قمة سوتشى… تعهدات دون نتائج واضحة

إعداد: شيماء عبد الحميد

وسط حالة من الجدل والترقب سبقت اللقاء الروسى التركى المنتظر؛ استقبل الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى الرابع من سبتمبر الجارى، نظيره التركى رجب طيب أردوغان فى مدينة سوتشى المطلة على البحر الأسود فى جنوب روسيا، حيث ركزت المباحثات بينهما على تطورات الحرب (الروسية – الأوكرانية)، وسبل استئناف العمل باتفاقية الممر الآمن للحبوب فى البحر الأسود، إلى جانب عدد من القضايا والملفات الدولية والإقليمية، على رأسها الملف السورى، ورغم الرهانات الكبيرة على هذا اللقاء، جاءت نتائجه دون المتوقع.

سياق مضطرب يسبق اللقاء:

يأتى اللقاء بين الرئيسين فى سياق محتدم؛ حيث تتصاعد التوترات فى البحر الأسود، فيما يتأزم المشهد الأمنى السورى الذى يُعتبر ملفًا فى غاية الأهمية بالنسبة لموسكو وأنقرة، بينما تحاول تركيا من خلال حراك دبلوماسى سبق القمة، أن تلعب دور فى تهدئة الأوضاع بالتنسيق مع روسيا أو إيران وخاصةً فى الملف السورى الذى يأتى على رأس القضايا المشتركة بين الدول الثلاث، نظرًا لتحول دمشق إلى ساحة نفوذ لهذه الدول، وهو ما يمكن إيضاحه على النحو التالى:

أ. توترات متصاعدة فى البحر الأسود؛ منذ انتهاء العمل باتفاقية الحبوب، صعَّد طرفا النزاع من هجماتهما فى البحر الأسود، إذ هددت روسيا بالتعامل مع أى سفينة تبحر من أوكرانيا على أنها هدف عسكرى محتمل، كما كثفت موسكو هجماتها على البنى التحتية الأوكرانية فى نهر الدانوب والبحر الأسود، وخاصةً فى منطقتى “أوديسا وميكولايف” حيث موانئ ومنشآت تصدير الحبوب الأوكرانية.

وقبيل انعقاد قمة سوتشى بساعات، نفذت روسيا سلسلة ضربات بمسيرات استهدفت منطقة أوديسا فى جنوب أوكرانيا، ويأتى هذا الهجوم فى أعقاب هجوم آخر نفذته موسكو يوم 3 سبتمبر الجارى على ميناء رينى، الذى يطل على نهر الدانوب، هذا إلى جانب هجومها فى أوائل أغسطس الماضى على موانئ إزميل.

وبينما يُعد البحر الأسود حلقة وصل حيوية للتجارة فى الطاقة والزراعة، حيث يحافظ على تزويد معظم أنحاء العالم بالنفط والغاز والحبوب، تخشى تركيا تصعيدًا روسيًا عبر التدخل ضد إحدى السفن مما يسبب خلطًا للأوراق، قد يؤدى إلى أزمة كبيرة فى المنطقة، وإلى مزيد من ارتفاع أسعار الحبوب فى العالم، ومع حدوث هذا السيناريو غير المرغوب به، فإن أسعار النفط أيضًا ستتأثر وترتفع هى الأخرى.

ب. تصعيد فى الشمال السورى خلال الأيام القليلة الماضية؛ لا سيما فى “منبج” بشرق حلب وفى “جبل الزاوية” بريف إدلب و”جبل الأكراد” بريف اللاذقية؛ حيث شن الطيران الحربى الروسى يوم 1 سبتمبر، غارات جوية على قرية المحسنلى بريف منبج شرقى حلب، بعدما سيطرت عليها فصائل موالية لتركيا، تزامنًا مع قصف مدفعى واشتباكات بين قوات مجلس منبج العسكرى التابع لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وفصائل موالية لتركيا.

هذا إلى جانب القصف الروسى الأخير على مواقع لهيئة تحرير الشام فى إدلب، التى تتضمن الشق التركى، والذى يمكن اعتباره رسالة روسية إلى تركيا بأنها مستعدة لقلب الطاولة وضرب فكرة إعادة اللاجئين السوريين بالشكل الذى تطرحه أنقرة، وتفجير الوضع العام فى إدلب وإثارة موجات لجوء جديدة فى اتجاه الأراضى التركية، فى ضوء التوترات التى عكرت مؤخرًا صفو العلاقات بين موسكو وأنقرة.

ج. حراك دبلوماسى تركى للسيطرة على تطورات المشهد السورى؛ أجرى وزير الخارجية التركى “هاكان فيدان” قبيل اللقاء الذى جمع بوتين وأردوغان، زيارتين إلى موسكو وطهران، واللتان تناولتا الملف السورى ومسار التطبيع بين أنقرة ودمشق الذى كانت ترعاه روسيا، وقد أكد “فيدان” خلالهما أنه تم تقييم عملية تطبيع العلاقات السورية التركية، ومناقشة خطوات إضافية لمساعدة أنقرة ودمشق على إعادة العلاقات الدبلوماسية.

مخرجات اللقاء:

ركزت القمة التى جمعت بوتين وأردوغان – وكما كان متوقعًا قبل عقد اللقاء- على ملف إحياء اتفاق الحبوب عبر البحر الأسود، والذى انسحبت منه روسيا فى 17 يوليو الماضى، رافضة تمديد العمل به مجددًا، وفى ختام اللقاء عقد الرئيسان مؤتمرًا صحافيًا مشتركًا، صرحا فيه بالتالى:

أ. الرئيس الروسى فلاديمير بوتين:

  • روسيا مستعدة لاستئناف العمل باتفاق الحبوب، إذا أزال الغرب العراقيل التى تمنع وصول المنتجات الزراعية الروسية إلى الأسواق العالمية.
  • خدع الغرب، روسيا بخصوص الاتفاق؛ لأن الدول الأوروبية الغنية هى التى حصلت على أكثر من 70% من الحبوب المصدرة بموجب الاتفاق.
  • الاتهامات الغربية بأن روسيا تسببت فى أزمة غذاء بعد انسحابها من اتفاق الحبوب، غير صحيحة لأن الأسعار لم ترتفع بعد هذه الخطوة، ولا يوجد نقص ملموس فى المواد الغذائية، بل تتوقع موسكو وصول محصولها من الحبوب إلى 130 مليون طن بنهاية العام الحالى، ويمكن تصدير 60 مليون طن منها.
  • تم الاتفاق على تنفيذ مخطط منفصل عن اتفاق الحبوب، يُرسل بموجبه مليون طن من الحبوب إلى 6 دول إفريقية بعد معالجتها وتحويلها إلى دقيق فى المصانع التركية، على أن يتم تمويل شراء الحبوب من روسيا من قبل قطر، الحليف الوثيق لتركيا، ثم يتم منحها للأفارقة مجانًا، وهذه الدول هى: بوركينا فاسو وزيمبابوى ومالى والصومال وجمهورية إفريقيا الوسطى وإريتريا.

ب. الرئيس التركى رجب طيب أردوغان:

  • لم تقدم المقترحات البديلة المطروحة لمبادرة الحبوب، نموذجًا مستدامًا وآمنًا يستند إلى التعاون بين الأطراف على غرار مبادرة البحر الأسود، ولذلك أعدت تركيا مع الأمم المتحدة حزمة مقترحات جديدة من شأنها إحراز تقدم كبير فيما يخص مبادرة الحبوب.
  • أوكرانيا بحاجة إلى تخفيف موقفها التفاوضى ضد روسيا فى المحادثات الرامية إلى إحياء الاتفاق، حتى يكون من الممكن لها اتخاذ خطوات مشتركة مع روسيا.
  • تركيا عازمة على مواصلة مساعيها من أجل إحلال السلام الدائم والاستقرار والازدهار فى المنطقة، كما تشدد أنقرة على ضرورة إرسال المزيد من الحبوب إلى إفريقيا بدلًا من الدول الأوروبية.

قراءة فى مخرجات اللقاء:

بالنظر إلى تصريحات رئيسى البلدين، يتضح أن محادثات قمة سوتشى (الروسية – التركية) فشلت فى تحقيق تقدم مؤثر فى ملفات استئناف العمل بصفقة الحبوب وتسوية الأزمة الأوكرانية عبر السبل الدبلوماسية، بل إنها أكدت أن التوتر الحالى بين موسكو وأنقرة ما زال مهيمنًا على المشهد السياسى للعلاقات بين الدولتين، ومن قراءة مخرجات اللقاء يمكن الاستدلال على ما يلى:

أ. لا جديد فى ملف الحبوب؛ رغم أنه الملف الرئيسى الذى سيطر على اللقاء بين بوتين وأردوغان، إلا أن المحصلة لم تكن على مستوى التوقع قبل القمة، فلم يأتى اللقاء بجديد عما خرج به لقاء وزيرى خارجية البلدين فى موسكو يوم 31 أغسطس الماضى، حيث عبرت روسيا عن استعدادها لاستئناف العمل باتفاق الحبوب ولكن فقط فى حال تلبية الغرب لشروطها، وهو نفس موقف الرئيس الروسى فى قمة سوتشى.

ب. لا تزال العلاقات الروسية التركية رهن مخرجات قمة الناتو الأخيرة فى ليتوانيا؛ والتى شهدت حديث الرئيس التركى عن استعداد بلاده لدعم عضوية أوكرانيا فى الناتو عندما يحين الوقت، وفتح أردوغان مجددًا لملف التحاق تركيا بعضوية الاتحاد الأوروبى، فضلًا عن قبول أنقرة لتليين مواقفها فى موضوع عضوية السويد بالناتو والإعلان عن قرار نقل الملف إلى البرلمان التركى فى دورته الجديدة المقبلة.

وقد أظهرت هذه المواقف التركية ردة فعل روسية تجاه أنقرة، من خلال إعلان “موسكو” عدم رغبتها فى تجديد اتفاقية تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، بالإضافة لقصف الطائرات الروسية مناطق فى محافظة إدلب الخاضعة للتفاهمات الروسية التركية، ومداهمة القوات الروسية سفينة شحن مملوكة لشركة تركية فى المياه الدولية فى البحر الأسود، وقبلها قصفت موسكو شركة تصنيع المحركات الأوكرانية التى تزود شركة الطائرات المسيرات التركية “بيرقدار”، إلى جانب تأجيل الزيارة المرتقبة للرئيس بوتين إلى تركيا.

ج. الملف السورى ساحة للمناورة بين الدولتين؛ يشكل الملف السورى أحد الملفات المهمة التى كانت مطروحة على أجندة اللقاء فى سوتشى، ولكن يتضح من مخرجات القمة أن الخلافات بين الدولتين حالت دون طرح الملف أو الخروج بأى مؤشرات إيجابية فيما يخص فك حالة الجمود المسيطرة على مسار تطبيع العلاقات بين تركيا وسوريا، التى اتخذت مسارًا رباعيًا ضمَّ أيضًا إيران إلى جانب روسيا التى حاولت لعب دور الوسيط بين الطرفين، ومن ثم؛ يُتوقع أن يستمر التصعيد بين روسيا وتركيا فى الساحة السورية كما بدا من تحركات الدولتين فى الآونة الأخيرة على النحو سالف الذكر.

د. روسيا تفوت فرصة الوساطة على تركيا؛ يسعى أردوغان من خلال محاولاته لاستئناف العمل بمبادرة الحبوب التى تم التوصل إليها بوساطة بلاده، إلى حصد مكاسب دبلوماسية عدة منها إظهار نفسه كعراب الاتفاقية وإثبات موقعه بالنسبة للغرب كوسيط لا غنى عنه مع روسيا، مما يؤهله إلى أن يلعب دور الوساطة فى الملف الأوكرانى، وهو الدور الذى حاول أن يلعبه أيضًا فى بداية الأزمة، وإدراكًا من موسكو لهذا؛ فقد يكون موقفها من اتفاق الحبوب ورفضها العودة له، ما هو إلا رغبة روسية فى إبطال ورقة الغذاء التى تستغلها أنقرة للترويج لنفسها كفاعل دولى مؤثر، وذلك على خلفية التحركات التركية الأخيرة التى اعتبرتها موسكو استدارة تركية نحو الغرب على حسابها.

وإجمالًا:

هناك بوادر تغير ملحوظ فى العلاقات التركية الروسية، تحديدًا بعد التطورات الأخيرة فى أوكرانيا والموقف التركى من عضوية السويد، لكن هذا التغير لم يصل ولا يُرجح أن يصل قريبًا إلى درجة أزمة بين الجانبين، نظرًا لوجود ملفات مشتركة عدة يتعاون فيها البلدان، فضلًا عن أنه طالما الحرب (الروسية – الأوكرانية) ما زالت لم تنحدر نحو مواجهة كاملة وشاملة ومباشرة بين روسيا من جهة وحلف الناتو من جهة أخرى، وطالما بقيت لتركيا بذلك مساحات من المناورة والتواصل والعمل الدبلوماسى مع الجانب الروسى، فإنه من المستبعد وصول العلاقات بين أنقرة وموسكو إلى أزمة كبيرة أو حقيقية، مما قد يوفر الفرصة لتخطى المناوشات الأخيرة بينهما، ويمنح احتمالية لعودة التنسيق سواء فيما يخص ملف الحبوب أو الملف السورى.

كلمات مفتاحية