شواهد مستقبل العلاقات التركية الخليجية بعد فوز أردوغان

إعداد: أحمد محمد فهمي.

استقبل الرئيس التركى رجب طيب أردوغان بعد فوزه فى الانتخابات الرئاسية، اتصالات ورسائل التهنئة من قادة عدة دول حول العالم وبالأخص من القادة العرب، ومن بينهم الرئيس عبد الفتاح السيسى والملك السعودى سلمان بن عبد العزيز وولى عهده الأمير محمد بن سلمان، والرئيس الإماراتى محمد بن زايد، وأمير قطر تميم بن حمد، وغيرهم.

وقد أشارت هذه الرسائل بشكل عام إلى التطلع لمزيد من التعاون وتطوير العلاقات لتعزيز العمل المشترك فى مختلف القضايا بين تركيا والعالم العربى، وفتح آفاق أوسع وأشمل فى المجالات الاقتصادية والاستثمارية.

ومن المتوقع أن تشهد العلاقات بين تركيا والدول العربية بشكل عام تطورًا جديدًا خلال الفترة المقبلة، بهدف تعزيز السلام والتعاون فى المنطقة ومواجهة التحديات والمخاطر التى تواجه الجانبين، وذلك فى ظل الأوضاع الدولية المعقدة والأزمات المستمرة، بما فى ذلك الأزمة الناشئة عن الحرب الروسية فى أوكرانيا والضغوط المتزايدة نتيجة التصعيد الدولى.

وعلى صعيد العلاقات التركية الخليجية، يتوقع أيضًا تحسنًا كبيرًا ودفعة جديدة نحو تعميق العلاقات، حيث تظهر القيادة التركية استجابةً وتراجعًا عن سياساتها السابقة التى تسببت فى أزمة عميقة فى العلاقات مع الدول الخليجية، ولا سيما مع المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات.

وعلى الرغم من مشاركة الدول الخليجية فى بعض الرؤى والأهداف استنادًا إلى وحدة الموقف الخليجى تجاه العديد من القضايا، إلا أنها فى الوقت ذاته تختلف فى وجهات النظر بشأن سياستها الخارجية، يمكن استنتاج ذلك من خلال اختلاف مواقف الدول الخليجية تجاه التطبيع والمصالحة مع دول المنطقة الثلاث، أى إيران وإسرائيل وتركيا.

وبناءً على ذلك، يركز هذا التحليل على العلاقات التركية مع دولتى السعودية والإمارات البارزتين فى دول الخليج، نظرًا للخلاف العميق الذى نشب بينهما بعد سلسلة من الأزمات، منها التدخل التركى المباشر فى الأزمة الخليجية عام 2017، وكذلك موقف الرفض والشكوك التى أبدتها تركيا تجاه تعامل المملكة العربية السعودية فى قضية اغتيال الصحفى السعودى جمال خاشقجى فى القنصلية السعودية بإسطنبول عام 2018.

وبعد مخرجات قمة “العُلا” الخليجية فى عام 2021 وإتمام المصالحة مع دولة قطر، وكذلك الجهود التركية المستمرة لاستعادة علاقاتها مع دول الخليج نتيجة للانعكاس السلبى الذى تركته سياستها السابقة على الوضع الداخلى التركى، فقد مهدت هذه العوامل الطريق لافتتاح قنوات اتصال جديدة بين السعودية والإمارات من جهة، وتركيا من جهة أخرى، وهو ما تحقق لاحقًا بتحقيق المصالحة واستعادة العلاقات.

والآن، وبعد فوز الرئيس أردوغان فى الانتخابات الرئاسية أصبحت شواهد مستقبل العلاقات التركية الخليجية[1] تشير إلى أن العلاقات بين الطرفين دخلت لمرحلة أعمق، لتؤسس مع غيرها من مراحل عمليات المصالحة وإعادة العلاقات بين دول المنطقة وعلى رأسها العلاقات المصرية التركية لفترة جديدة فى مستقبل منطقة الشرق الأوسط.

تعزيز الزيارات المتبادلة:

من الملفت بعد أيام قليلة من بدء ولاية أردوغان الجديدة هى الزيارة التى قام بها الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات، إلى أنقرة. وخلال هذه الزيارة، تم بحث علاقات الصداقة ومسارات التعاون، بالإضافة إلى استكشاف الفرص الواعدة لتوسيع آفاق التعاون فى مختلف المجالات، التى تسهم فى تعزيز التنمية والتقدم فى البلدين، وتحقيق المصالح المشتركة، وجاءت هذه الزيارة فى إطار تعزيز العلاقات الاستراتيجية والشراكة الاقتصادية الشاملة بين البلدين.

كذلك ومؤخرًا كانت أبو ظبى هى الوجهة الأولى لجودت يلماز نائب رئيس الجمهورية التركية مصطحبًا “محمد شيمشك” وزير المالية الجديد والذى يعول عليه أردوغان لإصلاح الاقتصاد التركى، وقد ناقش الوفد التركى مع الشيخ محمد بن زايد، الرئيس الإماراتى، وكذلك مع مسؤولين آخرين، سبل تطوير التعاون وتعزيز العمل المشترك بين البلدين، ورفعه إلى مستويات أوسع تسهم فى التنمية والتقدم فى البلدين، وتم أيضًا توقيع العديد من الاتفاقيات التى تؤكد تعزيز تطور العلاقات بين البلدين.

وفى سياق تعزيز الزيارات المتبادلة بين الجانبين، وكونها إشارة لتطور العلاقات التركية الخليجية بشكل عام، أفادت مصادر إعلامية تركية مقربة من الحكومة[2] بأنه من المتوقع أن يقوم أردوغان بزيارة بعض دول منطقة الخليج بعد انتهاء عطلة عيد الأضحى المبارك، ومن بين هذه الدول الكويت والإمارات، وأشارت المصادر إلى أن زيارته إلى دولة الإمارات ستشهد توقيع العديد من الاتفاقيات فى مجالات الطاقة والصناعات الدفاعية.

بوابة الاستثمارات:

يُعَدُّ الملف الاقتصادى واحدًا من أبرز الدوافع الداخلية التى دفعت القيادة التركية إلى إعادة تموضع سياستها الخارجية تجاه العديد من الملفات الخارجية، بما فى ذلك العلاقات مع دول الخليج التى تتمتع بإمكانيات استثمارية وقدرات اقتصادية كبيرة.

وبناءً على ذلك، تسعى تركيا إلى الحصول على استثمارات قوية من دول الخليج كبوابة لتطوير العلاقات بين الجانبين على جميع الأصعدة، وقد تجاوبت دول الخليج، مثل السعودية والإمارات وقطر مع هذه الجهود، مما عزز التوقعات المشتركة بتطوير العلاقات من خلال بوابة الاستثمارات.

وفى هذا السياق، عين أردوغان الوزير الأسبق للمالية محمد شيمشك، وزيرًا جديدًا للمالية، وقد رأى المستثمرون فى تعيين شيمشك، الذى يؤيد السياسات الاقتصادية التقليدية، إشارةً إلى ابتعاد أردوغان عن سياساته الاقتصادية السابقة، بما فى ذلك رفض زيادة أسعار الفائدة، ومن المتوقع أن يساعد شيمشك وبفضل خبرته الواسعة فى تعزيز استقرار الاقتصاد التركى، وهذا بدوره سيجذب المستثمرين إلى تركيا، وخاصة المستثمرين الخليجيين، وهذا ما يحتاجه أردوغان لمواجهة الاضطرابات الاقتصادية التى تعانيها البلاد وانخفاض قيمة الليرة، فضلًا عن التحديات المتعلقة بتمويل عمليات إعادة الإعمار فى المناطق المتضررة جراء الزلزال الذى وقع فى مدن الجنوب التركى.

على الصعيد الإماراتى، فمنذ استعادة العلاقات بين الدولتين فقد بدأت بالفعل بالاستثمار فى تركيا، فخلال زيارة الشيخ محمد بن زايد لأنقرة فى نوفمبر 2021، حيث كان حينها وليًا لعهد أبو ظبى، كشف بن زايد عن استثمارات بقيمة عشرة مليارات دولار فى تركيا، كذلك وفى مطلع مارس الماضى، وقعت الدولتان اتفاقية “الشراكة الاقتصادية الشاملة”، وتهدف هذه الاتفاقية إلى زيادة حجم التجارة بين الإمارات وتركيا إلى 40 مليار دولار فى غضون خمس سنوات، باستثناء قطاع النفط.

ومؤخرًا، بعد زيارة نائب الرئيس التركى ووزير المالية إلى الإمارات، قامت الأخيرة بفتح باب الاستثمارات طويلة الأمد بقيمة تتراوح بين 30 و40 مليار دولار، وقد شملت الحزمة الأولى من الاستثمارات تمويلًا لقطاعات الطاقة المتجددة والنقل، بالإضافة إلى أعمال إعادة إعمار المناطق المنكوبة من الزلازل، كما شملت الاستثمارات الإماراتية المباشرة قطاعات أخرى بارزة مثل صناعات الدفاع، كما تم الاتفاق أيضًا بين البلدين على الاستثمار المباشر والمستدام لفترة طويلة، وتعمل الفرق العليا لكلا البلدين بجدية وبشكل مكثف لتعزيز تلك الاستثمارات وتعزيز العلاقات المستقبلية بين البلدين.

وعلى الصعيد السعودى، وبعد أيام من توقيع “اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة” بين الإمارات وتركيا، أعلنت المملكة العربية السعودية إيداع مبلغ 5 مليارات دولار كوديعة فى البنك المركزى التركى عبر الصندوق السعودى للتنمية، وقد جاءت هذه الخطوة بتوجيهات من العاهل السعودى الملك سلمان بن عبد العزيز وولى عهده الأمير محمد بن سلمان، وقد أشارت المملكة إلى أن هذه الوديعة تأتى “تماشيًا مع العلاقات التاريخية وروابط التعاون الوثيقة التى تربط المملكة العربية السعودية بالجمهورية التركية وشعبها الشقيق”.[3]

كما تم عقد اجتماع بين ممثلى شركة أرامكو السعودية – وهى أكبر شركة نفط فى العالم – وأعضاء اتحاد مقاولى تركيا فى العاصمة أنقرة تحت عنوان “فرص العمل فى المملكة العربية السعودية”، بهدف مناقشة المشاركة فى مشاريع بقيمة 50 مليار دولار. [4]

وتعتبر هذه الخطوة إشارة إيجابية للمقاولين الأتراك الذين كانت استثماراتهم فى روسيا تنخفض بسبب الحرب مع أوكرانيا، حيث انخفضت من 11 مليار دولار فى السنوات السابقة إلى 2.3 مليار دولار فى عام 2022، واستمر التراجع فى الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالى حتى وصل إلى 626 مليون دولار فقط؛ بالإضافة إلى ذلك، تراجعت المشاريع الاستثمارية المدعومة من الحكومة التركية فى السنوات الأخيرة، وخاصة بعد الزلزال.[5]

تطبيق سياسة خارجية مستقلة ومتوازنة:

فى الفترة الأخيرة ونتيجة لعدة أزمات دولية وإقليمية صارت كلًا من دول تركيا والإمارات والسعودية تنتهج مسارات فى سياستها الخارجية نابعة من الحصول على مزيد من الاستقلالية فى إدارة علاقاتها ومصالحها الخارجية وكيفية الحفاظ عليها وبالأخص تجاه القضايا المتعلقة بالمنطقة وموقعها الجيوسياسى، ولكن تلك المسارات صارت تتعارض مع سياسات الولايات المتحدة الأمريكية كشريك أساسى وكضامن لأمن المنطقة، وكدلالة وفيما يتعلق بالحرب الروسية فى أوكرانيا لم تنضم الدول المذكورة للعقوبات الدولية التى فرضتها القوى الغربية على موسكو، بل ومارست سياسات التوزان جراء التطورات والتداعيات الدورية للحرب الدائرة، وذلك بعيدًا عن الدائرة الأمريكية التى تعمل على حشد كافة أنواع الدعم لأوكرانيا وممارسة كافة الضغوطات لمحاصرة وعزل روسيا دوليًا.

وفى إطار تلك المسارات فى السياسة الخارجية، أعلنت تركيا، على الرغم من عضويتها فى حلف شمال الأطلسى (ناتو)، عدم انضمامها إلى سياسات الحلف تجاه روسيا، بل حافظت على علاقات وثيقة مع موسكو، كما قامت بعرقلة انضمام دول أوروبية جديدة إلى الحلف، وقد اتبعت تركيا سياسة خارجية مستقلة تجاه الأزمة وتداعياتها، وساعد هذا النهج أنقرة فى أداء أدوار متعددة، فقد قامت بدور دبلوماسى من خلال محاولة التوسط فى الصراع بين الجانبين الروسى والأوكرانى، ودور إنسانى من خلال تسهيل اتفاقية الحبوب مع الأمم المتحدة، ودور جيوسياسى بتنفيذ اتفاقية مونترو التى منحت تركيا السيطرة على المضائق البحرية التركية الرابطة بين البحرين المتوسط والأسود (مضيق البوسفور ومضيق الدردنيل)، كما عملت تركيا بالتعاون مع روسيا فى إدارة الصراعات الإقليمية فى سوريا وليبيا وقره باغ وحتى فى البحر الأسود، والتى تعتبر تجربة هامة لأنقرة فى إدارة النزاعات الإقليمية، كما جلبت إستراتيجية التوازن هذه لتركيا تدفقًا منتظمًا من الأموال الروسية والسياح، ونظرًا للعديد من الفوائد، فإن تغيير هذه السياسة غير محتمل.

وإماراتيًا فقد جاء إعلان انسحابها من قوة الأمن البحرى المشتركة (CMF) التى تقودها الولايات المتحدة والتى أشارت إلى أن انسحابها يأتى فى إطار تقييم “التعاون الأمنى الفعال” فى منطقة الشرق الأوسط، بمثابة إعلان عن إعادة ترسيم التحالفات فى منطقة البحر الأحمر فى ظل التنافس القائم بين القوى الدولية الثلاث، أمريكا وروسيا والصين، على النفوذ فى هذه المنطقة الإستراتيجية المهمة للغاية، فى الوقت نفسه، زعمت وسائل إعلام مختلفة فى إيران نقلًا عن وسائل إعلام قطرية بأن الصين تجرى محادثات مع الإمارات والسعودية وسلطنة عمان وإيران لتشكيل قوة بحرية مشتركة فى الخليج[6]، وعند مراعاة جميع هذه التطورات معًا، فإن انسحاب الإمارات من (CMF)  بقيادة الولايات المتحدة، إلى جانب إنشاء قوة بديلة ذات صلة بالصين، سيكون إشارة على استعداد دول الخليج لتحمل مزيد من المسؤولية فيما يتعلق بأمن المنطقة.

وسعوديًا، جاء إعلان الرياض وطهران فى مارس الماضى، عن إعادة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين بوساطة صينية، بمثابة فتح الباب للأخيرة بأن تلعب دورًا سياسيًا فى المنطقة العربية، كوسيط ذو نفوذ عالمى كبير، ومنافسًا ومهددًا للدور وللهيمنة الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط، خصوصًا وأن المصالحة سوف تسهم فى التهدئة وخفض التصعيد فى العديد من القضايا المتوترة فى المنطقة، أبرزها الحرب اليمنية والأمن البحرى للخليج وحماية المنشآت النفطية، ومن خلال هذه الخطوة، سمحت الرياض لبكين بتحقيق انجاز كبير للدبلوماسية الصينية وذلك فى ظل تراجع الدور الأمريكى فى المنطقة، بجانب سعى دول الخليج إلى استغلال التغيرات الجديدة فى موازين القوى لتحقيق أقصى استفادة منها.

وبناءً على ما سبق، تشترك الدول الثلاثة فى نفس النهج فى سياستها الخارجية، والتى وإن كانت لا تأخذ موقفًا معاديًا تجاه السياسات الأمريكية، إلا وأنها تعبر عن خطوات تدريجية لفك ارتباطها مع واشنطن، ويعود ذلك إلى عدة أسباب[7] منها تراجع اهتمام الولايات المتحدة بالشرق الأوسط وتحويل اهتمامها نحو شرق آسيا، إضافة إلى تجاهل أمريكا للأولويات الأمنية فى المنطقة وانشغالها بتطورات الحرب الروسية ومحاولاتها لاحتواء سيناريو اندلاع حرب عالمية ثالثة.

وأخيرًا، يعزى تغيير النهج أيضًا إلى فشل الولايات المتحدة فى حماية مصالح حلفائها فى المنطقة من التهديدات الإرهابية، ولا سيما التهديدات التى تنطوى على الوجود الكردى المسلح على الحدود الجنوبية لتركيا، والتهديدات الإيرانية المتزايدة التى تواجهها السفن النفطية فى مياه الخليج.

بالتالى، فإن الدول الثلاث وفى إطار تطوير علاقاتهم المستقبلية وتحقيق التطلعات المشتركة بين تركيا ودول الخليج، ستأخذ فى الاعتبار التغيرات الحالية فى النظام الدولى وموازين القوى، وكذلك الأحداث الإقليمية والدولية الأخيرة، بهدف زيادة دورهم بصفتهم لاعبين إقليميين بارزين فى الشرق الأوسط، لحل أزمات وقضايا المنطقة، ولتعزيز الاستقلالية فى السياسة الخارجية والأمنية، ودعم الاستقرار والسلام وخفض التصعيد وحدة الاستقطاب الدولى على دول المنطقة، وهو ما يتطلب مزيدًا من التفاهم والانسجام لاستيعاب المخرجات المستقبلية لمحاولات إعادة تشكيل النظام الدولى والاستقرار على شكله النهائى، وذلك مع مراعاة أهمية الدور الأمريكى بالرغم من تراجعه النسبى مع أهمية الصين الاقتصادية فى المنطقة وكذلك العلاقة الإستراتيجية مع روسيا وبالأخص فى إدارة بعض ملفات الصراعات الإقليمية.

دعم أمن الخليج والمنطقة:

فى إطار تداعيات العديد من الأزمات التى شهدتها منطقة الخليج، ظهر تباين كبير فى ردود الفعل التركية والأمريكية تجاه تلك الأزمات وتطوراتها، ففى الأزمة الخليجية عام 2017 تخلت الولايات المتحدة عن حليفتها قطر، فى الوقت الذى كان من الوارد فى ظل التصعيد والتوتر وقوع عسكرة للأزمة ودخولها فى مسار مظلم ينطوى على عواقب وتداعيات قد تؤثر على مستقبل المنطقة بأكملها وعلى دول الخليج بشكل خاص.

بالمقابل، وفى غضون يومين فقط من بداية الأزمة، صادق الرئيس التركى رجب طيب أردوغان على قرار البرلمان التركى بنشر قوات تركية على الأراضى القطرية، ويظهر هذا التباين بين ردود الفعل التركية والأمريكية بالرغم من اختلاف منطلقات القرار وخلفياته، أن إسراع تركيا فى الحفاظ على أمن حليفتها قطر أظهرت مدى سرعة استجابتها لتطور تداعيات وتطورات الأزمة وهو ما يمكن تحليله بأنه ساهم فى تجميد الأزمة فى مسارها السياسى وصولًا إلى قمة “العُلا” والمصالحة الخليجية.

وفيما يتعلق بالتهديدات التى تعرضت لها السعودية والإمارات، بما فى ذلك هجوم جماعة أنصار الله الحوثى المدعومة من إيران على منشآتها النفطية ومطاراتها المدنية باستخدام الطائرات المسيرة، وكذلك استهداف إيران لناقلات النفط فى خليج عُمان بالقرب من السواحل الإيرانية، فى ظل عدم تدخل أمريكى حازم وفعال يضمن القضاء على التهديدات الأمنية وتحقيق الأمن والسلامة لحلفائها فى الخليج مع تراجع التزامات واشنطن الأمنية فى المنطقة، أدى ذلك إلى احتمالية الاستعانة بتركيا والتى لديها العديد من الدوافع وكذلك المميزات من أجل أن تلعب دورًا أمنيًا فى المنطقة، خاصة وأن تركيا لديها القدرات العسكرية التى تؤهلها للعب هذا الدور الأمنى بجانب قدرة دول الخليج وميزانياتها وقدراتها الاقتصادية على تمويل هذا الدور وكذلك قدرتها على تحمل التكاليف المرتبطة بتأمين منطقة الخليج، بالإضافة إلى ذلك، القرب الجغرافى والعلاقات السياسية الجديدة لتركيا، التى تهدف إلى أن تكون شريكًا موثوقًا به، تعتبر عوامل أخرى يمكن أن تمنح لتركيا نفوذًا فى المنطقة، وأن تلعب دورًا أمنيًا بالتنسيق مع القوى الخليجية.

أوجه التعاون العسكرى:

شهدت الصناعات الدفاعية التركية تطورًا ملحوظًا فى السنوات الأخيرة، وبخاصة فى مجال الأسلحة التكنولوجية التى تثير اهتمام دول الخليج، فقد أظهرت طائرات “بيرقدار” المسيرة التى تنتجها شركة “بايكار” التركية للصناعات الدفاعية كفاءتها فى العديد من المسارح العسكرية، مثل الحرب الروسية الأوكرانية والحرب الأذربيجانية الأرمنية. ونتيجة لذلك، ترغب كل من السعودية والإمارات فى اقتناء هذه الطائرات لمواجهة التهديدات الأمنية وزيادة مستوى توازن القوى مع القوى الإقليمية فى المنطقة.

وفى إطار تعزيز العلاقات العسكرية بين تركيا والإمارات، وقع اتفاق فى فبراير من العام الماضى بين مجلس التوازن الاقتصادى الإماراتى وهيئة الصناعات الدفاعية التركية لتعزيز التعاون فى مجال الصناعات الدفاعية، وأشار الاتفاق إلى أن الجانبين سيعملان معًا على التعاون فى برامج التطوير المشترك وتبادل الابتكارات وبرامج الأبحاث والتطوير والاستفادة من الفرص الاستثمارية، وفى مايو من العام الماضى، ناقش وزير الدفاع التركى السابق “خلوصى أكار” مع وزير الدولة لشؤون الدفاع الإماراتى محمد بن أحمد البواردى، فى أبوظبى، التعاون العسكرى وشؤون الصناعات الدفاعية وتطوير التعاون فى مجالى التدريب العسكرى والصناعات الدفاعية وتبادل الخبرات بهدف تعزيز المصالح الوطنية للبلدين، وفى أكتوبر، شاركت الإمارات بوفد من كبار الضباط  فى معرض “ساها إكسبو 2022” للدفاع والطيران فى تركيا، حيث تم بحث علاقات التعاون وسبل تعزيزها، وتم استعراض مجالات التعاون المشترك ووسائل تطويرها، خاصة فى المجالات الدفاعية والعسكرية.

وقد أشارت الإمارات – ووفقًا لبعض التقارير الصحفية – إلى رغبتها فى شراء أسهم فى شركة “أسيلسان”، وهى شركة تركية رائدة فى مجال الصناعات الدفاعية الإلكترونية، والتى لها فرع فى العاصمة القطرية “الدوحة” كجزء من الاتفاقية العسكرية بين قطر وتركيا، وعلى الرغم من أن “أسيلسان” تعتبر شركة وطنية، إلا أن أسهمها مُدرجة بالفعل فى بورصة إسطنبول بنسبة تقدر بحوالى ربع (25.6%) من الشركة، وهذا يعنى أن الإمارات قادرة على شراء هذه الأسهم كجزء من استثمارها الاقتصادى فى تركيا إذا رغبت فى ذلك[8].

 

وفى إطار التعاون المشترك بين أنقرة والرياض، أكد الرئيس أردوغان وولى العهد محمد بن سلمان خلال لقائهما فى أنقرة على ضرورة تفعيل اتفاقيات التعاون الدفاعى “بشكل يخدم مصالح البلدين ويساهم فى ضمان أمن واستقرار المنطقة”، كما استقبل وزير الدفاع التركى السابق خلوصى أكار لطلال بن عبد الله العتيبى، نائب وزير الدفاع السعودى، بصحبة وفد رفيع المستوى، وأكد الجانبان أهمية التعاون العسكرى وتنفيذ الاتفاقيات الموقعة بين البلدين فى هذا المجال وتعزيزها وتطويرها لخدمة المصالح المشتركة ودعم أمن واستقرار المنطقة، كما زار الوفد السعودى أيضًا مصانع إنتاج الأسلحة التركية.

ويسعى السعوديون إلى تنوع مصادر التسليح من عدة دول حول العالم بعد أن هدد الأمريكيون بقطع صادرات الأسلحة نظرًا لتوتر العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة فى الأشهر الأخيرة، كما أن المملكة لا تمتلك أى بنية تحتية فى مجال تصنيع الأسلحة، وهو ما دفعها للتخطيط للاعتماد على قدرات تركيا فى هذا المجال لتقليل الاعتماد على الغرب، خاصة وأن تكلفة استيراد الأسلحة من تركيا ستكون منخفضة مقارنة بالدول الكبرى الأخرى المصنعة للسلاح.

كما أن تركيا تواجه تحديات فى صناعاتها العسكرية المحلية، منها الحاجة إلى تمويل استثمارات ضخمة، ويُمكن لدول الخليج أن تساهم فى تلبية هذه الحاجة من خلال التعاون والعمل المشترك فى الصناعات العسكرية، وهو ما سيسهم فى ضخ الأموال فى الاقتصاد المتعثر ويساعد فى تحسين قدرات تركيا فى الصناعات العسكرية المحلية وتقليل الاعتماد على المكونات المستوردة من الخارج، مما يعزز عملية تطوير الصناعات الدفاعية فى البلاد.

وختامًا:

استطاع حزب العدالة والتنمية فى دعايته الانتخابية إبان الاستحقاقات الانتخابية الماضية، بأن يقنع الناخب التركى بأن أردوغان وحده قادرًا على جذب الاستثمارات من دول الخليج للمساعدة فى انقاذ الاقتصاد المتعثر انطلاقًا من عدة دوافع منها المصالحة التى تمت مع السعودية والإمارات، وقد شكك بعض الناخبين الذين يأخذون الاقتصاد بعين الاعتبار فى قدرة زعيم المعارضة كمال كليتشدار أوغلو على الحصول على الدعم الضرورى من دول الخليج، لعدة اعتبارات منها ترويج كليتشدار أوغلو عن إعادة منطلقات السياسية الخارجية التركية الكمالية فى فرض العزلة التركية عن العالم العربى (بما فيها من إمكانيات استثمارية هائلة) واللجوء إلى الدول الغربية (والتى تعانى من عدة أزمات نتيجة لتداعيات وانعكاسات الأزمات الدولية عليها).

وبعد فوز أردوغان، أصبح واضحًا أن تركيا، من خلال إعلان حكومتها الجديدة واختيار وزراءها الجدد، تولى البُعد الاقتصادى فى السياسة الخارجية أهمية كبرى لإنقاذ الوضع الداخلى وتحسينه على الأقل قبيل الانتخابات البلدية القادمة، بالتالى فهى تبحث عن مصادر للأموال والاستثمار فأصبحت وجهتها نحو الخليج هو بمثابة توجه الضرورة للقائمين على السياسة الخارجية والاقتصادية، وهذا ما يتناقض مع السياسة التركية فى العقد الماضى، حيث كانت الجيوسياسية والأمن والاعتبارات السياسية هى التى تحدد السياسة الخارجية التركية.

فى المقابل، قد أثبتت دول الخليج، مثل السعودية والإمارات وقطر، صدق الدعاية الانتخابية للحزب الحاكم أمام الناخب التركى، فقد قدمت هذه الدول دعمًا اقتصاديًا لتركيا قبل الانتخابات الأخيرة، لعدة أهداف منها زيادة تأثيرها على تركيا، ويتضح ذلك جليًا فى بيان صندوق التنمية السعودى الذى قدم دعمًا ماليًا للبنك المركزى التركى، وأشار البيان إلى أن القرار يعكس التزام المملكة بدعم جهود الاقتصاد التركى، دون ذكر كيفية استخدام تدفق الأموال النقدية أو كيفية استردادها فى المستقبل.

كما يتضح من خلفيات هذا القرار فى أحد جوانبه أن الهدف من تلك المساعدات هو جعل تركيا تعتمد عليها وللتأثير فيها، بالإضافة إلى ذلك، قامت الإمارات بتوقيع “اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة” مع تركيا، وذلك دون الانتظار لمعرفة نتائج الانتخابات التركية، مما يعكس ثقة الإمارات فى فوز الرئيس أردوغان، وبالطبع، لقى ذلك تأييدًا وترحيبًا من القيادة التركية ومؤيديها

[1] المقصود بمصطلح “شواهد مستقبل العلاقات” هى الإشارة إلى العناصر أو العلامات التى يمكن أن تساهم فى توجيه أو تحديد مسار العلاقات فى المستقبل، وعند التحدث عن “شواهد مستقبل العلاقات” فى سياق العلاقات الدولية، فإننا نشير إلى العوامل المحتملة التى يمكن أن تؤثر على توجه العلاقات بين الدول، والتى تساهم فى توجيه أو تشكيل سير العلاقات فى المستقبل وتحدد طبيعة التعاون أو التوتر بين الأطراف المعنية.

[2] Hande Fırat, “Hadi bankalar, üzerinize düşeni siz de yapın”, hürriyet gazetesi, https://bit.ly/3NDOoQZ .

[3]السعودية تعلن إيداع 5 مليارات دولار فى البنك المركزى التركي“، موقع سى إن إن عربى، 6/3/2023، متاح على: https://cnn.it/3NFc8Vb .

[4]Aramco Taps Turkish Firms for $50 Billion Building Spree”, Bloomberg, 6/2023, https://bloom.bg/3CUNQRN.

[5] المقاولون الأتراك.. عودة إلى الخليج بصفقات عملاقة مع “أرامكو”، تى آر تى عربى، 16/6/2023، متاح على: https://bit.ly/3pv10C2.

[6] “إعلام إيراني: إيران والسعودية والإمارات وعمان بصدد تشكيل قوة بحرية مشتركة”، موقع روسيا اليوم، 2/6/2023، متاح على: https://bit.ly/44nMcE2.

[7] إيمان زهران، “الانسحاب الإماراتى من القوة البحرية المشتركة: الأسباب والتداعيات“، مركز سوث24 للدراسات، 12/6/2023، متاح على: https://bit.ly/3pwKuBs.

[8] داليا زيادة، “ما مدى واقعية التعاون العسكرى بين تركيا والإمارات؟”، موقع ليفانت نيوز، 10/12/2021، متاح على: https://bit.ly/3CY8LUf.

كلمات مفتاحية