إعداد: رضوى الشريف
باحث متخصص في شؤون الشرق الأوسط
كلما يشتدُّ الصِّرَاع بين الجانبينْ «الفلسطيني، والإسرائيلي»، لا يغيبُ عن السَّاحَة السياسية دور وتأثير القوى الإقليمية في الصِّرَاع، والمواجهات المتصاعدة الدائرة حاليًا عقب عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر، ومع استمرار قصف إسرائيل لقطاع غزة، وبَدْئِها في تنفيذ خطة الغزو البري، ليست بالاستثناء من تلك القاعدة، ولكن المختلف في هذه الأحداث، هو حدوثها في وقتٍ، تتغير فيه موازين القوى في المنطقة، وتتطور معها العلاقات الإقليمية، ومن تلك التغيُّرات تصاعُد نفوذ الدول الخليجية في المنطقة مع تسارُع وتيرة التقارُب «الخليجي-الإسرائيلي».
ومن يتابع الأحداث، سيُلاحظ ظهور طرفٍ طارئٍ في الجدالات، حول دوافع هجوم حماس؛ إذ سرعان ما ظهرت تكهُّنَات بين المحلِّلين والإعلاميين والسياسيين، تتهم إيران بالضلوع وراء هجوم حماس على إسرائيل؛ بهدف وقْف مفاوضات التطبيع الجارية بين «السعودية، وإسرائيل».
تلك التحليلات دفعت وزير الخارجية الإيراني؛ لنفْي تلك الاتهامات، واعتبر أن لها “دوافع سياسية”، ولكن طهران عبَّرت رسميًّا عن تأييدها؛ لعملية لحماس، بالإضافة إلى أن المتحدث باسم حماس قال: بأنه فخور، بأن إيران توفر الدعم لهم (دون تحديد علاقة إيران بذلك الهجوم)، ردًّا على سؤالٍ حول دور الدعم الإيراني في تنفيذ الهجوم الأخير، صرَّح العميد علي فدوي (نائب القائد العام للحرس الثوري الإيراني)، بأن حماس نجحت في عرقلة عملية التطبيع بين «السعودية، وإسرائيل»، ولقد وصف العميد الإيراني تطبيع العلاقات بين «السعودية، وإسرائيل»، بمؤامرة خبيثة من تخطيط واشنطن، ربما يكون من الصعب القطْع بضلوع إيران في الأحداث الأخيرة، ولكن بروز أهمية الرياض بهذا الشكل يُوضِّح محورية الخليج في الصراع «الفلسطيني-الإسرائيلي»، والتوازنات الإقليمية الحالية.
المواقف الرسمية الخليجية من الحرب على غزة
على مستوى المواقف الخليجية الرسمية من العدوان الإسرائيلي على غزة، كان هناك إجماعٌ على الدعوة إلى الوقف الفوري للعدوان، واعتبار إسرائيل الطرف المسؤول، بصورة كاملة، عن كل ما حدث وما سيترتب عليه، وهذا ما عبّر عنه البيان الذي صدر عن مجلس التعاون الخليجي في الأيام الأُولى من الحرب على غزة، وعلى الرَّغْم من ذلك، فقد شهدت المواقف الرسمية الخليجية “منفردةً” تبايُنًا في جُمْلةٍ من القضايا المرتبطة بالعدوان، وطُرُق التعامل معه، وسُبُل معالجة آثاره.
فقد ظهر تبايُنٌ حِيالَ فكرة الاجتماع الطارئ للجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية، في 9 أكتوبر، أو في قمة القاهرة للسلام، 21 أكتوبر، وتبايُنٌ آخر حول الجهة الفلسطينية التي يجب مخاطبتها، وما إذا كانت تضُمُّ حركة المقاومة الإسلامية (حماس) أم لا؟ وتبايُنٌ ثالث تجاه المقاربة المصرية الخاصة بمعبر رفح الحدودي.
نجد أن الموقف «الكويتي، والعماني، والقطري» واضحًا ومحددًا في إدانته لإسرائيل، وتحمّلها المسؤولية الكاملة تجاه ما يحدث، ويبدو أن انتقادات تلك البلدان لإسرائيل تعكس رفضها القديم والجديد للتطبيع، في ظل غياب حلٍّ للقضية الفلسطينية، ورغم رفضهما إقامة علاقات رسمية مع تل أبيب، انخرطت الدوحة في درجات متفاوتة من التواصُل مع إسرائيل، وإن كان حدث في معظم الأحيان بصفة الوساطة بشأن تبادُل الأسرى.
وبينما كان موقف «الإمارات، والبحرين» مماثلًا من ناحية وقْف إطلاق النار، ولكنهما أصدرا بيانات بكلمات أكثر تحفُّظًا في مخاطبة إسرائيل وأشدّ إدانة للمقاومة الفلسطينية، أشارت السعودية إلى أنها لطالما حذَّرت من مخاطر استمرار الاحتلال وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة وتكرار الاستفزازات الممنهجة ضد مقدساتهم، وعقب هجوم السابع أكتوبر، أُفيد بأن ولي العهد السعودي، أعرب عن تضامنه مع الفلسطينيين، ورغبته في احتواء العنف، وكان ذلك في مكالمات هاتفية منفصلة مع «رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وملك الأردن، والرئيس المصري».
رُكَامُ الماضي
تبايُنٌ للموقف الخليجي تجاه ما يحدث الآن، هو في الواقع صدىً لانقسامٍ عربيٍّ أكثر وضوحًا نتيجة ركام الماضي، وبسرْد رواية صغيرة، عندما عاد الرئيس المصري الراحل أنور السادات من “كامب ديفيد”، عام 1978، بعد اتفاقية السلام التي وقَّعها مع إسرائيل، كان هناك غضبٌ شعبيٌّ وعربيٌّ كبيرٌ تجاهه؛ حيث رأت شعوب المنطقة «أن ما حدث اقتصر فقط على عودة سيناء لمصر، بينما لم تحقق الاتفاقية شيئًا للفلسطينيين سوى حكمٍ ذاتيٍّ على جزءٍ صغيرٍ من الأراضي المحتلة».
وبالرَّغْم من أن هذا الغضب الغير مفهوم كان غير منصفٍ حينذاك، وهذا ما تثبته الأحداث الحالية، كان يرى الرئيس الراحل أنور السادات، أن المهم أن يضع الفلسطينيون قدمًا على أراضيهم، وبعد ذلك يمكن أن تحل القضية عن طريق التفاوض، كما كان ينفي عن نفسه تهمة الحل المنفرد التي أُلصقت به من قِبَلِ البعض، وكان يقول: “ارجعوا إلى خطابي في الكنيست” لم أتحدث سوى عن حقِّ الشعب الفلسطيني في إقامة دولته، وحق السوريين في الجولان، وحق الدول العربية في الأراضي التي احتلت في يونيو 1967 , والقدس واللاجئين، وأنه لم يذهب من أجل مصر فقط، بل من أجل حقوق الفلسطينيين والعرب.
وبعد أقل من شهرٍ، من زيارة السادات للقدس، في نوفمبر 1977، دعا «السادات» إلى مؤتمر دولي للسلام في فندق ميناهاوس؛ لوضع خارطة طريقٍ لمرحلة ما بعد الزيارة، ومعرفة ردِّ فعل الدول العربية من زيارته لإسرائيل.
وجهت الدعوة للمشاركة في المؤتمر إلى كُلٍّ من «سوريا، والمملكة العربية السعودية، ومنظمة التحرير الفلسطينية، والأردن، ولبنان» – (الأطراف العربية المباشرة في النزاع) – ومعها «إسرائيل، والاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة، والأمم المتحدة»، لكن أطراف النزاع العربية لم يحضروا، وكوَّنوا جبهة الصمود والتصدِّي, وانحاز رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، لخيار عدم المشاركة؛ امتثالًا لقرارات قمة بغداد, وكان عدد المستوطنات الإسرائيلية في ذلك الوقت في «الضفة الغربية، وغزة، وسيناء، والجولان» 18مستوطنةً فقط، يسكنها العشرات من المستوطنين.
قرَّر العرب فرْض حصارٍ على مصر وعلى كل من يفكر في إقامة علاقات مع إسرائيل، ومضى «السادات» منفردًا إلى كامب دافيد، وبعد مفاوضات عصيبة، تمَّ توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، التي استعاد «السادات» بموجبها كافَّة الأراضي المصرية، التي احتلت في يونيو 1967م، مقابل التطبيع مع إسرائيل.
بينما بدأت المحن والمشاكل تحاصر القضية الفلسطينية وياسر عرفات والفلسطينيين، منذ هذه اللحظة وحتى يومنا هذا، فدفعوا ثمن تورُّطهم في الحرب الأهلية بلبنان، وبعدها الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، ومغادرة ياسر عرفات وقادة منظمة التحرير الفلسطينية الأراضي اللبنانية والبحث عن مكان يُؤويهم.
وساءت الأوضاع في المنطقة العربية أكثر، عقب الشَّرْخ الكبير الذي أصاب العالم العربي؛ نتيجة غزو «صدام حسين» للكويت وتأييد ياسر عرفات لصدام حسين، ودفع الفلسطينيون الثمن، وغادر أكثر من نصف مليون فلسطيني الأراضي الكويتية، وفقدت منظمة التحرير الفلسطينية الدَّعْم الخليجي، وتراجع الدعَّمْ العراقي؛ نتيجة ما حاق بالعراق من حصارٍ بسبب الغزو.
وانتهى المطاف بياسر عرفات للقبول بالحكم الذاتي، الذي رفضه في وقت الرئيس الراحل أنور السادات، والاكتفاء بـ 22% من مساحة فلسطين التاريخية، لم يحصلوا عليها حتى الآن، وترك الـ 78% لإسرائيل (قرار الأمم المتحدة بالتقسيم الذي رفضه العرب في العام1947 كان يعطي الفلسطينيين 42 %، ويضع مدينة القدس تحت الوصاية الدولية) مع السماح لإسرائيل بالسيطرة على المستوطنات التي زاد عددها الآن، وأصبحت تؤوي قرابة مليون إسرائيلي؛ أي الاكتفاء بـ«الضفة، وغزة» محاصرتيْن بقوات الاحتلال لحماية المستوطنين.
وقَّع ياسر عرفات معاهدة أوسلو في العام 1993م، بعد اعترافه بحق إسرائيل في العيش بسلام وأمن، وأدان استخدام العنف، وإنهاء النزاع المسلح مع إسرائيل، مقابل إقامة سلطة وطنية فلسطينية بدون جيش، والاكتفاء بقوات شرطة، وكانت هناك مهلة زمنية، قدْرها ثلاث سنوات، تبدأ بعدها مفاوضات الحل النهائي؛ لبحث القضايا العالقة؛ مثل القدس والمستوطنات واللاجئين والترتيبات الأمنية والحدود النهائية، وتبع ذلك توقيع الأردن في أكتوبر 1994، اتفاقية “وادي عربة” للسلام مع إسرائيل.
استغلَّت إسرائيل الفرصة، بعد فشل مفاوضات كامب دافيد 2 بين ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك “إيهود باراك”؛ للتملُّص من التزاماتها تجاه مفاوضات الوضع النهائي مع الفلسطينيين، بعدما خرج الرئيس الأمريكي بيل كلينتون؛ ليُلْقِي باللائمة على ياسر عرفات، في فشل المفاوضات، وقامت إسرائيل بالتنكيل بياسر عرفات وحصاره في رام الله بعد اتهامه بالوقوف وراء اشتعال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، حتى انتهى الوضع عندما مرض ياسر عرفات ومات في نهاية عام 2004.
بعد أحداث 11سبتمبر، وإلصاق تهمة تنفيذها بالعرب والمسلمين، انحازت الولايات المتحدة كُليًّا لإسرائيل التي كانت أكبر المستفيدين، وازداد الموقف العربي ضعفًا بعد سقوط بغداد في العام 2003 , وظهرت الخلافات والانقسام «الفلسطيني- الفلسطيني» بين «فتح، وحماس» التي استولت على غزة، وضعف الاهتمام العربي والدولي بالقضية الفلسطينية.
ثم أتت رياح ما يُسمَّى بـ«ثورات الربيع العربي» عام 2011، على ما تبقَّى من دعْمٍ للقضية، وانكفأت معظم الدول العربية على نفسها لحل مشاكلها الداخلية، وتلبية مطالب شعوبها، والتي خلت من مطلب يخص القضية الفلسطينية، حتى كادت القضية أن تذهب في طيِّ النسيان.
الموقف السعودي: دعم للقضية بملامح مختلفة
قبل اندلاع الأحداث الراهنة وإعلان الحرب على غزة، كانت هناك مفاوضات جارية؛ للتوصل لاتفاق تطبيع بين «الرياض، وتل أبيب» برعايةٍ أمريكيةٍ، أكَّد كُلٌّ من ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في تصريحات سابقة، بأنهما على وشك التوصُّل إلى اتفاقٍ من أجل تطبيع العلاقات، ولكن تلك المفاوضات توقفت في أعقاب هجوم حماس، وتصعيد إسرائيل، فبحسب مصدر سعودي لوكالة فرانس برس، قرَّرت الرياض أن تُعلِّقَ مشاركتها في محادثات التطبيع كردِّ فعلٍ على الأحداث الجارية.
وأصدرت السعودية عدة بيانات ذات لهجة شديدة، تُدين فيها القصف الإسرائيلي، وحصار إسرائيل لغزة، وترفض فيها دعوات تهجير الفلسطينيين، في وسط تلك الأحداث، اهتمت القوى الإقليمية والدولية بالتباحث مع الرياض، فلقد عقد بلينكن لقاءً مع محمد بن سلمان، ودعا بلينكن في اللقاء للضغط على حماس، بينما ولي العهد السعودي، أكد على سعي الرياض؛ لتهدئة الموقف، والعودة لمسار السلام، كما تلقَّى محمد بن سلمان اتصالًا هاتفيًّا من الرئيس الإيراني؛ للتباحث حول الأوضاع في غزة.
على الرَّغْم من إصدار الرياض تصريحات رسمية شديدة اللهجة، تُدين فيها إسرائيل، وتظهر دعمها للقضية الفلسطينية، ولكن يرى البعض، بأن وراء تلك المظاهر بدعم فلسطين هناك مصالح للسعودية، تحاول الرياض بالدفع نحو حل دبلوماسي؛ لإنهاء النزاع في سبيل منع انتشار الصراع إلى البلدان المجاورة، ووقف تدخل إيران، أو حزب الله في المستقبل القريب، تلك المساعي السعودية، تدخل في سياق الخطة الأكبر للرياض؛ الرامية لتقليل المخاطر والتوترات في المنطقة؛ من أجل تحقيق الاستقرار الإقليمي اللازم؛ لتطبيق رؤية 2030؛ حيث إن تصاعد التوترات الإقليمية سيُؤثِّرُ سلبًا على تصوُّر هذه الرؤية لمستقبل السعودية، ونشاطها الاقتصادي المرتبط بتحقيق مستهدفات الرؤية.
فيما يتعلق بمستقبل التطبيع مع إسرائيل، علقت الرياض مشاركتها في المفاوضات فقط، ولم توقفها نهائيًّا؛ ما يعني أن السعودية لم توقف مسار التطبيع تمامًا، وأن استمراره لا يزال ممكنًا، ولكن كما لاحظ مراقبون، بأن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، حقَّق بالفعل إنجازات عديدة، فلقد استطاع التغيير من صورة المملكة التي تمَّ تشويهها عقب الاتهامات الغربية ضده، بأنه وراء مقتل الصحفي “جمال خاشقجي” عام 2019، ولكن بعد الحرب «الروسية – الأوكرانية» وأزمة الطاقة، نجح محمد بن سلمان باستغلال تلك الفرصة لصالحه، وانتهى المطاف بزيارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” للسعودية واللقاء به، وحثّه على تخفيض أسعار النفط وزيادة الإنتاج، ومؤخرًا ظهر ولي العهد السعودي في قناة فوكس نيوز الأمريكية، ونجح في عرْض إنجازات المملكة في السنوات القليلة الماضية، مؤكدًا خلال المقابلة بأن “المملكة هي أكبر قصة نجاح في القرن العشرين”.
لهذا قد لا يحتاج ولي العهد السعودي لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، كما يرى البعض، وقد يكتفي بالنجاحات التي حقَّقها حتى الآن؛ حيث يُعدُّ موقف السعودية من هذا الملف هو موقف تكتيكي وليس مسارًا جادًّا، ولكن في جميع الأحوال، الرياض تريد أن تترك هذا الملف مفتوحًا، وعلى الأرجح، قد تستخدمها كورقة للضغط؛ لتهدئة الأوضاع في غزة، وهذا ما ستؤكده مُخْرجات القمة العربية الطارئة التي دعت لعقدها في الرياض، يوم 11 نوفمبر القادم.
استدعاء السعودية
تسعى السعودية في الأشهر الأخيرة؛ لكي تتصدر الريادة الإقليمية في حل قضايا المنطقة، وهذا ما ظهر جليًّا، سواء في استضافتها للقمة العربية في جدة، في شهر مايو الماضي، والتي فتحت الباب لعودة سوريا لأحضان الجامعة العربية، وكان ذلك بمثابة نجاحٍ دبلوماسيٍّ كبيرٍ للرياض، أو احتضانها محادثات جدة المتعلقة بالأزمة السودانية منذ اندلاعها، في شهر أبريل الماضي، وحاليًا تسعى الرياض لعقد دورة غير عادية لمجلس جامعة الدول العربية، بشأن الحرب على غزة، يوم 11 نوفمبر المقبل؛ بناءً على طلب رسمي من دولة فلسطين.
الموقف الإماراتي والبحريني: اختبار لاتفاقات إبراهام
على الجانب الآخر، دول الخليج الموقعة لاتفاقات إبراهام، كان موقفها واضحًا في إدانة حماس، ودعم الجانب الإسرائيلي، لقد وصفت خارجية الإمارات هجمات حماس، بأنها تصعيد خطير، وعبرَّت عن استيائها؛ بشأن احتجاز حماس لمدنيين إسرائيليين، بالإضافة إلى البحرين التي أصدرت بيانات تماثل التصريحات الإماراتية، كما أنه في الأيام الأولى للحرب، أكد وزير التجارة الإماراتي، بأنهم لا يخلطون السياسية بالتجارة، وأن ما يجري في غزة، لن يؤثر على العلاقات التجارية مع إسرائيل، لقد اتصل أيضًا نتنياهو برئيس دولة الإمارات، محمد بن زايد؛ ليكون أول اتصالٍ من رئيس الوزراء الإسرائيلي لأحد الحكام العرب خلال الأزمة، ولقد أكد نتنياهو في المكالمة، بأن إسرائيل عازمة على تدمير قدرات حماس، ولكن لاحقًا الوقع الشديد لقصف إسرائيل لمستشفى المعمداني، أجبرت «الإمارات، والبحرين» على إصدار بيانات تُدين فيها تل أبيب.
وفي جلسة مجلس الأمن الدولي حول التصعيد في غزة، الثلاثاء 24 أكتوبر، أدانت الإمارات على لسان وزيرة الدولة لشؤون التعاون الدولي الإماراتية، ريم الهاشمي، هجوم حماس، ولكن شدَّدت على ضرورة وقفٍ إنسانيٍّ وفوريٍّ لإطلاق النار، وتوفير المناخ المناسب للشعبيْن «الفلسطيني، والإسرائيلي»؛ للعيش في سلامٍ وأمنٍ دائميْن، وأشارت إلى دعوة بلادها لجعْل التعايش السلمي والتعاون مسارًا لإحلال الاستقرار في المنطقة، داعيةً دول العالم لدعم رؤية بلادها التي تستهدف تحقيق تطلُّعات شعوب المنطقة.
موقف «الإمارات، والبحرين» العلني، يعبر عن السياسات الجديدة لدول الخليج عقب توقيع اتفاقات إبراهام؛ حيث إن الدول الخليجية أصبحت لا تجد غضاضةً في التعبير علنًا عن دعمهم لتل أبيب، ولكن موقف الإمارات الرافض لحماس ليس مدفوعًا فقط بنمو العلاقات التجارية والأمنية مع إسرائيل عقب اتفاقات إبراهام، هذا الموقف هو انعكاسٌ أيضًا؛ لعداء الإمارات المطلق لجماعة الإخوان، ورؤية الإمارات لجماعة الإخوان – وجميع الجماعات التابعة لهم في المنطقة، ومنهم حماس- خطرًا على أمن الإمارات.
وبالمقابل الموقف السعودي يتعامل مع الجماعات المرتبطة بجماعة الإخوان بشكلٍ أكثر براجماتية ومرونة، فلقد ظهرت مؤشرات في الآونة الأخيرة، على أن السعودية أصبحت أكثر انفتاحًا على عودة العلاقات مع حماس، وتحقيق مصالحة «فلسطينية – فلسطينية»، وهذا ما ظهر جليًّا خلال استضافتها لزيارات متعددة لكافة الفصائل الفلسطينية على مدار الأشهر الماضية.
الإمارات لها ثلاثة مخاوف أُخرى من عواقب الحرب على غزة، أولها: أن يفتح هذا الصراع الباب لأن ينتشر الصراع خارج حدود غزة، ويشمل حزب الله وإيران وسوريا؛ ما قد يُعرِّض أمن الإمارات للخطر، ثانيًا: أن الغضب الشعبي في العالم العربي تجاه ما يحدث في غزة، قد يتحول لتظاهرات تهدد استقرار الأنظمة التي يربطها علاقات وثيقة مع الإمارات؛ ما قد يؤدي إلى وصول جماعة الإخوان للسلطة في بعض البلدان مجددًا، وثالثا: تشعر الإمارات ببعض القلق؛ بشان مستقبل غزة (في حال نجاح إسرائيل في القضاء على حماس)؛ حيث يأمل المسؤولون الإماراتيون، أن تسمح إسرائيل بعودة الفلسطينيين النازحين للقطاع مجددًا، والسماح بعبور المساعدات في حال نجاح تل أبيب باقتلاع حماس بشكلٍ تامٍ من غزة.
الخليج في مأزق غزة
ليس من المعلوم إذا كانت إيران دبَّرت لهجوم حماس أم لا، ولكنه بالتأكيد وضع دول الخليج في موقفٍ مُسْتَعْصٍ، هناك غضب شعبيٌّ عارمٌ في المنطقة تجاه إسرائيل، والذي يزداد يوميًّا مع انتشار لقطات المصابين والقتلى في غزة، هذا الرأي العام السَّاخِط يضع الدول الخليجية خاصَّةً «الإمارات، والسعودية» في موقفٍ حَرِجٍ، ويجعل من العصيب على الدول الخليجية الاستمرار في أيِّ مفاوضات سلام جديدة مع إسرائيل، أو التعبير علنيًّا عن دعم تل أبيب (بشكل خاص السعودية التي تحتل مكانةً محوريةً في العالم الإسلامي)؛ لذلك ستحاول الدول الخليجية (وخاصة دول اتفاقيات إبراهام) المحافظة على توازن صعب؛ للحفاظ على روابطهم مع إسرائيل، مع محاولة إرضاء الرأي العام في المنطقة الداعم لفلسطين في الوقت نفسه، خاصَّةً أن إيران وحلفاءها في المنطقة يُروِّجُون، لفكرة أن طهران هي الراعية للمقاومة الفلسطينية، وحامية قضية فلسطين في المنطقة، بينما الدول العربية هم أصدقاء إسرائيل، ولا يَكْتَرِثُون لفلسطين.
كما أن دول الخليج، وخاصَّةً «السعودية، والإمارات» يسعون لتحقيق بيئة إقليمية مستقرة؛ لتحقيق رُؤَاهم الاقتصادية الجديدة، فلا يريدون توترات جديدة في المنطقة، كُلٌّ من «الإمارات، والسعودية»، عملا في السنوات الأخيرة على تهدئة الصراعات في المنطقة؛ للحدِّ من المخاطر الإقليمية، وحماية أمنهم– خاصَّةً مع تراجُع اهتمام واشنطن بالمنطقة – ما تطوَّر إلى تقارُب، وتحسين العلاقات مع خصومهم مثل، «أنقرة، وطهران».
ترى «الإمارات، والسعودية»، أنه كلما طال النزاع، ازدادت احتماليات توسُّع الصراع خارج حدود غزة، والانتقال للدول المجاورة، وتدخل حزب الله وإيران؛ ما قد يعني ازدياد خطر توجيه ضربات من إيران أو وكلائها نحو «السعودية، والإمارات»، كما أن إدارة تلك التوترات الأمنية تستنفد موارد مالية، هم بحاجة ماسَّة لضخِّها في اقتصاداتهم المحلية؛ من أجل تحقيق رُؤَاهُم لـ 2030، بالإضافة إلى أن الأخطار الأمنية والتوترات الإقليمية تعرقل مشاريعهم التجارية والاقتصادية؛ لهذا من مصلحة «السعودية، والإمارات» تهدئة الأوضاع في غزة، ومنع اتِّسَاع رقعة الحرب لتشمل المنطقة كلها.
ولكن هذا ليس بالهدف اليسير؛ حيث إنه ليس من الواضح إلى أيِّ مدى، ستستمر المواجهات، القتال الدائر بين حماس وإسرائيل يختلف عن الوقائع السابقة، على الرَّغْم من أن هجوم حماس حطَّم الاعتقاد السائد، بأن إسرائيل لا تُقْهر، ولكن هذا الهجوم؛ تسبَّب أيضًا في آثار عكسية خطيرة على غزة وحماس، ففي السابق، كان يتبع الجيش الإسرائيلي استراتيجية تعرف “بجز العشب”، وهي تعتمد على شنِّ هجومٍ بين الحين والآخر على غزة؛ لإضعاف البنية التحتية لحماس، وعندما تُعيد حماس بناء قدراتها، تكرر تل أبيب الهجوم مجددًا، ثم تتكرر تلك العملية مرارًا وتكرارًا، ولكن تلك الاستراتيجية أصبحت غير مقبولة في تل أبيب الآن؛ بسبب شِدَّةِ هجوم حماس هذه المرة، هدف إسرائيل من هجماتها الحالية على قطاع غزة، هو القضاء على حماس نهائيًّا.
هذا الوضع المعقَّد، يجعل استمرار الحرب لفترة طويلة من الاحتمالات المرجحة؛ ما قد يُؤخِّر أو يحبط مراد «السعودية، والإمارات» باستقرار الأوضاع بأسرع وقتٍ ممكنٍ، ترى البلدان الخليجية خاصَّةً «السعودية، والإمارات»، بأن منطقة غير مستقرة تعني خطرًا على أمنهم ومصالحهم الاقتصادية، فربما قد لا يمانعان، من أن تقوم إسرائيل بالقضاء على حماس بشكلٍ نهائيٍّ– في الواقع، قد تفضل الإمارات هذا السيناريو؛ لأن هذا سيعني القضاء على حماس التي تعُدُّها الإمارات خطرًا على أمنها– فكُلٌّ من «السعودية، والإمارات» في نهاية المطاف، يريدون منطقةً مستقرةً بلا صراعات، بأي وسيلة ممكنة، ستكشف الأحداث في المستقبل القريب، كيف ستتعامل الدول الخليجية مع تلك المعضلات القادمة من غزة؟
ما يمكن قوله خلاصةً: من مشاهدة المواقف العربية الحالية تجاه الحرب على غزة: هو أن الوحدة العربية المشتركة أصبحت ضرْبًا من الخيال، وفي الواقع، نجد أن الموقف الخليجي الرسمي من الحرب على غزة، هو صورة مُصغَّرة للواقع العربي العام، إلا أن خلفيات الانقسام في المواقف الخليجية لم تكن جميعها نتاجًا لبيئة المحيط العربي، بل تأثرت أيضًا باعتبارات مرتبطة بالواقع الخليجي ذاته، وعلى الرَّغْم من كل ما حدث، فإن دول الخليج لايزال بمقدورها استدراك ما فات، إن هي اعتمدت مقاربة متماسكة وفاعلة، واضعة في اعتبارها حق الفلسطينيين في عيْش حياةٍ آمنةٍ على أراضيهم المحتلة، ولإعادة إعمار ما دمره العدوان عقب الاتفاق على وقْف إطلاق النار؛ الأمر الذي سيكون رهنًا باحتلال إسرائيل لأجزاء من قطاع غزة، وخاصَّةً الشمالية، بينما تخضع الأجزاء الجنوبية تحت وصاية أممية كأحد السيناريوهات المطروحة والمتداولة بين أوساط المراكز الفكرية.
لذا فالمطلوب هنا هو ألا يضيع الجوهر لمصلحة القضية الفلسطينية في طيات التنافس «الخليجي-الخليجي» أو «الخليجي-العربي»، وإذا كان الحرص على الوصول إلى توافُق عربي مشترك حول آليات إعادة الإعمار يُعدُّ أمرًا مشروعًا ومُحبَّذًا، بل ومرغوبًا فيه، فإن الأمر الحيوي كذلك هو وصول المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها الحقيقيين، دون أن يُعطِّلَها الروتين، أو أن تخضع لأيِّ شكلٍ من المزايدات أو التجاذُبات.
وإذا كان العرب مختلفين حول من الذي يجب أن يقود إعادة الإعمار لاحقًا؟ فإن الخليجيين معنيين بعدم الوقوع ضحية التجاذُبات القائمة فيما بينهم، وعليهم المبادرة بتشكيل هيئة خليجية مشتركة بالتنسيق مع مصر، تتولَّى بصورةٍ مباشرةٍ إدارة عمليات التمويل الخاصة ببرامج إعادة البناء في القطاع، وإذا تحرّك الخليجيون بهذا الاتجاه، فسوف يتداركون ما فاتهم، ويظهرون بمظهر الفريق الواحد، كما يفترض أن يكونوا دائمًا، وخيارًا كهذا من شأنه، أن يُبْعِدَ عن الفلسطينيين فصْلًا جديدًا من التجاذُبات الضارة بوحدتهم الوطنية، ويُسهِّل ضمنًا مشروع المصالحة الفلسطينية.