إعداد: شيماء عبد الحميد
فى ضوء السياسة الإيرانية القائمة على خدمة ملفى برنامجها النووى ونفوذها الإقليمى، فقد تفرض تطورات الحرب فى قطاع غزة تداعيات مباشرة على الاتفاق النووى؛ إذ يمكن أن تسعى طهران إلى استخدام الحرب كوسيلة ضغط للحصول على أقصى قدر من المكاسب فيما يخص ملفها النووى، مستغلة فى ذلك الرغبة الأمريكية لعدم توسع رقعة الصراع وحماية مصالحها فى المنطقة، فضلًا عن تراجع التهديدات الإسرائيلية لإيران ومنشآتها النووية فى ظل انشغال تل أبيب بالحرب ضد حركة حماس، وقد يستدل على هذا من خلال اكتفاء إيران بالتصعيد الخطابى وعدم تدخلها بشكل مباشر حتى الآن فى الحرب، إلى جانب استغلالها للوضع الراهن فى زيادة تخصيبها لليورانيوم وهو ما أكدته تقارير للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
حرب غزة وتوسع إيران فى تخصيب اليورانيوم:
فى ظل اشتعال حرب غزة وانشغال الولايات المتحدة وإسرائيل بها، تستغل إيران تشتت الانتباه عن قراراتها النووية لزيادة مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسب عالية، حيث أفادت عدة تقارير صادرة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، آخرها يوم 17 نوفمبر الجارى، باستمرار طهران فى تخصيب كميات كبيرة من اليورانيوم بدرجة نقاء تصل لـ60%.
كما أوضحت هذه التقارير أن هذا المستوى من التخصيب يقترب من درجة النقاء اللازمة لتصنيع أسلحة نووية وهى 90%، وأن طهران لديها الآن ما يكفى لتصنيع 3 قنابل نووية.
فضلًا عن أن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب زاد بـ6.7 كيلوجرام منذ الرابع من سبتمبر الماضى وحتى الآن، وبذلك بلغ إجمالى مخزونها من اليورانيوم المخصب حوالى 128.3 كيلوجرام، أى أكثر بـ22 مرة من الحدود التى سمح بها الاتفاق النووى لعام 2015، وهى نسبة تخصيب 3.67%.
ويأتى قرار إيران بزيادة مخزونها من اليورانيوم بالتزامن مع حرب غزة، مكملًا لمجموعة من إجراءاتها النووية التى تُعد اختراقًا لبنود الاتفاق النووى، وآخرها قرار طهران فى سبتمبر 2023 بمنع دخول عدد من مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بعد أن سحبت تصاريح العمل منهم، وقد أثار هذا القرار غضب الوكالة الذى أكدت أنه يؤثر بشكل مباشر وخطير على قدرتها على مراقبة برنامج طهران النووى، هذا إلى جانب تعطيل إيران العديد من كاميرات المراقبة، وعدم تقديمها لتفسيرات بشأن وجود آثار يورانيوم اكتُشفت فى موقعين غير معلنين فى تورقوز آباد وورامين.
وجدير بالذكر أن الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن، حاولت إحياء الاتفاق النووى بعد أن انسحبت منه إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب فى 2018 بشكل أحادى، ولذلك انطلقت محادثات غير مباشرة بين واشنطن وطهران بوساطة أوروبية فى أبريل 2021، ولكنها تجمدت فى سبتمبر 2022 دون الوصول لنتيجة.
حرب القطاع وعودة البرنامج النووى الإسرائيلى إلى الواجهة:
واحدة من النقاط الأساسية التى يجب الإشارة إليها خلال الحديث عن تأثير الحرب على الملف النووى الإيرانى، هى عودة البرنامج النووى الإسرائيلى للواجهة مرة أخرى، وهو أمر لطالما طالبت به طهران التى نادت بالرقابة على القدرات النووية لإسرائيل كما يتم الرقابة على برنامجها النووى، فيما اتبعت تل أبيب سياسة الغموض النووى؛ إذ أنها لم تعترف رسميًا بامتلاك سلاحًا نوويًا ولكن فى الوقت نفسه لم تنفِ الأمر.
وكانت هذه السياسة من الثوابت فى العقيدة الإسرائيلية، حيث ثمة إجماع على المستويين السياسى والعسكرى على أهميتها نظرًا لعديد من الأسباب؛ من بينها: الإعلان عن امتلاك سلاح نووى قد يضر بالعلاقة مع الولايات المتحدة التى تتبع سياسة منع الانتشار النووى وترفض امتلاك أى دولة فى المنطقة لهذا السلاح وخاصةً إيران، كما أن الغموض النووى الإسرائيلى يقوض أى مسعى لدول المنطقة للوصول إلى هذا السلاح، فضلًا عن أن هذه السياسة قد ساهمت فى بناء الردع وأتاحت لإسرائيل حرية الحركة لتطوير برنامجها النووى، والتحرر من أى قيود تفرضها معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية.
ولكن الحرب فى قطاع غزة قد وجهت ضربة لهذه السياسة، مع دعوة مجموعة من السياسيين المتطرفين فى إسرائيل إلى استخدام السلاح النووى ضد القطاع؛ حيث صرح وزير التراث الإسرائيلى عميحاى إلياهو، يوم 5 نوفمبر الجارى، بأن خيار قصف قطاع غزة بالسلاح النووى أحد الاحتمالات الواردة للتعامل معه، كما إنه فى 11 أكتوبر الماضى، دعت النائبة فى الكنيست عن حزب الليكود تالى غوتليف، الجيش الإسرائيلى إلى استخدام السلاح النووى فى غزة ردًا على هجوم حماس.
وبغض النظر عن البعد الإنسانى والقانونى لهذه الدعوات؛ فإنها أثارت ما كانت تخشاه إسرائيل طوال السنوات الماضية، إذ قوبلت تلك الدعوات بمطالبات عربية لملاحقة إسرائيل والكشف عن حقيقة برنامجها النووى ومدى تطوره، حيث:
- أرسل وزير الخارجية والمغتربين الفلسطينى رياض المالكى، مخاطبة عاجلة لمدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى فيينا رافائيل جروسى، نصت على أن إسرائيل طورت أسلحة نووية بنحو غير قانونى، ورفضت الانضمام إلى معاهدة حظر الانتشار النووى، ورفضت الخضوع لأى أنظمة مراقبة أو ضمانات، وهى الآن تعمل على تأجيج الصراع وتعميق احتلالها من خلال التهديد باستخدام الأسلحة النووية ضد الشعب الفلسطينى فى غزة، ولذلك يجب على الوكالة وجميع الدول الأعضاء بها، اتخاذ جميع التدابير المتاحة لتحييد هذا التهديد.
- أدانت وزارة الخارجية السورية تصريحات إلياهو، معتبرة إياها دليلًا جديدًا على إرهاب الدولة الذى تمارسه إسرائيل، وأن هذه التصريحات تؤكد ما دأبت إسرائيل على إخفائه حول حقيقة امتلاكها لهذا السلاح خارج أنظمة الرقابة الدولية، بدعم من حلفائها فى الإدارة الأمريكية والغرب، الأمر الذى يشكل تهديدًا جديًا للأمن والاستقرار وحياة شعوب المنطقة، داعية المجتمع الدولى والوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى اتخاذ كل الإجراءات والاضطلاع بمسؤولياتها للكشف عن البرنامج النووى الإسرائيلى، وإخضاع تل أبيب إلى برنامج الضمانات الشاملة وأنظمة الرقابة على المنشآت والبرامج النووية.
- صرح المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعى، بأن جميع الدول العربية كانت تعلم يقينًا أن إسرائيل تمتلك السلاح النووى ومع ذلك انضمت كلها واحدة تلو الأخرى إلى اتفاقية منع الانتشار النووى، دون أن تشترط انضمام إسرائيل والتخلى عن ترسانتها النووية، ولكن حاليًا ترى الدول العربية أن استمرار هذا الوضع فيه إخلال بالأمن الإقليمى فى منطقة الشرق الأوسط.
- عد الأمين العام الأسبق للجامعة العربية عمرو موسى، تصريحات الوزير الإسرائيلى أنها أول اعتراف لأحد كبار المسؤولين بامتلاك إسرائيل للسلاح النووى، ويطرح إمكانية التهديد به أو استخدامه، ودعا إلى تسجيل التصريح وإبلاغه رسميًا إلى أمين عام الأمم المتحدة ورئيس مجلس الأمن، تمهيدًا لاتخاذ الإجراءات اللازمة إزاء هذا التطور الخطير لدى الأجهزة المختصة بمنع الانتشار النووى ونزع السلاح.
وفى هذا الإطار؛ يُذكر أن إسرائيل ضمن الدول النووية الـ9 فى العالم رغم أنها لا تعترف بامتلاك السلاح النووى، وقد بدأت بالتخطيط لامتلاك سلاح نووى منذ تأسيسها فى 1948، بينما كانت أول مرة يتم الكشف فيها عن معلومات بشأن سلاحها النووى فى عام 1986، حين سرب المهندس الإسرائيلى مردخاى فعنونو الذى كان يعمل فى مفاعل ديمونة، معلومات بشأنه.
ويُصنف السلاح النووى الإسرائيلى بأنه واحد من أخطر ترسانات الأسلحة السرية، إذ تمتلك إسرائيل عددًا من الأصول الجوية والبحرية والأرضية، القادرة على إطلاق أسلحة نووية، أى يمكن القول بإن إسرائيل تمتلك ثالوثًا نوويًا مكتمل الأركان، وتشير التقديرات إلى أن إسرائيل تملك بين 90 -400 رأس نووى.
حرب غزة ومستقبل الاتفاق النووى الإيرانى:
فى ضوء المعطيات السابقة، وبعد أن قررت إيران ألا تتدخل فى الحرب لاعتبارات عدة قد تخدم مصالحها سواء الإقليمية أو النووية، يُثار طرحًا فى الأوساط السياسية مفاده أن جزءًا من دوافع عدم تدخل طهران وإعطائها الضوء الأخضر لحماس أن توافق على اتفاق الهدنة، هو إحياء المفاوضات النووية المتوقفة منذ سبتمبر 2022، وهنا انقسمت الآراء حول تداعيات حرب غزة على الاتفاق النووى الإيرانى إلى اتجاهين، يمكن إيضاحهما على النحو التالى:
- الاتجاه الأول؛ يرى أن هجوم 7 أكتوبر قضى على أى احتمالات بشأن استئناف مفاوضات العودة إلى اتفاق 2015، ويقوم هذا الرأى على مجموعة من المعطيات؛ منها:
- تجميد صفقة تبادل السجناء بين اشنطن وطهران بعد اندلاع الحرب فى غزة؛ فعلى الرغم من الإفراج المتبادل من جانب الطرفين عن السجناء الأمريكيين والإيرانيين الذين كانوا محتجزين لديهما، يتبقى القسم الأهم بالنسبة لإيران، وهو الحصول على 6 مليارات من أموالها المجمدة لدى كوريا الجنوبية، والتى كان يُفترض إيداعها فى حسابات مصرفية فى قطر، ولكن قامت واشنطن بتعطيل استفادة إيران من أموالها المفرج عنها لحين الانتهاء من الحرب بغزة، خاصةً بعد اتهام طهران بالاشتراك فى عملية طوفان الأقصى مع حركة حماس.
- استهداف القواعد الأمريكية فى المنطقة من قبل المليشيات المدعومة إيرانيًا؛ فمنذ اندلاع الحرب فى غزة، والميليشيات الإقليمية التابعة لإيران تشن عشرات الهجمات على القوات الأمريكية وقوات التحالف فى العراق وسوريا، وبالتالى يبدو أن عودة استئناف المفاوضات النووية مع إيران غير واردة الآن.
- الانتخابات والضغط الداخلى على إدارة الرئيس جو بايدن؛ ففى الوقت الحالى ليس من الممكن سياسيًا السعى إلى تسوية مع إيران بشأن القضية النووية، نظرًا لأن أى مفاوضات للتوصل إلى تفاهم مع إيران ستتطلب من واشنطن تقديم تنازلات، وهو ما قد يعرض إدارة بايدن للانتقادات من قبل الجمهوريين فى الكونجرس أو من جماعات الضغط الإسرائيلية مثل منظمة إيباك، وبالطبع سينعكس هذا على موقف بايدن والديمقراطيين فى الانتخابات الرئاسية 2024. وحتى لو انتهت حرب غزة؛ فإن عودة المفاوضات ستكون صعبة، وقد تستغرق وقتًا طويلًا بعد الحرب.
- الاتجاه الثانى؛ يرى أن حرب غزة قد تكون فرصة لاستئناف مفاوضات العودة إلى الاتفاق النووى، ويقوم هذا الرأى على مجموعة من العطيات؛ منها:
- لا تفصل إيران بين تطورات الحرب فى غزة والتوتر القائم مع الولايات المتحدة حول الاتفاق النووى، خاصةً أن استمرار الحرب توازى مع تطور مهم شهده الاتفاق، تمثل فى رفع الحظر الأممى عن الأنشطة المرتبطة ببرنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية فى 18 أكتوبر الماضى، والذى لم تستطع الدول الغربية منعه لكنها استعاضت عن ذلك بتأكيد استمرار فرض عقوباتها على إيران فى هذا الصدد.
- تجنب نقل الملف إلى مجلس الأمن؛ حرصت واشنطن والدول الأوروبية خلال الفترة الماضية على تجنب اللجوء إلى الخيار الأصعب فى إدارة الخلافات مع إيران حول برنامجها النووى، وهو العودة إلى مجلس الأمن عبر تقديم شكوى تفيد بتقاعس إيران عن تنفيذ التزاماتها وفقًا للاتفاق، فرغم الانتقادات التى وجهتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية لإيران بسبب تراجع مستوى التعاون بين الطرفين، إلا أن الدول الغربية حرصت على منح فرصة أخرى من أجل الوصول إلى تسوية للخلافات العالقة بين الجانبين.
- الضغط النووى من جانب إيران؛ والذى قد يسهم فى إقناع واشنطن بالعودة للمفاوضات، حيث وفقًا لتقارير الوكالة سالفة الذكر فإيران باتت قادرة على إنتاج القنبلة النووية، وبالتالى لا مجال أمام واشنطن إلا أن تتعامل بالأداة الدبلوماسية فى الملف النووى الإيرانى من خلال إحياء اتفاق 2015، لأن الحل العسكرى ليس خيارًا جيدًا، خاصةً وأن معظم منشآت إيران النووية موجودة تحت الأرض ويصعب تدميرها حتى باستخدام أقوى الأسلحة التقليدية المتاحة اليوم، وبالتالى إذا ما أردت واشنطن أن تمحو البرنامج النووى الإيرانى، فيجب أن تشن غزوًا شاملًا، وهو خيار شديد الكلفة والصعوبة.
- الرغبة الأمريكية فى عدم اتساع رقعة الحرب؛ من خلال مسايرة إيران وقد اتضح ذلك من إصرار الولايات المتحدة على تأكيد عدم وجود دليل حول علاقة إيران بطوفان الأقصى، وترافق ذلك مع موافقة واشنطن على تمديد الاستثناءات الممنوحة للعراق من العقوبات المرتبطة بالتعامل مع إيران، مما قد يسمح للعراق بتحويل 10 مليارات دولار من الأصول الإيرانية المجمدة إلى حسابات إيران.
- إيضاح مدى خطورة إيران على الوجود الأمريكى فى المنطقة؛ فالحرب أبرزت مدى الخطر الذى تشكله الفصائل المسلحة فى العراق وسوريا واليمن على المصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط، وبالتالى قد تكون الاستهدافات الأخيرة للقواعد الأمريكية بمثابة أداة ضغط على واشنطن، تدفعها إلى الميل نحو عدم التصعيد ضد طهران وتقديم بعض التنازلات لإيران فى ملفها النووى، مقابل عدم التصعيد من جانب أذرع طهران ضد مصالح الولايات المتحدة.
وخلاصة القول؛ فإن الحرب فى غزة أثبتت حقيقة لطالما أنكرتها الولايات المتحدة؛ ألا وهى أن إيران بمليشياتها المختلفة فى المنطقة قادرة على الإضرار بالمصالح الأمريكية سواء من خلال اللعب بورقة القواعد العسكرية أو الملاحة فى الممرات الاستراتيجية بالشرق الأوسط وعلى رأسها البحر الأحمر.
وانطلاقًا من ذلك، قد تناور إيران لاستغلال الحرب الحالية لتحقيق بعض المكاسب فى ملفها النووى، وذلك من خلال تبنى سياسة مزدوجة تتراوح بين رفع مستوى بعض الأنشطة النووية، وفى الوقت نفسه عدم الوصول بها إلى المرحلة التى يصعب التراجع عنها، أو يصبح بعدها التفاوض بغير ذى معنى.
وهذه السياسة قد تجبر الولايات المتحدة على استئناف المفاوضات النووية مرة أخرى بعد استقرار الأوضاع فى غزة، ولكن مع أخذ الانتخابات الأمريكية المقبلة فى الحسبان، فقد تتجنب إدارة بايدن التوصل لاتفاق نووى كامل حاليًا، بل قد تكتفى الآن بالتوصل إلى بعض التفاهمات التى تتضمن إصدار إعفاءات بقطاعى البنوك والنفط الإيرانيين، مثل قرار تمديد الاستثناءات الممنوحة للعراق، على أن يتم التوصل للصفقة النووية المحتملة بعد الانتخابات الرئاسية فى حال احتفظ بايدن بمنصبه، أما إذا عاد الجمهوريون إلى الحكم، فقد تختلف هذه الحسابات كليًا.