إعداد/ جميلة حسين محمد
بدأ الإخوان المسلمين فى الآونة الأخيرة البحث عن بيئة حاضنة لتكون ملاذًا آمنًا لهم فى ظل الضربات العديدة والحصار الأمنى المفروض عليهم فى معاقلهم التقليدية والسابقة، خاصة بعد التحرك التركى الأخير الرافض بتجنيس 100 عنصر من الجيل الثانى من عناصر الإخوان المسلمين، فكان التحرك نحو شرق أوروبا وبالتحديد البوسنة حيث معقل الإخوان قديمًا من آواخر القرن الماضى عن طريق ارتباطتها بشبكة واسعة من المؤسسات والكيانات، فما خلفية التواجد الإخوانى فى البوسنة؟ والطرح الأهم لماذا الاتجاه نحو شرق أوروبا والبوسنة تحديدًا؟ وما هى أهم الرؤى المستقبلية بشأن وضع الجيل الثانى من الإخوان المسلمين؟
تاريخ الإخوان المسلمين فى البوسنة
يرجع نفوذ الإخوان المسلمين فى البوسنة بفترة الحرب العالمية الثانية عام 1939 حينما تم تأسيس جمعية “الشبان المسلمين” على غرار جماعة الإخوان المسلمين وكان (على عزت بيجوفيتش) الذى أصبح فيما بعد أول رئيس للبوسنة المستقلة عضوًا فيها، وحاولت تلك الجمعية بناء شخصية مسلمة تستطيع التعايش مع الواقع الأوروبى، وتأثرت أفكار الطلاب الذين درسوا فى الأزهر الشريف بفكر جماعة الإخوان المسلمين فى مصر، وتطوع الإخوان بالذهاب إلى البوسنة والهرسك ذات الأغلبية المسلمة وقاموا بدور كبير من أجل نشر الفكر الدعوى الخاص بهم، وأدى مندوبو الجماعة دورًا مهمًا هناك، من خلال جمعيات مثل “الوقف”، و”المنتدى”، ومؤسسة “الحرمين”، حيث تكفلت تلك الجمعيات بترتيب أمور عناصر الإخوان واستطاعت الجمعية استنباط أن الإسلام أيدولوجية وفكر وليس دائمًا ينحصر فى حدود الفرد والعبادات، ومن ثم نظرت بشكل أكثر انفتاحًا للإسلام وحركاته ومحاولات إدخاله فى جميع مناحى الحياة.
عاد الحديث مرة أخرى عن جماعة الإخوان فى بداية تسعينات القرن الماضى مع الحرب العرقية التى اجتاحت مجتمع البوسنة والهرسك، وما نتج عنها من عمليات الإبادة الجماعية والتشريد، الأمر الذى سنح الفرصة أمام الجهاديين والإسلامويين للتواجد بقوة وأصبح لها كيانات وتجمعات تحت ستار إعادة البناء والتعمير فى “سراييفو” والأقاليم المحيطة بها وتقديم الدعم والمساعدات الإغاثية والإنسانية وتقديم الدعم العسكرى أو المادى، الأمر الذى عزز من تواجد هذا التيار الإخوانى فى البوسنة، وبالفعل أسست الجماعة فرعًا تابعًا لها فى البوسنة باسم “جماعة الشباب المسلمين”، على سبيل المثال توجد قيادات مثل (أحمد الملط)، و(عبد المنعم أبو الفتوح)، و(أشرف عبد الغفار) باعتبارهم مسؤولى إغاثة تابعيين لنقابة الأطباء المصرية، وأسس الأخير مؤسسة تُدعى “التضامن” عام 1994 اندرج تحتها غالبية قيادات الإخوان فى البوسنة مثل (حشمت خليفة)، و(حمزة زوبع)، وتم تأسيس حزب العمل الوطنى الديمقراطى البوسنى فى مايو 1990 على يد (على عزت بيجوفيتش) وتضمن قيادات إخوانية كثيرة أبرزهم (محمد الفاتح على حسنين) الأمر الذى ساعد جماعة الإخوان فى تقوية نفوذهم وسنح لهم فرصة للتواجد والانتشار.
تزامن ذلك مع إنشاء عدد من الجمعيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية التى تعمل فى المجال الإنسانى لكنها فى حقيقة الأمر تنشر التطرف على حساب العمل الإنسانى وتقوم على عدد من المشاريع الدعوية، على سبيل المثال “جمعية الثقافة والتعليم والرياضة/ AKOS” العضوة فى اتحاد المنظمات الإسلامية فى أوروبا، تلك الجمعية غير حزبية وغير حكومية وغير هادفة للربح، لكنها تعتبر مظلة للإخوان فى البوسنة ويقع تحت سيطرتها 5 جمعيات، وتتولى ملف التعليم والتثقيف الدينى للشباب، وارتبط التنظيم العالمى للإخوان بشخصيات محلية ذات أهمية فى البوسنة على سبيل المثال الرئيس السابق (إيشا إزتبريغوفيتش)، وابن الرئيس الراحل على عزب بيجوفيتش (بكر عزت بيجوفتش)، والمفتى السابق(مصطفى سيريتش) الذى كان عضوًا فى المجلس الأوروبى للقتوى والبحوث المرتبط بجماعة الإخوان المسلمين، والمفتى الحالى (حوسين كافازوفيتش).
محفزات اللجوء إلى شرق أوروبا
- حصار دول غرب أوروبا
تلقت جماعة الإخوان المسلمين عدة ضربات متتالية من جانب دول أوروبا الغربية لمكافحة خطر التيارات الإسلاموية المتطرفة فى الداخل الأوروبى، حتى مع تلك النظم التى كانت تربطها علاقات قوية بقيادات الإخوان فى السابق، وذلك فى إطار الضغوط الموجهة إليها بضرورة مواجهة نشاط الإخوان للتمكن فى نهاية الأمر من دحر التنظيم والتضييق على نفوذه الممتدة، وقد تركزت تلك المواجهة على وضع الجمعيات والمؤسسات الخاضعة لسيطرة الإخوان تحت الرقابة، وتقديم تقارير دورية بشأنها، والكشف عن المراكز الخفية التابعة لها، والتى يتم اتخاذها كستار لتحقيق أهدافه، والتضييق على أنشطة التنظيم السياسية والاقتصادية، فضلًا عن وضع مصادر تمويل التنظيم تحت الرقابة، ومصادرة الأموال فى حال الكشف عنها.
فعلى سبيل المثال صادرت فرنسا الشهر المنصرم 25 مليون يورو من أموال التنظيم، وذلك على خلفية مراقبة صناديق الإخوان، والتحقيق فى قضايا الإرهاب والتطرف التى تتعلق بأنشطة الجماعة، وتستمر السلطات الفرنسية تحقيقاتها حول مصادر تمويل الجماعة والصناديق التى تقوم بالتمويل غير المباشر لصالح أنشطة جماعة الإخوان المتنوعة والمرتبطة بالجمعيات المدنية والخيرية والمساجد، بينما أنشأت النمسا مركزًا لتوثيق الإسلام السياسى من أجل مراقبتها وإعداد تقارير عن أنشطتها ورفعها إلى السلطات المعنية، كذلك استمرت التحقيقات بخصوص ملفات تمويل الجمعيات والمؤسسات المرتبطة بالإخوان وتمت مصادرة 20 مليون يورو من أموالهم.
ومن ناحية أخرى أقرت فيينا عددًا من التشريعات والقوانين لتجريم التطرف السياسى بدوافع دينية، وتسهيل عملية مراقبة ومكافحة الجماعات المتطرفة خاصة على شبكات الإنترنت، أما فيما يخص بريطانيا على الرغم من أن لندن كانت الملاذ الآمن لجماعة الإخوان المسلمين فهى من رعت تأسيس الجماعة على يد (حسن البنا)، ولكن بدأت العلاقة بينهم تدخل مرحلة جديدة منذ استيعاب تأثير الجماعة السلبى على أوروبا وبريطانيا، وذلك فى ظل تحذير عدد من التقارير الاستخباراتية من خطر تنامى الجماعة خاصة فى إطار رصد تنامى غير مسبوق لأنشطتهم فى سبيل نشر الأفكار المتطرفة فضلًا عن التساؤلات المطروحة من جانب أعضاء البرلمان حول طبيعة عمل الإخوان وتوسيع أنشطتهم فى لندن والتخوف من التهديدات الأمنية التى يعكسها تواجد التنظيم.
- رفض تركى
بعد فوز الرئيس التركى (رجب طيب أردوغان) بولاية رئاسية جديدة بدأت حكومته بانتهاج سياسة تقاربية لتحسين العلاقات مع جمهورية مصر العربية حيث ترغب أنقرة برفع مستوى التمثيل الدبلوماسى مع القاهرة وتسعى لإزالة أى عقبات قد تعيق هذا الأمر، وعليه اتفق وزير الخارجية المصرى (سامح شكري) ونظيره التركى (هاكان فيدان) هذا الشهر عبر اتصال هاتفى على أهمية استعادة العلاقات بين البلدين بصورة كاملة فضلًا عن أنباء اللقاءات القادمة بين الرئيسين المصرى والتركى، وعلى أثر تلك التغييرات لدى صانع القرار التركى نال الإخوان المسلمون نصيبهم منها حيث رفضت السلطات التركية تجنيس قائمة تضمن حوالى 100 عنصر من عناصر وشباب الإخوان المسلمين من ضمنهم عناصر مصرية من أجل ترحيل عناصر من الجماعة، وكان على رأسهم الداعية المصرى المحكوم عليه بالإعدام (وجدى غنيم) بالإضافة إلى وضع أربعة من قيادات الإخوان تحت المراقبة نظرًا للاشتباه فى عدم مشروعية أنشطتهم وهم (وائل العلامي)، و(إسماعيل القاضي)، و(إبراهيم عيد)، و(أمجد الزعبوط).
- محدودية التأثير فى شرق أوروبا
برز التواجد الإخوانى فى شرق أوروبا للهروب من الخطر الداهم فى معاقل الشرق الأوسط وأوروبا الغربية والتمكن من ممارسة نشاطها بحرية وتحقيق أهدافها بعيدًا عن الرقابة المشددة عبر الجمعيات والمؤسسات التابعة لها، وحقيقة الأمر لا توجد معلومات دقيقة حول أعداد الإخوان فى دول شرق أوروبا حاليًا ولكن أغلب التقديرات تشير أن غالبية عناصر التنظيم تسللوا سرًا إلى تلك المجتمعات عبر شبكات صغيرة ثم بدأت فى النمو شيئًا فشئ، وتضمن دول أوروبا الشرقية كلًا من(أوكرانيا، بولندا، رومانيا، التشيك، سلوفاكيا، المجر، كرواتيا، سلوفينيا، البوسنة والهرسك، الجبل الأسود، ألبانيا، اليونان، أرمينيا، أذربيجان، بيلاروسيا، بلغاريا، جورجيا، صربيا، مقدونيا، مولودفا، ووقع الاختيار على البوسنة نظرًا للتاريخ الطويل بين الجماعة وبين البوسنة وكذلك التداخل الكبير وبين الجماعة وجماعة الإخوان فى مصر، حيث تتبع جماعة الإخوان فى البوسنة تنظيم الجماعة الأم فى مصر، كذلك تضم نسبة كبيرة من السكان المسلمين حيث تبلغ أكثر من 50%، ورغم ذلك إلان أن تواجد التنظيم فى شرق أوروبا لا يزال يتسم بمحدودية التأثير بشكل نسبى.
الرؤى المستقبلية للجيل الثانى للإخوان
عقد التنظيم الدولى للإخوان المسلمين فى البوسنة ثلاثة اجتماعات فى بداية هذا العام كان أهمهم يتضمن مناقشة مصير العناصر الإخوانية فى تركيا فى حالة رحيل الرئيس التركى، وطرح فى هذا الاجتماع اختيار النمسا والبوسنة وكوسوفو لتكون ملاذات آمنة للقيادات الإخوانية كبديل لتركيا، ولكن ما حدث على عكس المتوقع هو فوز أردوغان ولكن مع ترحيل الجيل الثانى لعناصر الإخوان، ومن ثم استدعى هذا القرار عدة احتمالات وخطط من جانب العناصر الإخوانية يمكن استنتاجها فيما يلى:
- التوجه إلى دول أوروبا الشرقية نظرًا لحالة الاطمئنان التى تعيشها تجاه التنظيم، الأمر الذى يعطى للتنظيم مساحة كافية للتمدد وتعزيز من نفوذه وأنشطته فى المرحلة المقبلة.
- التوجه نحو بريطانيا حيث جبهة لندن على الرغم من حالة التهديد والتشرذم الذى تواجهه الجبهة هناك، كذلك ألمانيا التى يتواجد فيها التنظيم بقوة، فضلًا عن التسلل نحو كندا.
- التوجه نحو أفغانستان حيث علاقة التقارب والتعاون بين التنظيم وحركة طالبان الأفغانية التى تصاعدت بعد وصول طالبان إلى السلطة، مما يوفر الملاذ الآمن للتنظيم ويتيح له مواصلة أنشطته السياسية.
- التوجه إلى أفريقيا: قد تتمكن الجماعة من اللجوء إلى عدة دول فى أفريقيا كجنوب أفريقيا وكينيا على سبيل المثال لما تتمتع به معظم الدول الأفريقية من مساحة محدودة فى الرقابة وقدرة أكبر على إقامة علاقات وثيقة مع مسؤولين على مستويات عالية فى هذه الدول، فضلًا عن القدرة على التهرب من القيود المرتبطة بتمويل الإرهاب.
- التوجه نحو آسيا على سبيل المثال عبر ماليزيا وأندونيسيا، ولكن هذا الخيار سيكون محدودًا أمام المعطيات المحلية الإقليمية الخاصة بهم والتى تفرض عائقًا أمامهم للتحول إلى قاعدة لتسلل الجيل الثانى من عناصر التنظيم.
مما سبق؛ بالنظر إلى المراحل المختلفة لتاريخ الإخوان المسلمين يمكن استنباط حالة الاستنفار والمطاردات وتغير المواقف السياسة تجاهها، مما يجعلها تتسم بقدرتها السلسة على التكيف مع التغييرات، الأمر الذى يضعها أمام الخطط البديلة لإيجاد أماكن تتسع لأنشطتها وتحقيق أهدافها التوسعية، وفى إطار استشعار خطر التواجد الإخوانى الأمنى والسياسى وتغلغله فى المجتمعات الأوروبية من ناحية، واتجاه أنقرة لتقويض الجماعة وترحيل عناصرها والموالين لها من ناحية أخرى، مما يجعل الإخوان المسلمين أمام البحث عن بديل فما لبثوا إلا وكان الاتجاه نحو شرق أوروبا، حيث البوسنة ذات التاريخ القديم مع الإخوان والتى من المتوقع أن يمتد التنظيم بأذرعه داخلها ويعزز نفوذه فى بقع أخرى للمام شتات أمره، وها هى أزمة جديدة على عاتق جماعة الإخوان فهل سيستطيع فى الفترة المقبلة تنظيم صفوفه مرة أخرى، أم ستنضم تلك الأزمة إلى العديد من الأزمات التى يعانى منها التنظيم؟