بقلم د. أحمد الشحات
المدير العام لمركز شاف للدراسات المستقبلية
على الرغم من مرور خمسين عامًا على حرب أكتوبر المجيدة، ما زلنا نتنسم رحابها الطاهرة ونتفاخر دائمًا بذكراها العطرة، هذه الحرب التى جاءت عقب تحديات عميقة مرتبطة بتداعيات نكسة 67 بأبعادها المختلفة، أبرزها اجتماعيًا حيث تولدت سلوكيات ومشاعر سلبية عكستها حالات الإحباط واليأس وعدم الثقة واليقين، وأنهت بها دائرة الأحلام للعديد من الأجيال التى عايشت تلك الحقبة الزمنية، واقتصاديًا أوضاع متردية غلفت وجوه المصريين وغيرها.
عمَّق هذه الحالة تغيرات فى تعامل المجتمع الدولى معنا، على سبيل المثال رفضت العديد من الدول المصدرة للسلاح توريده لمصر خوفًا من هزيمة سلاحها فتتأثر معدلات توزيعه فى مناطق أخرى، بالتوازى مع تراجع الدعم السياسى لموقف الدولة المصرية على المستوى الدولى وإن كانت هناك بعض المحاولات الباهتة فى هذا الصدد، بينما عسكريًا برزت حالة من عدم تكافؤ موازين القوى وانحرفت لصالح العدو المدعوم من قوى كبرى، بالإضافة إلى المانع المائى والساتر الترابى وخط بارليف بنقاطه الحصينة التى تستهدف مدن القناة بشكل دورى، وغيرها من الأبعاد المتعددة التى تشير لاستحالة العبور واسترداد الأرض وحدوث انفراجة حقيقية فى المشهد.
فأتت هذه الحرب الفريدة من نوعها؛ لترسم ملحمة شعب حقيقية، وتعطى نموذجًا يُحتذى به فى المثابرة والإصرار لاستعادة الكرامة وتعظيم معانى التضحية والفداء، كل ذلك باحتضان شعبى بالغ يرتكز على حضارة وهوية خاصة ترفض الهزيمة وترتبط بالأرض وتصر على البقاء، مع قيادات سياسية وطنية قادت المشهد بعبقرية بداية من حرب الاستنزاف بمراحلها المختلفة حتى قرار الحرب، توج ذلك أداء متفرد لقادة وضباط وجنود ونماذج وطنية مبهرة داعمة صنعت المعجزة بكل تجرد وإيثار.
كما أعطت تلك الملحمة درسًا للعالم فى فنون الحرب والمعارك تدرس فى الأكاديميات العسكرية الدولية، بُنيت على احترافية عالية وبراعة فى التخطيط الاستراتيجى والتنفيذ وقيادة حكيمة تعاملت بمنتهى الموضوعية والدهاء، وحطمت بذلك نظرية الأمن الإسرائيلى، فانهار العدو معنويًا وعسكريًا رغم التحصينات والتسليح العظيم، حينذاك شعر المجتمع الدولى بالصدمة من هزيمة الأقوى، ليفرض عليهم أن يتأملوا مرة أخرى فى قراءة تاريخ الأمم لتترسخ فى وجدانهم مدى عظمة الدولة المصرية حتى وإن لم يعلنوا.
ليأتى ملمح آخر وهو تعاظم مفهوم القومية العربية وكأننا نحصد ما زرعناه، فتبرز مواقف تاريخية داعمة أحيت حالة التكاتف وأسهمت بشكل فاعل فى توازن الموقف واستعادة الأوضاع وسط إدراك بأهمية الدولة الرائدة عمود الخيمة.
وختامًا، من طرحى هذا يزداد يقينى بضرورة استدعاء روح ووعى حرب أكتوبر المجيدة وملامحها من خلال توظيف دروسها المستفادة لتكون منهجًا حقيقيًا فى التعامل مع تحدياتنا بأسلوب وتخطيط علمى متزن وسياسات موضوعية تتوافق مع إمكانيات الدولة، وتتوازى مع الإدراك بأن أى معضلات ومشكلات عميقة تتطلب حلولًا غير تقليدية، تحميها بشكل مطلق مع تماسك جبهتنا الداخلية وتغليب المصلحة الوطنية على أى مصالح أخرى، واستيعاب لمفاهيم ومتطلبات الأمن القومى، والقناعة بعظمة دولتنا وخصوصية التاريخ بالحفاظ على ملامحه باستمرار البقاء والوجود كرقم مهم وبارز فى المعادلة الإقليمية والدولية.
فى النهاية، تحية إجلال واحترام وتقدير لجيل أكتوبر العظيم من جميع أطياف الشعب، الجيل الذى تحمل وتجاوز المحنة وحالة الانكسار وتدرك الصعاب وانتفض وأعطى وضحى بكل غالٍ ليحقق النصر ويحيى الأمل ويحفظ الهوية ويعلى الروح الوطنية داخل الأجيال المتعاقبة، فأصبحوا لنا قدوة ورمزًا للمجد والعطاء والإيثار والفداء ومرجعًا للتضحية والرقى والوفاء، هنيئًا لكم فعلكم، وهنيئًا لنا نسبنا إليكم.