إعداد: مصطفى مقلد
مقدمة
فى الخطابات الأولى لـ”نتنياهو” بعد هجوم 7 أكتوبر الذى نفذته حماس، توعد فيها بردٍ قاسٍ واعتزامه “تغيير شكل المنطقة”، وهى الرسالة التى تلقتها الدول المجاورة وفهمت جوهرها، والذى يعنى التهجير القسرى للفلسطينيين خارج أرضهم من خلال عمليات عقاب جماعى يحظرها القانون الدولى العام والقانون الدولى الإنسانى، لذا جاء رد واضح وصارم من مصر والأردن وقد أشهدا الدول الغربية والمجتمع الدولى على مواقفهما برفض تلك الخطوات العدائية والتى تهدد استقرار المنطقة وتضع اتفاقيات السلام المبرمة فى مهب الريح.
العدوان الإسرائيلى على غزة
تستمر الحرب الإسرائيلية على غزة للشهر الثالث مع اجتياح برى لشمال وجنوب القطاع وإجبار آلاف من السكان على النزوح القسرى نحو جنوب القطاع، وخطة إسرائيل “المعلنة” من وراء ذلك هى القضاء على حركة “حماس” وجناحها العسكرى، كما يشهد الوضع الصحى فى غزة كارثة، حيث فقدت المستشفيات القدرة على السيطرة نتيجة تكدسها بأعداد هائلة من الجرحى، والطواقم الطبية أصبحت عاجزة عن معالجة المرضى، والجرحى ينزفون حتى الموت دون رعاية صحية تقدم، كذلك ما زال الجيش الإسرائيلى يتحكم فى كمية ونوعية ومسار المساعدات الطبية ويحرم الشمال منها رغم محدوديتها.
أما الوضع الإنسانى فإنه مروع، ويقول المتحدث باسم اليونيسف فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أنه قد هُجر حوالى مليون طفل قسرًا من منازلهم، ويتم دفعهم الآن إلى الجنوب أكثر فأكثر، ولمناطق ضيقة ومكتظة دون ماء أو طعام أو حماية أو أى من الضروريات اللازمة للبقاء على قيد الحياة، مما يعرضهم لخطر متزايد للإصابة بالتهابات الجهاز التنفسى والأمراض المعدية بسبب البيئة الملوثة، علاوة على الجفاف وسوء التغذية والمرض، وأصبحت أنظمة المياه والصرف الصحى فى قطاع غزة فى حالة متردية، بالإضافة إلى ذلك تضررت 50% على الأقل من مرافق المياه والصرف الصحى بسبب استمرار الأعمال العدائية، بجانب أزمة كبيرة فى إمدادات الكهرباء.
وكان رئيس الوزراء الإسرائيلى قد أفصح عن خطة لإقامة منطقة عازلة فى أراضى قطاع غزة، لمنع وجود عناصر حركة (حماس) على الحدود، وهو ما يعنى تقليص مساحة غزة، ووفقًا للمخطط الإسرائيلى، فإن المنطقة العازلة ستمتد على طول الحدود الشرقية فى قطاع غزة، وبعمق مختلف حسب جغرافية الأرض، إذ يتراوح عرضها ما بين كيلومتر واحد إلى 2 كيلومتر، فيما أبلغت الولايات المتحدة “تل أبيب” أنها لن تقبل بأى خطوة من شأنها تقليص مساحة قطاع غزة الذى يعتبر أصلًا منطقة مكتظة بالسكان.
ممر فلادلفيا
تتناول الأوساط الإسرائيلية إمكانية إعادة احتلال محور فيلادلفيا بحجة أن حماس استخدمت الأنفاق أسفل حدود المحور لتهريب الأسلحة والمواد المتفجرة، لذا تشمل الخطط الإسرائيلية استعادة المنطقة الضيقة التى تفصل القطاع عن مصر، وتتضمن خطة نتنياهو، بناء جدار يشمل أجهزة تفتيش من أجل لجم تعاظم قوة “حماس” فى المستقبل، إضافة إلى توسيع معبر رفح بما يضمن دخول شاحنات كثيرة إلى المنطقة بإشراف متعدد الجنسيات لتفتيش ما سيدخل إلى القطاع.
وكانت “اتفاقية كامب ديفيد” قد رسمت الحدود بين القطاع ومصر، ونصت على إنشاء منطقة عازلة على طول الحدود، عُرفت باسم “طريق صلاح الدين– محور فيلادلفيا”، سمحت بوجود الجيش الإسرائيلى لمراقبة الحدود، وإدارة عمل معبر رفح البرى من الجهة الفلسطينية حتى عام 2005، الذى شهد بدء تنفيذ إسرائيل خطتها لـ”فك الارتباط” بينها وبين قطاع غزة، وتضمنت انسحابها منه وإخلاء مستوطناته، وأبرمت “اتفاق فيلادلفيا” فى أغسطس 2005 لتعالج هواجسها الأمنية عبر إشراك مصر والاتحاد الأوروبى فى الإشراف على القطاع، وسمح ذلك الاتفاق بوجود 750 جنديًا مصريًا من حرس الحدود بأسلحة خفيفة على طول المحور، كما نص الاتفاق على تحميل أطراف الاتفاق مسؤولية مكافحة الأنشطة المعادية المتعلقة بالتهريب والتسلل والإرهاب من أراضى أى من الدولتين.
وانتقلت إلى السلطة الفلسطينية عملية الإشراف على عمل معبر رفح البرى، ونص على ذلك اتفاق المعابر الذى تم توقيعه بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، مُحددًا شروط ومعايير تنظيم حركة المرور من وإلى الأراضى الفلسطينية عبر المعابر كافة مع قطاع غزة ومنها معبر رفح، ومضى الحال على ما هو عليه لأقل من عامين، حين سيطرت حركة “حماس” على الحكم
فى قطاع غزة عام 2007، وخضع محور فيلادلفيا منذ ذلك الحين لسيطرة حركة حماس كما سيطرت على معبر رفح البرى، وعملت على تشغيله لاحقًا.
وأكدت مصر مرات عدة أنها دمّرت جميع الأنفاق التى كانت تستخدم للتهريب، وأن أى حديث إسرائيلى عن استخدام مسؤولى المقاومة للخط الحدودى لتنفيذ عمليات وتهريب أسلحة إلى داخل قطاع غزة غير صحيح وغير موجود ولا أساس لتلك المعلومات من الصحة، وفى ظل مساعى إسرائيل المستمرة لتهجير الفلسطينيين خارج أرضهم ودفعهم للنزوح حتى داخل القطاع وخاصة جنوبه، تزيد التوترات فى المنطقة ومع مصر تحديدًا حيث تحاول إسرائيل من خلال منع الغذاء والوقود والعلاج إيجاد دافع ذاتى لدى الفلسطينيين لاختراق الحدود المصرية.
من ناحية أخرى، حذرت مصر إسرائيل من احتلال ممر فيلادلفيا باعتباره منطقة عازلة تم الاتفاق على ترتيبات إدارته بدءًا من اتفاقية كامب ديفيد، وترى مصر أن فرض إسرائيل سيطرتها عليه يعقد الحرب فى غزة.
وفى سياق حديثنا عن المنطقة الآمنة والمنطقة العازلة، فلا بد من توضيح تلك المفاهيم
المنطقة الآمنة
تهدف فى المقام الأول لحماية المدنيين الفارين من القتال، من خلال توفير ما يحتاجون إليه، فيجب الاتفاق على المنطقة الآمنة بين الأطراف المتنازعة، وإزالة الصفة العسكرية من المنطقة وإخضاعها لإدارة مدنية للإشراف عليها، وحماية دولية من الأمم المتحدة، أو قوات التحالف الدولى التى تقوم بهذه المهمة، وتوفير ممرات آمنة لإيصال المساعدات الإنسانية للمدنيين.
لم تحدد اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية المناطق الآمنة، لكنها أشارت إليها بترتيبات أخرى، حيث تميّز اتفاقيات جنيف وبروتوكولاها الإضافيان بشكل واضح بين:
▪ مناطق غير محمية: هى الأماكن المأهولة القريبة من أو فى مناطق تكون فيها القوات المسلحة على تماس بعضها مع بعض والخاضعة لاحتلال العدو، من أجل تجنب القتال والتدمير، ويؤكد القانون الإنسانى إمكانية تعريف مناطق معينة بأنها “غير محمية” بهدف منع حدوث القتال هناك، والهدف الأشمل هو حماية السكان المدنيين والممتلكات المدنية الموجودة فيها.
▪ مناطق ومواقع المستشفيات: هى المناطق والمواقع التى تقام على أراضى طرف من أطراف النزاع أو على أرض محتلة بهدف حماية الجرحى والمرضى من أفراد القوات المسلحة ومن آثار الحرب، بالإضافة إلى أفراد الخدمات الطبية المعينين فى كل منطقة.
▪ المناطق المحايدة: يمكن إقامة مناطق محايدة فى مناطق يقع فيها قتال، وتهدف مثل هذه المناطق لحماية الأشخاص المحدّدين فيما يلى دون تمييز من آثار الحرب، وهم: الجرحى والمرضى من المقاتلين وغير المقاتلين، والمدنيون الذين لا يشاركون فى أعمال عدائية ولا يؤدون عملًا ذا طبيعة عسكرية أثناء إقامتهم فى هذه المناطق، ويمكن لأطراف النزاع، والدول المحايدة أو المنظمات الإنسانية أن تبادر إلى إقامة منطقة محايدة، ويجب على أطراف النزاع عقد وتوقيع اتفاق كتابى يحدّد بداية وفترة تحييد المنطقة، بالإضافة إلى تفاصيل موقعها الجغرافى، والإدارة، والموادّ الغذائية، والإشراف.
▪ المناطق المجردة من السلاح: وهى المناطق التى يحظر فيها على أطراف النزاع القيام بعمليات عسكرية، أو استعمال هذه المناطق لأى هدف يرتبط بسير العمليات العسكرية، ويجب أن تحدّد هذه المناطق فى اتفاقيّة صريحة، تبرم إما فى وقت سلام أو بعد اندلاع العمليات العدائية، ويمكن أن تكون اتفاقيّة شفوية أو مكتوبة وتبرمها أطراف النزاع مباشرة أو من خلال وساطة دولة حامية أو منظمة إنسانية محايدة، ويجب وضع علامة واضحة على منطقة منزوعة السلاح إلى الحدّ الممكن بعلامات يجرى الاتّفاق عليها مع الطرف الآخر.
وقد أضاف مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مفاهيم جديدة للمناطق الآمنة التى تستخدم لتوفير الحماية للمدنيين، وتعرف باسم “المناطق الآمنة” أو “المناطق الإنسانية الآمنة”، وقد طُرحت لأول مرة فى منطقة “سربرنيتشا” والمناطق المحيطة بها، بموجب القرار رقم 819 الصادر فى 16 أبريل 1993، وتستند هذه المناطق على مفهوم اتفاقيّة جنيف للمناطق الآمنة.
ويجب أن تتوفر الشروط التالية لجميع النازحين فى “المنطقة الآمنة”:
اتفاق الأطراف على الامتناع عن الأعمال العدائية فى المنطقة وحولها واحترام طابعها المدنى، وتوفير الضروريات للبقاء على قيد الحياة، بما فى ذلك الغذاء والماء والمأوى والنظافة والمساعدة الصحية، بجانب السماح للنازحين بالتنقل بحرية والعودة الطوعية إلى مساكنهم فى أقرب وقت ممكن.
المنطقة العازلة
المنطقة العازلة هى منطقة فقدت فيها السيادة الإقليمية للدولة بعض من جوانب استقلالها الذاتى، طوعًا أو كرهًا، بسبب الضغوط الخارجية أو التدخل الإنسانى، وبعض المناطق العازلة هى النتيجة المقبولة بشكل متبادل للمفاوضات الثنائية أو المتعددة الأطراف، وقد يتم فرضها من الخارج دون موافقة السكان المتضررين أو حكومتهم، وجميع المناطق العازلة الإنسانية تقريبًا مفروضة من الخارج.
ويجب التعبير عن رفض أى منطقة عازلة يتم إنشاؤها دون موافقة صاحب السيادة الإقليمى، باعتبارها تمثل “تهديدًا غير قانونى أو استخدامًا للقوة ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسى” للدولة المتضررة، وهو ما يتحقق فى حالة غزة حاليًا، فكما ذكرنا تحاول إسرائيل الاقتطاع من مساحة غزة لبناء منطقة عازلة، حيث يتم اعتبار المناطق العازلة المفروضة من جانب واحد بمثابة أشكال من الاحتلال الجزئى، فالمناطق العازلة المفروضة والمنفذة من الخارج، تؤدى فعليًا إلى النقل غير التوافقى للسيطرة الإقليمية إلى كيان أجنبى، طالما أن هناك احتمالًا لممارسة سلطة أجنبية، حتى دون وجود عسكرى أجنبى فعلى، وهنا تظهر إحدى الانتقادات التى لا مفر منها للقانون الإنسانى الدولى وهى الافتقار إلى آلية إنفاذ دائمة.
هناك ثلاثة طرق متاحة لتوفير وبناء منطقة عازلة، وهى: إذن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والدفاع الفردى أو الجماعى عن النفس، والحاجة الإنسانية. وتتقيد هذه المبادئ أيضًا بمبادئ قانون الحرب الأساسية المقبولة كجزء من القانون العرفى، وخاصة الوشيك والضرورة والتناسب.
هناك اختلافات بين معنى المصطلحات المذكورة سابقًا وتعريف المناطق العازلة:
أولًا: لا تكون المناطق العازلة دائمًا نتاجًا لاتفاق متبادل.
ثانيًا، عدم كفاية استجابتها لظهور الجماعات المسلحة غير الحكومية، وقد لاحظ بعض خبراء القانون الدولى أن “الطبيعة المطولة للنزاعات الحديثة ومشاركة العديد من الجماعات والفصائل المسلحة تجعل من الصعب فى كثير من الأحيان تحديد نقطة زمنية محددة يتوقف عندها قوانين الحرب عن العمل”.
الدعوة لإنشاء منطقة آمنة
الصراعات الدولية أو ذات الطبيعة الداخلية، وخاصة عندما تكون الأمور طويلة ومعقدة ودون أن يؤدى طولها إلى تسويات لوضع حد لها، تبرز أهمية “المنطقة الآمنة” لحل العديد من الأزمات المستعصية والمزمنة، ولعل وجودها سيعالج العديد من الجوانب التى تزعج المدنيين وتبدد مخاوفهم، لذا يدعو “مركز شاف للدراسات المستقبلية” الأطراف الفاعلة فى المجتمع الدولى ومجلس الأمن لاستصدار قرار بإنشاء منطقة آمنة داخل قطاع غزة، وتوفير كافة سبل إنجاح ذلك القرار من خلال تضافر جهود الناتو أو قوات تابعة للأمم المتحدة أو قوات عربية، تعمل على إنفاذ السلام والقانون الدولى وتوفير ممرات إنسانية، كخطوة أولى لوقف دائم وشامل للحرب ونزع فتيل التوترات فى المنطقة ومنع تهجير الفلسطينيين، بجانب إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
الفكرة تدعمها تجارب سابقة حيث فى 13 أكتوبر 1998، وبعد تدهور الأوضاع فى كوسوفو، أصدر مجلس الناتو أوامر بتفعيل الضربات الجوية، وكان الهدف من هذه الخطوة هو دعم الجهود الدبلوماسية الرامية إلى حمل نظام “ميلوسيفيتش” فى صربيا على سحب قواته من كوسوفو والتعاون فى إنهاء أعمال العنف وتسهيل عودة اللاجئين إلى ديارهم، كما أعرب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم “1199”، عن ضرورة وقف إطلاق النار من قبل طرفى النزاع.
واستمدت القوة الأمنية الدولية فى كوسوفو ولايتها من قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1244 الصادر فى 10 يونيو 1999 ومن الاتفاقية العسكرية التقنية بين الناتو وحكومتى جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية وجمهورية صربيا، وقد أطلق التحالف هذه الحملة الجوية فى مارس1999 لوقف وعكس اتجاه الكارثة الإنسانية التى كانت تتكشف آنذاك، وشملت المساعدات التى قدمتها قوات حلف شمال الأطلسى للتخفيف من حدة وضع اللاجئين توفير المعدات وبناء مخيمات لإيواء اللاجئين، وتقديم الدعم الطبى، ونقل اللاجئين إلى مناطق آمنة، وتوفير وسائل النقل للمساعدات والإمدادات الإنسانية.