مصطفى أحمد مقلد
مقدمة:
يبدو أن الحرب “الروسية – الأوكرانية” لم تكن بين طرفيْن فقط هما “روسيا، وأوكرانيا”، أو بالأحرى لم تستمر على ذلك كثيرًا، فبعد المقاومة الأوكرانية ظهر الدعم الغربى الهائل لأوكرانيا، وعلى الجانب الآخر من جبهة القتال، كانت مجموعة فاغنر داعمًا ومساهمًا بجانب الجيش الروسي، غير أنه مع استمرار القتال ظهرت اختلافات جوهرية بين الجيش الروسي وخططه من جهة ومجموعة فاغنر؛ ما خلق نوعًا من التنافس في البداية، ثم تحوَّل إلى توتُّر وإرسال الانتقادات من جانب فاغنر، وحتى اتهامها القوات الروسية بمهاجمة معسكراتها، وصولًا إلى إعلان فاغنر التمرُّد؛ ما أحدث شرخًا في طبيعة القوات الروسية المقاتلة في الحرب، وخلال فترة التمرد التي لم تستمر إلا ساعات، بدا وكأن هناك 3 جهات تتقاتل هي: “روسيا، وفاغنر، وأوكرانيا”.
ويعنينا في هذا الشأن، أن نشير لطبيعة التمرد، وهي تظهر في تصريحات قائد فاغنر، حين أشار لسخطه من وزير الدفاع الروسي وأسلوب القتال، وانتقاده رجال “بوتين” المقربين، وأنهم يخفون عنه الحقيقة، دون التطرق لمهاجمة “بوتين” ذاته، وكذلك تظهر في طبيعة المنافسة بين وزير الدفاع الروسي وقائد فاغنر على التقرُّب لـ”بوتين” وحتى التنافس على السلطة وحجز مقعد خليفة “بوتين”.
تداعيات التمرد:
جاء قرار “بوتين” بوضع خياريْن أمام فاغنر؛ إما الانخراط في الجيش الروسي أو الخروج إلى بيلاروس، وهو ما يشير وفق ما يتراءى لنا أن “بوتين” لا يريد القضاء تمامًا على تلك الميليشيات؛ لما توفره له من نفوذ واضح في أفريقيا، كما أنه يريد الحفاظ على جبهةٍ واحدةٍ فقط للقتال، وعدم اختيار المواجهة المسلحة مع فاغنر على أرض روسيا؛ ما قد يهدد روسيا في حربها مع أوكرانيا على جبهة القتال، بجانب أنه تهديد للسلم الداخلي الروسي، خاصةً عند العلم بتورط بعض قادة الجيش الروسي في دعم التمرد، ويمكن أن يكون ذلك هو الرهان الذي شجَّع فاغنر على التمرد.
بعد تدخُّل “لوكاشينكو” للوساطة، يبدو أن الأطراف الثلاثة حققت مكاسب، فروسيا انتقلت بذلك لحصر السلاح في يد الدولة ولم تفتح جبهة قتال أُخرى، ولم تقم بالإضرار بنفوذها في أفريقيا المتحقق عبر فاغنر على الأقل حتى الآن، وبالنسبة لبيلاروسيا، فيبدو وكأن روسيا أصبحت مدينة لها بعد تدخلها السريع وإخراجها من ذلك المأزق، كما أنها تريد أن تبدو أمام أوروبا كأنها غير تابعة بالكامل لروسيا، بل إن الدولتين تتعاونان، بالنسبة لفاغنر فإنها أرسلت رسالة بأنها قادرة على تقديم مفاجآت، وأنها تحمي جنودها وأنها قوة لا يُستهان بها، وهو ما يظهر في تصريحات قائد فاغنر الأخيرة، حول سخريته من قلق دول “البلطيق، وبولندا” من انتقاله لبيلاروسيا.
يظل وجود الغرب في كواليس الحدث موضع غموض؛ حيث تثار تساؤلات حول موقف الغرب من تمرد فاغنر وفرص إحداثها شرخًا في الجبهة الداخلية الروسية، بما يعود بالنفع على مآلات الحرب الأوكرانية، خصوصًا بعد أن أشارت تقارير إلى علم المخابرات الأمريكية بما تنوي فاغنر القيام به دون تحذير الكرملين، غير أن الرئيس الأمريكي، ووزير خارجيته، أعلنا أن الولايات المتحدة لا تزال تدرس وتتابع ما حدث عن كثب، كما أوضحا امتعاضهما من ذلك التمرُّد؛ لما فيه من تهديد الأمن الروسي الداخلي، ويبدو أن رواية دعم الولايات المتحدة لفاغنر “التي يتبناها الكرملين”، تحمل إشكاليات منطقية؛ فالولايات المتحدة تضع في أولوياتها مواجهة فاغنر في أفريقيا؛ بالتالي فمعادلة المصالح بين الطرفيْن “الولايات المتحدة، وفاغنر” تقترب من أن تكون معادلة صفرية.
فاغنر في بيلاروس:
حذَّر “لوكاشينكو” من “عواقب كارثية” إذا انهارت روسيا، في سياق تعليقه على ملابسات التمرد الذي قادته مجموعة “فاغنر” العسكرية ضد الجيش الروسي؛ حيث ترتبط الدولتان بعلاقات إستراتيجية قوية، كما أن البُعد الشخصي أحد أركان تلك العلاقة الوطيدة، فـ”بوتين” داعم أساسي في مواجهة انتقادات الغرب لـ”لوكاشينكو”.
من ناحيةٍ أُخرى، أشار “لوكاشينكو” إلى أن حرس حدود بيلاروس يرصد يوميًّا استفزازات على الحدود مع دول حلف شمال الأطلسي، وأعلن أنه أصدر تعليمات “بوضع القوات المسلحة البيلاروسية في حالة تأهب قصوى على خلفية الأحداث في روسيا”، وفي وقت سابق، كان قد ألمح “لوكاشينكو” إلى أن الغرب يعد سيناريو لتغيير السلطة بالقوة في بيلاروس، واتهم “لوكاشينكو” الغرب “بتدريب جماعات مسلحة في “ليتوانيا، وبولندا، وأوكرانيا”؛ لإرسالها إلى “مينسك”، حسب وكالة “بيلتا” البيلاروسية الحكومية، وتشير تلك التطورات بالنسبة إلى بيلاروس، أنها قد تحتاج جماعة فاغنر في إطار مناوشات وتوترات تخُصُّ علاقاتها بالجوار.
التأثيرات على الدول المجاورة:
في حين اعتبر الرئيس البولندي “أندريه دودا”، أن وجود “فاغنر” في بيلاروس، يُمثل “تهديدًا محتملًا” لدول الجناح الشرقي لحلف الناتو، قال نائب رئيس وزراء بولندا “ياروسلاف كاتشينسكي”: إن بلاده ستعمل على تعزيز التواجد العسكري على الحدود مع بيلاروس، في ضوء خشيتها من أن يؤدي وجود “فاغنر”، إلى ما تسميه “حربًا هجينةً” مع جارتها.
ورأى “زيلينسكي”، أنه على “حلف الناتو أن يقول بالإجماع للشعبيْن ’البولندي، والليتواني’: إنه في حال وطأت قدم عنصر من (فاغنر) أرض ’ليتوانيا، أو بولندا’، فعندها سيتم القضاء على كل عناصر المجموعة الروسية أينما وجدوا”، واعتبر الرئيس الأوكراني أن القمة المقبلة للحلف التي تستضيفها العاصمة الليتوانية فيلنيوس، في 11 يوليو “منصة ممتازة لتمرير رسالة كهذه”.
وتُقدر بولندا أن حوالي 8 آلاف عنصر من “فاغنر” سيكونون حاضرين في بيلاروس؛ وهو ما يزيد مخاوف الغرب؛ فتعتبر الخارجية الأمريكية قرار “لوكاشينكو” أنه يتخذ خطوات لصالح الكرملين لا لصالح شعبه.
فيما أكّد الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، أن التكتل جاهز للدفاع عن نفسه بوجه أي تهديد من “موسكو، أو مينسك”، واعتبر الرئيس الليتواني “غيتاناس ناوسيدا”، أنّه سيتعين على حلف شمال الأطلسي “تعزيز” جناحه الشرقي، وأوضح “نوسيدا” أنّ ليتوانيا ستخصّص المزيد من الموارد لأجهزة الاستخبارات لتقييم “الجوانب السياسية والأمنية لبيلاروسيا”.
اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في لوكسمبرج:
اتفق الوزراء الأوربيون في لوكسمبورغ، على أن انعدام الاستقرار في بلد يمتلك السلاح النووي “ليس بالأمر الجيد”، وأن حرب موسكو في أوكرانيا تسببت في عدم استقرار داخلي وتقويض قوتها العسكرية، لكنهم شدَّدوا على استمرار تركيزهم على دعم كييف، واعتبروا التمرد أمرًا روسيًّا داخليًّا، لكنهم قلقون من التطورات، ومن أن يؤدي ذلك لاقتتال “أهلي – روسي” يدفع بمسار جديد من اللاجئين إلى أوروبا، في وقتٍ تئن فيه أوروبا من تكلفة تحمل اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتحاول وضع سياسة جديدة للهجرة.
ووافق الاتحاد الأوروبي على زيادة الدعم العسكري لأوكرانيا بـ 3.5 مليار يورو، كذلك بحث الاجتماع نقل الأصول الروسية المجمدة إلى أوكرانيا، غير أن برلين لا تدعم الفكرة؛ فالمسؤولون الألمان، يشككون في أن خطة بروكسل ستحصل على دعم كافٍ؛ لأن المخاطر القانونية الناجمة عنها مرتفعة للغاية.
القمة الأوروبية ببروكسل:
تناول الاجتماع الذي عقد 29-30 يونيو الحاجة إلى التفكير في تحويل مرفق السلام الأوروبي الذي تم استخدامه لتمويل أوكرانيا بالأسلحة، إلى أداة أكثر ديمومة لتسليح البلاد على المدى الطويل، ونظرًا لأن هذا قد لا يكون كافيًا على المدى الطويل، تبحث المفوضية الأوروبية في كيفية استخدام الأصول الروسية المجمدة لتمويل أوكرانيا.
ختامًا:
فإن كلمة “بلينكن” تبدو وكأنها الأدقُّ لوصف المشهد الحالي، وهي: “أننا لم نر الفصل الأخير من الرواية بعْدُ”، وكان يشير إلى تمرُّد فاغنر؛ وعليه يمكن القول: إن إدراك الغرب لتداعيات التمرد مازال طوْر التشكُّل؛ فالدول الغربية ستكون حريصة على الاستفادة لإضعاف روسيا في ساحة الحرب، غير أنها ستحرص على توخِّي الحذر فيما يخص مسائل النظام السياسي الداخلي الروسي؛ تجنُّبًا لوصف دعمها لأوكرانيا، بأنها بالأساس مؤامرة ضد روسيا؛ ما يعني تحقيق روسيا هدفًا في الحرب الدعائية، ومن ناحيةٍ أُخرى، تهتم أوروبا تحديدًا بالحفاظ على سلامة الأمن الداخلي الروسي؛ لما يشكل اهتزازه مشاكل أمنية جديدة لأوروبا.