إعداد: شيماء ماهر
تتلقى فرنسا ضربةً تلْوَ الأخرى، في تواجدها في القارة السمراء، فبعد مكابرةٍ استمرت لمدة شهرين، رفضت خلالهما الاستجابة لتولِّي السلطة العسكرية زمام الأمور في النيجر، اعترفت فرنسا باستحالة بقائها، وانضمت النيجر رسميًّا إلى خانة الدول الأفريقية التي أَفَلَ عنها نجْم فرنسا مؤخرًا، وأجبرت سلطاتها الجديدة فرنسا على مغادرة البلاد، وإنهاء الوجود الدبلوماسي والعسكري الفرنسي على أراضيها؛ ليدخل الوجود الفرنسي في “منطقة الساحل، وغرب أفريقيا”، في نفقٍ مظلمٍ، بعد خسارة فرنسا آخر حليف لها؛ لتنهار إستراتيجية فرنسا الأفريقية، التي تستند إلى محاولة إقناع دول منطقة الساحل الأفريقي، بأن الوجود العسكري للقوة الاستعمارية السابقة يمكن أن يكون مفيدًا لها.
سحب القوات الفرنسية من النيجر
أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الأحد الماضي، عودة سفير بلاده في النيجر إلى البلاد، خلال الساعات المقبلة، ومغادرة الجنود الفرنسيين، البالغ عددهم 1500 مقاتل لقواعدهم في النيجر، خلال الأسابيع والأشهر المقبلة؛ تمهيدًا لانسحابهم الكامل، بحلول نهاية العام الحالي؛ ما يوجه ضربةً قوية للنفوذ الفرنسي وعمليات مكافحة التمرُّد في منطقة الساحل، وتأتي هذه الخطوة بعد مرور شهريْن من الشَّدِّ والجذب والتهديد والوعيد من قِبَلِ المجلس العسكري الحاكم في النيجر، وفرنسا التي رفضت مطالبة المجلس لها بسحْب سفيرها وقواتها؛ بحجة عدم شرعية قادة الانقلاب في نيامي.
ورحَّب أعضاء المجلس العسكري الحاكم في النيجر، بإعلان فرنسا سحْب قواتها نهاية العام، واعتبروا أن ذلك خطوة تاريخية تدل على تصميم الشعب النيجري وإرادته والاتجاه نحو السيادة الوطنية، وتجمَّع مؤيدون للمجلس العسكري في مظاهرةٍ ليليةٍ أمام القاعدة الفرنسية؛ احتفالًا بقرار فرنسا بسحْب قواتها، وقامت عدة منظمات شبابية وجمعيات إسلامية بتنظيم مظاهرات أمام القاعدة الفرنسية؛ للتنديد بمواقف فرنسا وإلزامها بتطبيق القرار.
والجدير بالذكر، أن المجلس العسكري منذ أن تولَّى زمام الأمور في النيجر، رفض التواجد الفرنسي في النيجر، وطلب في أغسطس الماضي من السفير الفرنسي مغادرة البلاد، وإلغاء السلطات العسكرية امتيازاته وحصانته الدبلوماسية، وتم إلغاء تأشيرة دخوله إلى البلاد، وعلى الرغم من ذلك، رفضت الحكومة الفرنسية إعادة سفيرها إلى بلاده، بالإضافة إلى قيام المجلس العسكري الانتقالي بإلغاء الاتفاقيات مع فرنسا، وطالبوا بالانسحاب الكامل للقوات الفرنسية من البلاد؛ الأمر الذي دعمته بشدة التظاهرات الشعبية في العاصمة النيجيرية، التي تظاهرت في الشوارع؛ اعتراضًا على الوجود العسكري لفرنسا في البلاد.
وأعلنت هيئة الطيران المدني في النيجر، منْع الطائرات التجارية الفرنسية أو المستأجرة من فرنسا من عبور المجال الجوي للبلاد، وإتاحته لجميع الرحلات الجوية التجارية الوطنية والدولية، وأعقب هذا القرار إعلان شركة الخطوط الجوية الفرنسية “إير فرانس”، أنها لا تحلق في المجال الجوي للنيجر.
ما السبب وراء قيام فرنسا بسحْب قواتها وسفيرها من النيجر؟
وجدت باريس نفسها أمام مأزقٍ حقيقيٍّ، فمنذ حدوث الانقلاب رفضت الاعتراف بالسلطة الجديدة، التي يترأسها الجنرال عبدالرحمن تياني، وكانت أكثر الدول الأوروبية تشدُّدًا في التنديد بالمجلس العسكري، والإصرار على شرعية الرئيس “بازوم”، وقد دعمت باريس قرارات المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا، التي هدَّدت باللجوء إلى التدخُّل العسكري؛ لعودة النظام الدستوري في البلاد وتحرير الرئيس.
وأعلنت فرنسا أكثر من مرةٍ عن مساندتها لقرارات المجلس العسكري، بما فيها اللجوء إلى قوة السلاح، وبعد مرور شهريْن على الانقلاب، أصبح احتمال التدخل العسكري بعيدًا للغاية، في ظلِّ انقسام دول “إيكواس”، ورفض الاتحاد الأفريقي والدول الأوروبية اللجوء إلى الخيار العسكري، فضلًا عن تراجُع الرئيس النيجري “بولا تينوبو”، واقتراحه خطة سلام للمرحلة الانتقالية، والمبادرة الجزائرية للتأسيس إلى مرحلة انتقالية لذلك، وجدت فرنسا نفسها أمام موقفٍ صعبٍ، في ظل تعدُّد الفواعل الدولية والإقليمية، وبسبب ردِّ الفعل المعادي للوجود الفرنسي من قِبَلِ أعضاء المجلس العسكري؛ قرَّرت فرنسا إنهاء تواجدها في النيجر.
وقد استخدم الانقلابيون الشارع كوسيلة؛ من أجل الضغط على الرئيس الفرنسي “ماكرون”، الذي كان يرفض بشدة التراجع بشأن موقفه من الانقلاب، أو فيما يتعلق بالدعوات إلى سحْب السفير الفرنسي المعتمد في نيامي ومعه القوات الفرنسية المنتشرة في النيجر، ولكن جمود الوضع في النيجر أسهم في إدراك الفرنسيين، بأنهم وحدهم في الساحة، وأنهم معزولون، وأن تواجدهم أصبح على المحك، كما استخدام الانقلابيون “البروباغاندا” المعادية لفرنسا كمستعمرٍ سابقٍ؛ من أجل حشْد معركة ضد الوجود الفرنسي في البلاد، وأحبطوا مشروع التدخل العسكري الذي كان مطروحًا في الأسابيع الأولى، التي تلت الانقلاب.
وصرَّح الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بأن سبب اتخاذ هذا القرار يرجع إلى أن فرنسا ستترك النيجر ليس لأسباب عسكرية، وإنما بسبب رغبتها في تجنُّب التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، وتجنُّب وضْع الدبلوماسيين كرهائن؛ بسبب خلافات سياسية خاصة، بعد احتجاز المجلس العسكري الانتقالي في النيجر السفير الفرنسي، سيلفان إيتي، كرهينة، وأكَّد الرئيس الفرنسي، أن ترتيبات انسحاب القوات الفرنسية ستكون تدريجية ومُنسَّقة وسلمية وبشكل تنظيمي، بالتنسيق مع المجلس العسكري الانتقالي.
تقلُّص النفوذ الفرنسي في النيجر لصالح القوى الدولية الأخرى
لم تعُدْ فرنسا اللاعب الوحيد في المشهد السياسي في النيجر، فقد دخل لاعبون جُدُد ومن الوزن الثقيل، استطاعوا تغيير نظرة الأفارقة كقوة استعمارية ساهمت في إحكام السيطرة على ماضيهم، وتحاول بكافة الطرق السيطرة على حاضرهم، وتمثل آخر حلفاء فرنسا في منطقة الساحل الأفريقي، خاصة بعد إجبار فرنسا على الخروج من مالي، وتوجه المجلس العسكري الحاكم في كلتا الدولتيْن إلى التحالف مع روسيا، وكانت موسكو تنشر من خلال أدوات العمل الخاصة بجماعة “فاجنر” دعاية مكثفة؛ لمناهضة الوجود الفرنسي في المنطقة؛ ما أدَّى إلى تنامي العداء للوجود الفرنسي، وتجلَّى ذلك في زيادة المظاهرات التي تُندِّدُ بالوجود الفرنسي، وتطالب بخروج فرنسا، وتعرضت السفارة الفرنسية في كلتا الدولتيْن لأعمال الشغب من قِبَلِ بعض المتظاهرين.
وفي السياق ذاته، ترتبط مجموعة فاجنر الروسية بعلاقات أمنية مع “مالي، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وبوركينا فاسو”؛ ما يُوحي بتزايد النفوذ الروسي في المنطقة، وأصبحت القاعدة الفرنسية في النيجر مركزًا للاحتجاجات المناهضة للتواجد الفرنسي؛ إذ تمَّ تنظيم مسيرات في الشوارع القريبة من القاعدة؛ للمطالبة برحيل القوات الفرنسية، واستخدم متظاهرون مؤيدون للانقلاب العسكري في النيجر الأعلام الروسية، في إشارةٍ واضحةٍ لرفض الوجود الفرنسي والتعاون مع روسيا.
ويمثل قرار فرنسا بسحْب قواتها من النيجر مكسبًا كبيرًا للدُّبِّ الروسي؛ حيث سيُعزِّزُ من تواجد روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، خاصة بعد وجود مناقشات مع قادة الانقلاب في النيجر، ومخاوفهما من حدوث عسكري ضدها، فمع تصاعُد الهجمات الإرهابية في النيجر، وانسحاب القوات الفرنسية، فإن الطريق أصبح مفتوحًا أمام قوات فاجنر لتحل محل القوات الفرنسية، والتي اتهمت لسنوات بأنها تتعاون مع الجماعات الإرهابية؛ لكي تُعزِّز من تواجدها في النيجر وفي منطقة الساحل بأكملها، على الرغم من فشلها في مكافحة الإرهاب، بل من المتصور، أن روسيا لديها نوايا في تصفية الوجود الفرنسي في كامل الدول الفرانكوفونية في أفريقيا، وأن تضمن لنفسها نفوذَا أكبر في أفريقيا؛ لتعزيز مكاسبها في حرب النفوذ مع الغرب.
وبالنظر إلى الصين، نجد أن الفرصة أُتيحت لها؛ لكي تُعزِّز علاقاتها العسكرية مع النيجر، وأن تحل محل الشركات العسكرية الفرنسية وبيْع معدات عسكرية ولوجستية للنيجر، والتواجد محل الشركات الفرنسية المختلفة الموجودة في أسواق النيجر، وكان الموقف الأمريكي أكثر مرونةً مع قادة الانقلاب في النيجر، فمنذ بدْء الانقلاب، حافظت الولايات المتحدة الأمريكية على بقائها في النيجر، وعلى قواعدها العسكرية؛ حيث يُوجد لديها نحو ألف جندي في النيجر، موزعين على القاعدة العسكرية الجوية (101)، بالقرب من العاصمة نيامي والقاعدة الجوية (201) في أغادير.
وعقب الانسحاب الفرنسي من النيجر، أكَّدت الخارجية الأمريكية، أن قرار فرنسا بشأن الانسحاب من النيجر لا يغير من وضْع الولايات المتحدة الأمريكية هناك، وبالتالي فإن نفوذها العسكري سيظل موجودًا في “النيجر، ومنطقة الساحل”، وبالتالي نحن أمام سيناريوهات مفتوحة؛ لأن النيجر بها وجود لعناصر فاجنر والقوات الأمريكية، وبالتالي سيعيد المجلس العسكري في النيجر ترتيب أولوياته، بما يحقق المصلحة العليا للبلاد، في ظل كثرة الضغوطات التي تتعرض لها النيجر.
كيفية إنقاذ النفوذ الفرنسي في أفريقيا
لا تزال هناك فرصة أمام الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون؛ لنجاح السياسة التي يريد تطبيقها، والبدْء من جديد، ويكْمُنُ ذلك في الاعتراف بأخطاء الماضي، وتعويض الأفارقة عن فترة الاستغلال ورد اعتبارهم، بالإضافة إلى معاملة الدول الأفريقية كشركاء متساوين في مجال التعاون العسكري والاقتصادي، وقد يكون ذلك من خلال عقْد مفاوضات وقمم تجمع بين دول الساحل وعدد من الدول الأفريقية؛ من أجل التوصُّل إلى حلولٍ تُرْضِي جميع الأطراف.
كما يمكن لفرنسا في الفترة المقبلة، أن تتجه لتكوين علاقات مع شركاء جُدُد، مثل “كوت ديفوار، والسنغال، والجابون”، خاصة أن هذه الدول لا تزال في وضْعٍ يسمح لها بالترحيب بالقوات الفرنسية، دون المخاطرة بالاضطرابات السياسية الداخلية، فضلًا عن قيام فرنسا بوضع إستراتيجية شاملة؛ تُسهِّل عودة ظهورها كقوةٍ فاعلةٍ في أفريقيا، وإلا سوف تفشل جميع المحاولات الفرنسية لفتح علاقات جديدة مع الدول الأفريقية.
وفيما يتعلق بتموْضع القواعد العسكرية الفرنسية في منطقة الساحل الأفريقي، فمن المحتمل، أن تقوم فرنسا بالاتجاه نحو إعادة نشْر قواتها في المنطقة، خاصة في تشاد، أو في دول أفريقية أخرى، مثل ساحل العاج، وربما قد تلجأ فرنسا إلى إرسال قوات إلى “الجابون، وبنين، وغينيا بيساو”؛ للحفاظ على نفوذها في القارة الأفريقية، مقابل أن تقوم فرنسا بتقديم الدعم للقوات المحلية في الوقوف بوجه التنظيمات الإرهابية التي ترغب في التمدُّد نحو خليج غينيا.
ختامًا
أسَّس انقلاب النيجر نهاية حِقْبةٍ تاريخيةٍ من السيطرة الفرنسية على منطقة الساحل الأفريقي، والتي استمرت لمدة عقود طويلة، وتتأرجح التقييمات حول مدى صواب طريقة تعامُل فرنسا مع الانقلاب في النيجر، فبعض الآراء ترى أن على فرنسا استمالة المجلس العسكري الجديد في النيجر، والتوقف عن سياسة العقوبات التي انتهجتها للضغط على أعضاء المجلس العسكري، والتي أثبتت أنها لا تُجْدِي نفْعًا، بينما يرى البعض الآخر، أنه لا يمكن لفرنسا التخلِّي عن رئيس تمَّ انتخابه بطريقة ديمقراطية، وتأييد مجلس عسكري جاء عبْر انقلاب عسكري، حتى لو كان الأمر سيؤدي إلى انتقال السلطة العسكرية الجديدة إلى المعسكر الروسي، وتهديد المصالح الفرنسية، وسيكون الخروج الفرنسي من النيجر هو الأحدث في سلسلة انسحابات فرنسية من الدول الأفريقية في السنوات الماضية بعد بوركينا فاسو، في ظل وجود موجةٍ من المشاعر المناهضة لفرنسا في أجزاء القارة.