إعداد: دينا لملوم
منذ ميلاد الحرب الأوكرانية وروسيا تخوض منافسة حادة مع الغرب؛ وتسعى نحو إيجاد رقعة جديدة فى إفريقيا تمكنها من توسيع وتأكيد نفوذها الإفريقى؛ ولقد كانت عملية طوفان الأقصى عاملاً مساعداً مكن روسيا من توغلها بقوة فى القارة؛ مستغلة انشغال العالم بهذه القضية، وقد سهل لها ذلك سلسلة الانسحابات الفرنسية المستمرة من إفريقيا، كانت آخرها النيجر، وبالتالى فإن هذه العوامل شكلت دافعاً لاستفحال قوى موسكو وتفاقم رغباتها التوسعية فى إفريقيا، كما أن موقفها الرافض لحلقة العنف الدائرة، واستنكار ما يحدث فى غزة، ربما يكون بمثابة عامل ثقة جديد لدى بعض الدول الإفريقية، وتحاول موسكو التشبيك بين كافة هذه العوامل، واستخدام القوة الناعمة لترسيخ نفوذها فى المنطقة، وقد ظهر ذلك فى الاندماج الروسى عبر توقيع اتفاقات مع دول إفريقية إنشاء بنية تحتية نووية بها، فضلاَ عن الوعود الروسية المثارة بشأن إمداد ست دول إفريقية بمساعدات حبوب بشكل مجانى، وهكذا تتضح السياسة الروسية نحو إفريقيا، التى تتجه لشرعنة وجودها فى القارة عبر قنواتها الدبلوماسية المختلفة الرامية إلى الحصول على دعم من قبل الأفارقة ذاتهم وملء الفراغ الذى تتركه فرنسا بعد رحيلها.
تراجع فرنسى يقابله تمدد روسى:
فى ظل الانسحابات المتكررة للقوات الفرنسية من إفريقيا، يتضح مدى العداء السياسى والمجتمعى تجاه فرنسا، لا سيما فى منقطة غرب إفريقيا، ففى أكتوبر 2022 تم شن هجوم من قبل محتجين على السفارة الفرنسية فى واغادوغو والمعهد الفرنسى فى بوبو ديولاسو فى بوركينا فاسو، على الجانب الآخر شهدت مالى والنيجر تظاهرات ضد التواجد الفرنسى فى البلاد، وتعرضت المتاجر الفرنسية فى داكار للنهب مارس 2021، وخلاصة هذه الأفعال تتبلور فى إظهار مدى النفور وتنامى شعور مناهض للفرنسيين، يرفض تماماً تواجدهم فى غرب إفريقيا بكافة أشكاله وصوره، ولم يقتصر ذلك على المزاج الشعبى فحسب، بل أصبحت رغبة ملحة لدى النخب الإفريقية الحاكمة، خاصة المؤسسات العسكرية، على خلفية الإرث الاستعمارى الفرنسى فى القارة، فتحول الوجود الفرنسى الراسخ المدعوم بروابط اقتصادية وثقافية وتاريخية وطيدة، إلى وجود هش يفقد قيمته يوماً بعد الآخر، ويرجع الانحسار الفرنسى فى إفريقيا إلى عدة أسباب:
- الإرث الاستعمارى: لقد تربت ونشأت الذهنية الإفريقية على العداء الواضح للقوى الاستعمارية، والتى اتسمت بالعبودية والاستغلال والعنصرية الموجهة لشعوب إفريقيا؛ لذا فإن الحاضر يستدعى الماضى ويشكل عنصراً حاكماً لعلاقة الدول الإفريقية خاصة الشمال والغرب بفرنسا، التى تُقدم فى الغرب الإفريقى على أنها القوة الإمبريالية الأولى، والسياسة التى اتبعتها باريس فى حقبة ما بعد الاستعمار خلال النصف الثانى من القرن العشرين، والتى استندت إلى استغلال الموارد الطبيعية التى تحويها القارة، إضافة إلى التحكم فى الأنظمة السياسية والقيام بانقلابات عسكرية تمكنها من الحفاظ على حدود سيطرتها على دول إفريقيا، وهو ما يصرف الأذهان إلى استمرار الاستعمار، ولكن بصور وأنماط مختلفة، إلا أن الهدف النهائى يقضى بوجود حلقة مغلقة من التضييق والحصار على الدول التى مازالت تعانى من تبعات هذه الحقب الاستعمارية.
- التواجد العسكرى: لقد كانت الاضطرابات والتحديات التى عانت منها منطقة الساحل الإفريقى، وتنامى وتيرة أعمال العنف الناجمة عن الجماعات الإرهابية، سبباً من أسباب توغل فرنسا وتدخلها عسكرياً عبر مجموعة من التحالفات الأمنية والعسكرية، وهو ما أثار حفيظة النخب السياسية والفكرية الإفريقية، بوصفه عنصر تأزيم وتفاقم للمشاكل التى تعانى منها القارة، وليس عاملاً مساعداً يدعم استتباب واستقرار المنطقة.
- اقتناص الفرص: لقد كانت القوى الخارجية سبباً فى طى صفحة فرنسا فى إفريقيا، عبر التذكير بالماضى الاستعمارى لهذه الدولة فى القارة والتى تتعلق بالسياسة الاقتصادية الفرنسية فى غرب إفريقيا، واتجاه الدول التى لها مصالح مباشرة فى إفريقيا كالصين وروسيا إلى اقتناص الفرصة وتأجيج مشاعر الغضب تجاه باريس، عبر استخدام العوامل التاريخية والعسكرية؛ لإثارة هذه المشاعر، واستعراض قواهم على أنهم المنقذ للقارة من تبعات الآثار السلبية التى تمخضت عن الوجود الغربى فى البلاد، وكل هذه العوامل تؤسس لروسيا مكانة كبيرة لدى الشعوب الإفريقية.
وفى وقت تراجع فيه النفوذ الفرنسى، ثمة تواجد روسى انتشر بقوة ليملأ الفراغ الذى تركته باريس، فمنذ وصول الرئيس بوتين إلى سدة الحكم عام 2000، ارتكزت عقيدته التوسعية على إعادة التوغل الروسى فى الإرث التاريخى الذى تركه الاتحاد السوفيتى، وبدأت موسكو فى التعامل بدبلوماسية وتبنى سياسة القوة الناعمة من خلال سبل عديدة، لتأسيس أرضية خصبة تجعلها تحظى بثقة الدول الإفريقية، وتأمين مصالحها وأهدافها، ومناوئة الولايات المتحدة، وقد وقف وراء ذلك، سلسلة الانسحابات الفرنسية من القارة، وبدأت موسكو فى استعادة مجدها، واستعراض نفسها ككقوة عظمى تسعى لتحقيق مصالح الأفارقة مقابل قوى أخرى كانت تستغل ثرواتهم، وقد استفادت من الحصيلة التراكمية للمساعدات التى قدمها الاتحاد السوفيتى للعديد من القادة الأفارقة المناهضين للاستعمار، تلك العوامل جعلت لموسكو قبولاً شعبياً كبيراً بخلاف القوى الغربية كفرنسا، ناهيك عن توظيف أدواتها الدبلوماسية فى إفريقيا؛ للتأكيد على محوريتها وأنها بمثابة المنقذ لهؤلاء الأفارقة من عصور الظلام التى عاشوا فيها فى حقبة القوى الاستعمارية.
مظاهر التمدد الروسى فى إفريقيا:
استطاعت روسيا إيجاد موطئ قدم لها فى إفريقيا عبر مجموعة من الأدوات والسبل التى سلكتها لكسب ثقة الشعوب الإفريقية وإحلال محل فرنسا، وهو ما يمنحها نفوذاً لا يستهان به، ومن مظاهر ذلك:
1-دبلوماسية اللقاحات:
لقد استغلت موسكو الجائحة الصحية التى اجتاحت العالم، وشنت حملة لتوزيع اللقاحات المجانية على الدول الإفريقية خاصة غرب إفريقيا؛ وذلك من أجل تدعيم نفوذها الإفريقي، كما وافق صندوق الاستثمار المباشر الروسى على منح امتياز تصنيع اللقاح فى 15 دولة إفريقية، فى الوقت الذى لم تكن فيه فرنسا تعبء لتفشى الأمراض والأوبئة فى هذه المنطقة، وهو ما أسس لروسيا درجة كبيرة من الثقة، حيث تقدمت على أنها الدولة التى تسعى إلى انتشال الأفارقة من الضياع والمشاكل التى يعيشون فيها منذ سنوات الاستعمار.
2-نشر عناصر فاجنر:
بجانب مظاهر القوة الناعمة التى تدشنها روسيا فى إفريقيا، نجد أن نفوذها فى غرب إفريقيا يتجلى من خلال قوتها الصلبة التى تظهر فى مجموعات فاجنر التى تتواجد فى أفريقيا الوسطى ومالى، فقد بدأت فاجنر فى العمل فى بانجى عام 2018، وبالرغم من الاتهامات التى وجهت لهذه الجماعة بانتهاكها لحقوق الإنسان، إلا أنها كانت تكتسى بنوعاً من الدعم؛ نظراً لدورها فى منع تحالف الوطنيين بقيادة الرئيس السابق “فرانسوا بوزيزى” من الإطاحة بالرئيس “فوستان تواديرا”، كما ساعدت المجموعة على إخضاع المدنيين فى المناطق التى كان يسيطر عليها المتمردون، أما عن مالى فتعمل فيها فاجنر منذ نهاية 2021؛ لذا فإن أنشطتها تبدو وكأنها متركزة على حماية الأنظمة السياسية الحليفة، بخلاف الشريك التقليدى الذى تمثل فى فرنسا، وعليه فإن هذه التحركات تعمل على زيادة ترسيخ نفوذ موسكو فى إفريقيا.
3-مساعدات الحبوب الروسية:
بعد قيام روسيا بالانسحاب من اتفاقية تصدير الحبوب يوليو الماضى، عادت من جديد لتؤكد التزامها بتصدير شحنات مجانية من الحبوب إلى ست دول إفريقية خلال الفترة المقبلة، وإعادة إحياء اتفاق البحر الأسود، إضافة إلى تقديم خدمات لوجستية بشكل مجانى لتسليم هذه الشحنات، وتعد هذه التحركات بمثابة الذراع الآخر للتوغل الروسى فى إفريقيا، خاصة فى ظل التغيرات المناخية التى تشهدها والتى تمخض عنها تهديد الأمن الغذائى وانتشار الفقر والمجاعات.
4-توقيع شركة روساتوم:
وقعت واغادوغو مذكرة تفاهم مع شركة روس أتوم الروسية؛ لتشييد محطة للطاقة النووية فى البلاد، والتى ستشكل نقلة نوعية فى غرب إفريقيا؛ حيث ستساعد على حل مشكلة الكهرباء، وتغطية احتياجات السكان من الطاقة، وذلك تم خلال أسبوع الطاقة الروسى الذى عُقد فى موسكو 11 أكتوبر الحالى، إضافة إلى ذلك تم توقيع اتفاق مماثل مع مالى؛ ويهدف هذا المشروع إلى التعاون فى مجال الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية، وتلبية احتياجات السكان فى مجالات الصناعة والزراعة والطب والأمن، فضلاً عن حل مشكلة الكهرباء فى بوركينا فاسو التى يعانى حوالى 80% من سكانها من انعدام الكهرباء، وكذلك مالى التى لا يتوافر بها الكهرباء لقرابة 50 % من سكانها، ويأتى هذا التغير بالتزامن مع أحداث جذرية تعيشها منطقة الساحل فى ظل تصاعد النفوذ الروسى فيها منذ 2020، فى المقابل هناك تراجع فى النفوذ الفرنسى، فضلاً عن تنامى أذرع داعش والقاعدة، وبالنظر إلى تحالف دول الساحل الجديد الذى يضم مالى وبوركينا فاسو والنيجر، نجد أن ثمة تعاون عسكرى بين روسيا وباماكو وواغادوغو، أما عن النيجر فتظل موضع تساؤل، خاصة بعد انسحاب القوات الفرنسية منها، ويمكن بلورة هذا الوضع فى الآتى:
تواجد قواعد عسكرية أمريكية تحول دون التمركز الروسى القوى فى نيامى، ولكن بالنظر إلى وجود مناجم اليورانيوم الواقعة ضمن الأراضى النيجرية، والمشروع النووى الذى تسعى موسكو لتأسيسه فى الدولتين السالف ذكرهما، يحتمل أن تتخذ موسكو ذلك كذريعة للتدخل فى النيجر؛ من أجل الحصول على اليورانيوم لبدء مشروعها الذى يعد بمثابة المشروع الحضارى للدول التى تفتقر للبنية التحتية الكهربائية، إضافة إلى احتمالية إدخال عناصر فاجنر لتسد الفجوة التى تركتها القوات الفرنسية وتعمل جانباً إلى جانب الدولة- على حد اعتقادها- فى محاربة التنظيمات الإرهابية وإعادة الأمن والاستقرار إلى البلاد مرة أخرى، كل هذه الأمور تعطى روسيا الشرعية للتدخل فى النيجر، لا سيما وأن ليس لها ماضياً استعمارياً كالدول الغربية، وبالتالى فقد تلحق نيامى بركب مالى وبوركينا فاسو، تلك الدول الثلاث التى تعيش أوضاعاً سياسية وأمنية متشابهة، وتسارع إلى عقد اتفاق مع روسيا لتشييد محطات للطاقة النووية، هذا الأمر قد يشكل حلقة من الشد والجذب بين موسكو وواشنطن خارج المسرح الأوكرانى، وتؤدى إلى تنامى حدة التوترات بين الطرفين، وهو ما يؤرق الوضع الأمنى فى الدول الإفريقية، وفى هذا الصدد يبقى الحديث عن مدى قدرة هذه الدول على دفع ثمن بناء هذه المحطات ومخاطر وجود منشآت بهذه الحساسية فى منطقة لم تعرف الاستقرار الدائم منذ استقلالها عن فرنسا، فالمظلة العامة لهذا المشروع هو استخدامه فى الأغراض السلمية، ولكن قد يتطور ويتمحور ويشكل خطراً على القارة.
المصالح الروسية فى إفريقيا:
انطلاقاً من العقائدية الروسية الرامية إلى تعزيز التواجد الروسى فى إفريقيا، بعد العزلة المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة والغرب، نجد أن هناك مجموعة من المصالح التى تقف وراءا تحركات موسكو فى المنطقة، أبرزها:
1-المصالح الاقتصادية:
تتشعب أوجه التعاون الاقتصادى بين الدول الإفريقية وروسيا، حيث تطلق الأخيرة استثمارات ضخمة فى القارة، فى حقول الذهب الموجودة بجنوب إفريقيا، علاوة على الاستثمار فى مجال الفحم فى ساحل العاج وغانا، كما أن موسكو تسعى لتعزيز سيطرتها على الموارد الطبيعية، حيث النفط والغاز وخلافه، على غرار ذلك، إقدام الشركات الروسية على تدشين تيارات جديدة من إمدادات الطاقة، وبناء محطات نووية فى عدد من الدول الإفريقية.
2-المصالح العسكرية والسياسية:
تسعى روسيا لأن تكون صاحبة الريادة فى المجال العسكرى الذى يشمل تجارة الأسلحة والطائرات، واتخاذ العلاقات العسكرية كمدخلاً للعلاقات السياسية، وقد ارتبطت موسكو مع الدول الإفريقية باتفاقات دفاعية وأمنية من بوابة تقديم الدعم الأمنى، فضلاً عن تصدير الأسلحة إلى إفريقيا يشكل ما بين 30-40% من إجمالى الصادرات الروسية عام 2021، أيضاً هناك الشركة الأمنية الخاصة الروسية، التى تتدخل عسكرياً فى مناطق الصراع فى إفريقيا ترسخ وجوداً روسياً يمكن موسكو من تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وأيضاً عسكرية؛ لذا يمكن القول بأن القيادة الروسية تحاول فرض نفسها على الساحة الإقليمية عبر تجديد عهد تواجدها فى المنطقة، وتعزيز التعاون السياسى؛ لتقوية الموقف الروسى فى المحافل الدولية.
ختامًا:
يبدو من خلال التحركات الملحوظة لروسيا فى إفريقيا، وكأنها تحاول إحياء أمجاد الاتحاد السوفيتى تجاه القارة؛ وتدعم ذلك بتصدير خطابات مناهضة للإمبريالية الغربية المتجددة فى المنطقة، وأنها راعى السلام الذى يسعى لتحرير البلاد من هيمنتها، هذا الأمر ربما يعزز من درجة قبولها لدى الرأى العام الإفريقى، فى ظل الأجواء المشحونة بعداءات صارخة ضد التواجد الغربى فى القارة، وفى الوقت الحالى تحاول موسكو استغلال الانشغال العالمى فى قضية طوفان الأقصى والتوغل بشدة فى إفريقيا، بشكل يهدد النفوذ الأمريكى فى المنطقة، ومن هذا المنطلق ربما تشهد الفترة القادمة تحركات أمريكية تسعى لتضييق الحصار على موسكو ومحاولة التصدى للتذرع الروسى فى القارة بشكل يهدد وجود ومصالح الولايات المتحدة، وفى هذا الصدد تثار التخوفات بشأن احتمالية حدوث مواجهات روسية أمريكية حينما تتفرغ الأخيرة من الانهماك فى الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، خاصة إذا حاولت روسيا تهديد أو حتى المساس بمناطق نفوذها ومصالحها، كما أن الشركات الخاصة التابعة لروسيا قد تشهد مساحة أكبر من التغلغل فى إفريقيا لتحل محل القوات الفرنسية؛ بحجة مساندة الدول الإفريقية فى مواجهة التحديات الأمنية التى تعانى منها، بما فى ذلك المخاطر الإرهابية والاضطرابات الداخلية.