تجربة مصر فى بناء السلام .. هل من سبل لاستنساخها فى غرب إفريقيا؟

إعداد: مصطفى أحمد مقلد

مقدمة:

لدى مصر خبرة فى محاولات بناء السلام وتثبيته فى الشرق الأوسط، وكان لها الريادة بين الدول الإقليمية بهذا الصدد، فتعد معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل والتى كانت بمبادرة مصرية خالصة، هى ركن الاستقرار والسلام فى المنطقة، والتى كثفت مصر بعدها جهودها لتوسيع نطاق السلام بما يشمل بناء دولة فلسطينية، كحل جذرى لمشاكل الشرق الأوسط، ورغم التطورات وتعقيداتها، كانت مصر هى الطرف الأبرز والوسيط الأهم بين إسرائيل وحماس لإيقاف جولات الصراع والعنف، وهو ما يضغى على ساحة التحليلات حتى جولة التصعيد الأخيرة التى نشهدها حاليا بين إسرائيل وحماس، وهو ما يحقق لها نفوذ مهم فى الشرق الأوسط بما يفيد بترسيخ الرؤية والرواية المصرية لما يجب أن يكون عليه الوضع.

ولا تقتصر المقاربة المصرية لبناء السلام على المرتكز الدبلوماسى فقط، بل تمتد لتشمل المرتكزات الأمنية والتنموية، ويظهر ذلك فى تصريحات الرئيس المصرى خلال جولته فى إفريقيا الجنوبية التى شملت “أنجولا وزامبيا، موزمبيق” يونيو الماضى، فقد عبر عن إمكانية مصر دعم الدول الإفريقية بخبراتها فى مواجهة الإرهاب والجرائم وتعزيز التنمية.

منطقة الساحل:

على وقع الانقلابات العسكرية فى المنطقة والتى أغرقتها فى حومة من الاستقطاب السياسى الدولى، كان المستفيد الأول هو الجماعات الجهادية، التى نشطت بشكل واضح وأصبحت منطقة الساحل هى الأبرز على خريطة النشاط الإرهابى، بالتوازى مع انسحاب القوات الفرنسية التى كانت تواجه تلك الجماعات، وقدوم قوات فاغنر الروسية التى لم تظهر مؤشرات حتى الآن
على قدرتها على مواجهة الخطر الإرهابى المتصاعد، وبين هذا وذاك، تقف روسيا وفرنسا ومصالحهما على النقيض فى هذا الإقليم فى إطار حرب باردة بينهما.

التحدى الأمنى:

التحدى الأمنى الذى يواجه دول الساحل يحمل فى طياته الكثير من الأبعاد السياسية، فتحالف “ليبتاكو – غورما” بين النيجر ومالى وبوركينا فاسو، حمل على عاتقه إقامة منظومة دفاع مشتركة بهدف محاربة كل أشكال الإرهاب والجريمة المنظمة فى المنطقة، وذلك طبقًا للمادتين الثانية والرابعة من ميثاق الحلف، بينما تحدثت المادة الخامسة عن جواز المواجهة الاستباقية لكل أنواع التمرد المسلح أو الخروج العنيف على الدولة، ولعل الأخطر فى هذا الميثاق
هو اعتبار أن أى استهداف لأى من دول أعضاء التحالف يعد اعتداء على الجميع بما يفرض اللجوء إلى كل الأساليب، بما فيها الحرب للدفاع عن البلد الذى يتعرض للاعتداء، مع فتح باب الحلف لدخول أى دولة من دول الساحل الأخرى طبقًا للمشتركات الجغرافية والثقافية.

ويبدو أن التحالف جاء استجابة لأغراض مزدوجة، هى مواجهة السياسيات الفرنسية المتوقعة فى المرحلة المقبلة، وكذلك مواجهة التهديدات الإرهابية التى يتم النظر إليها على أنها ربما تكون إحدى الأدوات الفرنسية طبقًا للنخب الانقلابية، وهو ما يشير لغياب تنسيق دولى لمواجهة الإرهاب فى إطار تعارض المصالح الدولية هناك.

اهتمام دولى:

على الرغم من تصدر حرب غزة رأس قائمة أولويات المجتمع الدولى لأكثر من شهر، إلا أنه بدأت اهتمامات أخرى بالعودة مجددا باعتبار أن ساحات التنافس مرتبطة ببعضها، فتداعيات التوتر بالشرق الأوسط تأثر على التفاعلات بين الصين وروسيا والولايات المتحدة، لذا كان منطقة الساحل من أول الساحات التى عادت للواجهة مرة أخرى، حيث التقى وزير الدفاع الروسى فى 8 نوفمبر الحالى، نظيره البوركينى الذى يزور موسكو وجرى بحث مسائل التعاون العسكرى الثنائى، من ناحية أخرى، قام “شولتز” بزيارة لإفريقيا بدأها من نيجيريا لتوثيق العلاقات الثنائية والتباحث حول الطاقة والهجرة، ويعكس تضمن الجولة زيارة مفوضية الإيكواس رسالة مفادها أن الغرب غير راغب فى التفريط فى نفوذه بالمنطقة بسهولة.

تمدد إيرانى فى المنطقة:

رحبت إيران بالتطورات فى النيجر ووصفتها بـ”صمود الشعب النيجرى فى وجه الهيمنة الغربية”، كما استقبل الرئيس الإيرانى وزير خارجية النيجر نهاية أكتوبر الماضى، وهو ما يمكن اعتباره خطوة لتكريس نفوذها فى منطقة الساحل الإفريقى مستغلة انشغال القوى العالمية بالتصعيد فى غزة بين حركة حماس والجيش الإسرائيلى، وقد تجد إيران فى النيجر الكثير من المنافع، فقد تصبح سوقًا مهمة لترويج أسلحتها مثل الطائرات المسيرة وغيرها، كما يمكنها استغلال تقاربها مع موسكو لتكريس هى الأخرى نفوذ لها فى المنطقة بشكل عام، سواء كان نفوذًا مباشرًا أو عبر أذرعها مثل (حزب الله) الذى له امتدادات فى إفريقيا الغربية مثل غينيا وسيراليون وكوت ديفوار التى تضم مكونات شيعية.

الموقف الأمريكى:

بشكل عام، فإن التفاعلات الأمريكية مرنة تجاه الانقلابات العسكرية فى غرب إفريقيا، ويبدو ذلك متعمدًا خشية انفراد روسيا بالنفوذ هناك، بالتالى توترت العلاقات بين فرنسا والولايات المتحدة بسبب انقلاب النيجر ويشعر المسؤولون الفرنسيون بالإحباط لأن نظراءهم الأمريكيين كانوا على استعداد للتعامل مع المجلس العسكرى، حيث أرسلت الولايات المتحدة مبعوثًا للقاء قيادة المجلس العسكرى وامتنعت عن الإعلان رسميًا عن أن الاستيلاء على السلطة كان انقلابًا، وأصرت على أنه لا تزال هناك طريقة تفاوضية لاستعادة الديمقراطية، واعتبر “بلينكن” أن الدبلوماسية هى الخيار الأفضل للتعامل مع أزمة انقلاب النيجر، وأن فرصة الرجوع عن انقلاب النيجر ضئيلة، ولم ينف متحدث باسم مجلس الأمن القومى بالبيت الأبيض التوترات بين فرنسا والولايات المتحدة بشأن النيجر التى تشكل جزءًا بالغ الأهمية من الإستراتيجية الأمريكية الشاملة لمكافحة الإرهاب.

بعد شهرين على الانقلاب، أعلنت الولايات المتحدة أن الإطاحة برئيس النيجر كانت بمثابة “انقلاب” وعلقت المساعدات العسكرية والتدريب، “بعد استنفاد جميع السبل للحفاظ على النظام الدستوري” على حد وصفها، على أن تستمر عمليات المراقبة بطائرات بدون طيار لمراقبة التهديدات “على نطاق أوسع فى المنطقة” لضمان أن الفراغ الأمنى فى النيجر لا يخلق فرصة للخلايا الإرهابية لاستغلالها، وقال مسؤولو الإدارة إن أى استئناف للمساعدات المعلقة سيتطلب إجراء من جانب المجلس العسكرى للدخول فى الحكم الديمقراطى فى إطار زمنى سريع وموثوق والإفراج عن الرئيس المخلوع محمد بازوم مع زوجته وابنه، وتنظر الولايات المتحدة إلى مساعداتها باعتبارها وسيلة ضغط، وتخشى أن يؤدى وقف المساعدات بشكل كامل
إلى خسارة هذا النفوذ، وهو ما يستتبع عدم تغير جوهرى فى الموقف الأمريكى.

ويبدو أن المجلس العسكرى غير راغب حتى الآن فى السماح للاعتبارات المالية بإبعاده
عن مساره الحالى، ويرى الغرب أن سقوط النيجر، لا يعنى انهيار سياسة فرنسا فى إفريقيا فحسب، بل سياسة أوروبا برمتها فى إفريقيا، لأنها ستطلق العنان للإرهابيين فى المنطقة مع آثار عميقة على “طرق الهجرة” إلى أوروبا.

ويرى بيتر فام، المبعوث الأمريكى الخاص السابق لمنطقة الساحل بغرب إفريقيا، أن البراغماتية ستخدم بشكل أفضل المصالح طويلة المدى لكل من شعب النيجر وشعب الولايات المتحدة. ففى نهاية المطاف، فلا أحد مستفيد إذا تمت التضحية بالتقدم الذى تم إحرازه فى مجال مكافحة الإرهاب والتعاون التنموى فى الأعوام الأخيرة من أجل مجرد “إشارة فضيلة” سوى الجهاديين وغيرهم من الجهات الفاعلة الخبيثة، بما فى ذلك المنافسون الجيوسياسيون
أو وكلاؤهم.

فرصة لدور مصرى:

تلقت النيجر قبيل الانقلاب أسلحة ثقيلة قدّمتها مصر للمساعدة فى محاربة “جماعات جهادية”، وقد أشاد وزير الدفاع النيجرى وقتها بـ”هذه اللفتة البالغة الأهمّية” من جانب مصر[1]، كذلك كانت قد أطلقت مصر مركز “الساحل والصحراء” لمكافحة الإرهاب فى الدول الإفريقية عبر ثلاثة مسارات، متمثلة فى التبادل المعلوماتى والتدريب والتأهيل والتسليح، فضلًا عن تعزيز قدرات قوات الدفاع والأمن لديها من أجـل المكافحة الفعّالة، ومساهمتها فى وضع أسس التخطيط والتنفيذ بما تمتلكه من خبرة كبيرة فى مجال مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف، بالإضافة إلى تحقيقها لمجموعة نجاحات فى وقف تغلغل وتمدد الجماعات الإرهابية عبر تاريخها المعاصر.

ورغم أن انقلاب النيجر يمثل تحديًا لتلك الجهود، إلا أنها فرصة تمنح مصر – إذا أجادت استغلالها- التعامل كوسيط بين نسق إقليمى يتشكل حديثًا فى المنطقة وبين القوى الدولية، وهو ما يوفر مصر الكثير من النفوذ، يدفع بمزيد من الدعم الدولى لقضايا مصر الحيوية،
وفى ذلك فى ضوء حفاظ مصر على حد أدنى من العلاقات والتى تجعلها فى منأى عن الاستقطاب وتحافظ على سياستها المتوازنة وهو ما ظهر خلال عقد لقاء بين وزير الخارجية المصرى مع نظيره المالى على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال دورتها الأخيرة، بالتالى يمكن لمصر البناء على رصيدها فى المنطقة ومن خلال المسار أو المنطق الأمريكى الذى يتعامل بمرونة مع الإقليم ويدعو للعودة للحكم الدستورى وفقًا للدبلوماسية،
فى ظل عدم تقديم مبادرة أو مقاربة شاملة سواء من الدول الإقليمية أو الدولية للتهدئة والتعاون مع دول المنطقة، خاصة مع توافق معظم الآراء حول مستقبل المنطقة والذى يشير إلى أنه لا عودة عن تلك الانقلابات وأنها أصبحت أمرًا واقعًا، وهو ما انعكس على الموقف الفرنسى حيث صرح “ماكرون” أن فرنسا ستنهى وجودها العسكرى  فى النيجر بحلول نهاية عام 2023.

المصادر:

[1] النيجر تتلقى معدات عسكرية من مصر لمكافحة المتشددين.. https://2u.pw/PTl0vVD

كلمات مفتاحية