدارة الأمريكية لضرورة الوقف الفورى لإطلاق النار، وعلى الرغم من هذه الدعوات المتكررة، إلا أنها لم تقابل باستجابة من طرفى النزاع، بطريقة جعلت البعض يذهب إلى القول بإن الملف السودانى لا يأخذ مرتبة متقدمة فى أولويات الإدارة الأمريكية، إذ اقتصر الأمر عند حد المطالبات ولم تتحول هذه المطالبات إلى مبادرات ملزمة ذات بنود واضحة.

وفى أعقاب استمرار الصراع بين قوات الجيش وقوات الدعم، فإن ثمة تحولًا ملحوظًا فى تعامل الولايات المتحدة مع الملف السودانى، إذ نجحت الإدارة الأمريكية بالتعاون مع السعودية فى التوصل إلى عدد من الهدنات وصلت إلى ما يقارب العشر هدنات، وعلى الرغم من هذا العدد من الهدنات، إلا أنها لم تلقَ الاستجابة المأمولة، حيث استمرت الاشتباكات دون أى مراعاة للموافقة التى أبداها طرفا النزاع لوقف إطلاق النار والدخول فى هدنة إنسانية.

وبينما كان طرفى النزاع يرفضان فى بداية الأمر اللجوء إلى طاولة المفاوضات، فإن ثمة تحولًا فى موقفيهما قد طرأ، إذ أعلن كل طرف استعداده المشاركة بوفد فى مفاوضات غير مباشرة ترعاها الولايات المتحدة والسعودية وتقام فى جدة، وعلى الرغم أن محادثات جدة لم تنجح إلى الآن فى التوصل لوقف إطلاق نار دائم، إلا أنها تعتبر خطوة إيجابية بعد مرور أكثر من شهر على بدء الصراع، وفيما يتعلق بالدور الأمريكى، فإنه كان من الطبيعى أن تكون المفاوضات الجارية حاليًا فى جدة برعاية أمريكية، فبالنظر إلى حجم التهديدات التى أشرنا إليها، فكان من المنتظر أن يؤدى ذلك لاتخاذ الولايات المتحدة زمام المبادرة، وإلا فإن من شأن تفاقم الأوضاع السودانية أن يهدد المصالح الأمريكية العليا فى المنطقة.

ختامًا

إن الآمال تتعلق حاليًا على المفاوضات التى تجرى برعاية أمريكية سعودية فى جدة فى أن تفضى إلى اتفاق دائم لوقف إطلاق النار، يمهد لاحقًا للدخول فى تسوية سياسية للمشهد السودانى، وفيما قد يبدو أن تعليق الآمال بقرب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار هو سيناريو حالم وطموح للغاية على الأقل فى الوقت الراهن الذى نشهد فيه عنادًا من قبل طرفى النزاع وتبادل الاتهامات، فضلًا عن استمرار القتال على الأرض ظنًا منهما أن بإمكانهما أن يحققا انتصارًا عسكريًا يضمن لهما السيطرة على البلاد، فإن لدى الولايات المتحدة هنا العديد من الأدوات الأخرى بخلاف الأداة الدبلوماسية التى ربما قد لا تُجدى نفعًا على المدى القريب، إذ بإمكان واشنطن أن تفعّل أدواتها الأخرى كالعقوبات الاقتصادية والعسكرية لإجبار الأطراف على اللجوء إلى  حوار جاد من شأنه إنهاء الأزمة، وهو ما ستسفر عنه الفترة المقبلة.

كلمات مفتاحية