سياسة الأبارتهايد: ترسيخ لمبادئ الفوقية العرقية فى جنوب إفريقيا وإسرائيل

إعداد: دينا لملوم

باحثة متخصصة فى الشئون الإفريقية

لقد عانت جنوب إفريقيا على مدار سنوات طويلة من التمييز العنصرى والفصل على أساس العرق “الأبارتهايد”، فاستحوذت الأقلية البيضاء على ممتلكات وحقوق سكان البلاد الأصليين، الذين عانوا من ويلات الظلم والاستبداد والحرمان من أبسط الحقوق المشروعة لهم وقصرها على المستوطنين البيض، وهو مايحدث على الأراضى الفلسطينية التى استولى المستوطن الإسرائيلي عليها بدون وجه حق، بل واتبع سياسة “أرض بلا شعب”، التى تشير إلى تهميش كل ما هو غير يهودى، واعتبار الأرض وما عليها ملكاً لليهود فقط، مع حرمان الفلسطينيين من حقوقهم والاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم، ليشكل ذلك أقصى وأعنف نظام فصل عنصرى، بدأ منذ أزمنة بعيدة، إلا أنه مازال ممتد حتى الآن، تمخض عنه عمليات قتل وانتهاكات جسيمة لمواطنى فلسطين، وصلت حد الإبادة الجماعية، آخذة نحو محاولات التطهير العرقى، وإزاحة الشعوب الفلسطينية خارج فلسطين بأكملها؛ وصولاً إلى أرض، يقطنها اليهود دون وجود أجناس أو أعراق أخرى تحت مسمى “الوطن النقى”.

تسلسل تاريخى للعلاقات الإسرائيلية الجنوب إفريقية:

بدأت العلاقة رسمياً بين جنوب إفريقيا والكيان الإسرائيلى حتى قبل إعلان قيام الكيان، فقد كان الحزب الوطني يحاول استمالة الجالية اليهودية “البيضاء” التي تعود في جذورها إلى دول أوروبا الشرقية، إلى جانب الحزب لدعمه في انتخابات مايو 1948، كان اليهود حينذاك حوالى 20 ألف، يمتلك الكثير منهم مفاصل هامة فى الصناعات المحلية والتجارة والزراعة، وبعد الانتخابات التي فاز فيها الحزب الوطني احتفلت الجالية اليهودية بالانتصار. وكان رئيس الوزراء الجديد “جان سمتس” سابع رئيس حكومة يعترف بإسرائيل، وبعد استقالته خلفه “دانيل فرانسو” الذى بالغ في تمتين علاقات جنوب إفريقيا بإسرائيل، وكان أول زعيم من دول الكومنولث البريطاني يقوم بزيارة ودية للكيان. كما سمح للمنظمات الأهلية اليهودية تحويل مبالغ طائلة معفية من الضرائب لإسرائيل، وتابعت الحكومات الجنوب إفريقية المتعاقبة السير على الطريق نفسه حتى نهاية النظام، اتسمت خلالها العلاقات بالقوة والمتانة والتعاون فى مجالات عدة أبرزها البحوث والتجارب النووية، وقد كانت إسرائيل تدعم بقوة نظام الفصل العنصرى فى بريتوريا، حتى تحررت جنوب إفريقيا وأُلغى هذا النظام عام 1991، هذا وقد تراجعت وتيرة العلاقات بين تل أبيب والجانب الجنوب إفريقى، حتى شهدنا مؤخراً سعى بريتوريا إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع هذا الكيان، على خلفية الحرب الدائرة فى قطاع غزة، والتى تعيد إلى الأذهان إرث التاريخ الاستعمارى  العنصرى المرير الذى عانت منه الشعوب السمراء فى جنوب إفريقيا، هذا وقد قامت السلطات فى بريتوريا بتقديم طلب إلى محكمة العدل الدولية؛ لاتخاذ الإجراءات القانوينة اللازمة حيال إسرائيل؛ بسبب العمليات العسكرية التى تشنها على غزة، وهو ما يشير إلى مدى التأزم العلاقاتى الذى وصلت إليه إسرائيل وجنوب إفريقيا.

مصطلح الأبارتهايد:

كلمة الأبارتهايد تعنى الفصل العنصرى، والذى يشير إلى محاولات التمييز بين الشعب الواحد على أساس اللون أو الدين أو العرق، بما يضمن تمكين فصيل منهم من الهيمنة السياسية والاقتصادية بشكل غير عادل ولا يتكافئ مع الآخرين، وقد علا صوت هذا المصطلح فى جنوب إفريقيا، حيث يرتكز على حكم الأقلية البيضاء التى ترى فى ذاتها التمييز العرقى الأرقى من السكان الأصليين “السود”، التى تنظر إليهم على أنهم عرق أدنى، ليس له الحق فى ممارسة العديد من الحقوق، كحق الاقتراع والتنقل وخلافه، ليُشار إلى ذلك كأقصى أنواع التمييز والعنصرية التى عانى منها السكان منذ عام 1949، حتى تم القضاء على هذا النظام عام 1993.

كيف بدأت مسيرة سياسة الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا؟:

إبان عام 1948، قامت الأقلية البيضاء الحاكمة فى جنوب إفريقيا باتباع سياسة الفصل العنصرى، فى وقت كان فيه السكان البيض حوالى 5 مليون نسمة، مقابل 25 مليون نسمة من البانتو “أصحاب البشرة السوداء”، و4 مليون نسمة من السكان الملونين أى المنحدرين من أب أبيض وأم من أصحاب البشرة السوداء والهنود، ولقد عانت هذه الفئات من التمييز العنصرى لمدة تقرب من نصف قرن، وبدأ الأبارتهايد يطبق بشكل سافر، حيث صدر قانون منع الزواج بين الأعراق على حسب نوع بشرتهم، وحدد كافة أوجه حياتهم وأنشطتهم منذ ميلادهم حتى وفاتهم، ليس ذلك فحسب، بل صدر قانون السكن المنفصل، الذى فصل بين الأجناس وأزال أحياء كاملة، كما تم تجريد السود من ممتلكاتهم ومنازلهم، ومنحها للأقلية البيضاء ونقلهم إلى مدن صفيحية، أيضاً تم حرمانهم من حرية التنقل، وجعل الحركة فى المناطق التى يقطنها البيض بتصاريح مرور، بجانب منعهم من حق التصويت والمشاركة فى العملية السياسية بشكل عام، كأقصى درجات العنف الإنسانى الذى قد يتعرض له إنسان يعيش على أراضيه وينازعه فى ذلك دخلاء على الأرض ينهبون ثروات البلاد، ويسلبوا أماله وطموحاته ويقهروا حرياته.

سُبل مجابهة سياسات التمييز العنصرى:

فى خمسينيات القرن المنصرم تم تشكيل حركة تناهض محاولات التمييز العنصرى فى بريتوريا، وكانت أساليب المواجهة فى بادئ الأمر تسلك المسار السلمى، ففى عام 1952 تم إطلاق حملة “تحد” شملت اتحاد العديد من الكيانات التى تكافح ضد الفصل العنصرى، كحزب المؤتمر الوطنى الإفريقى، والمؤتمر الهندى الجنوب إفريقى والمؤتمر الشعبى للملونين، وقد طالب العديد من المتطوعين بإسقاط قوانين الفصل العنصرى، ولكن سرعان ما وقع القبض عليهم، إضافة إلى تدشين حملة لمقاطعة الحافلات؛ احتجاجاً على انخفاض أجورهم، وغيرها من أساليب العصيان المدنى، وهو ما قابله إصدار قانون السلامة العامة عام 1953؛ بهدف مواجهة محاولات التمرد وفرض عقوبات تصل إلى الحبس لمدة خمس سنوات، إلا أن هذه المحاولات لم تؤتٍ ثمارها، لتصبح فترة الستينيات نقطة تحول مفصلية فى مسار المقاومة الشعبية، حيث تحول العمل من المسار السلمى إلى المواجهة العسكرية بعد تحركات من قبل سكان مدينة شاربفيل لمخاطبة قادة المؤتمر الشعبى بالتخلى عن المقاومة السلمية التى لم تفضى إلى حلول، وبناءاً عليه قام حزب المؤتمر بتكوين أجنحة عسكرية؛ مما أسفر عن وقوع مؤسس الحزب “نيلسون مانديلا” فى قبضة الاعتقال لقرابة 27 عام، على اعتباره من كبار معارضى سياسة الفصل العنصرى، وهكذا توالت سبل القمع الموجه لحركات رفض نظام الأبارتهايد الذى عانت منه جنوب إفريقيا، إلا أن النضال لم يتوقف حتى تم إسقاط هذا النظام عام 1991.

كيف كافح مانديلا ضد سياسة الفصل العنصرى؟:

يتم إدراج مانديلا كأحد أهم المناهضين الثوريين الذين كافحوا ضد نظام الأبارتهايد الذى عانى منه سكان جنوب إفريقيا، وظل يجاهد العنصرية المؤسساتية، والفقر وعدم المساواة، وتهميش الأفارقة على حساب نصرة الأقلية البيضاء، وسلك مانديلا سبل عدة، حتى تعرض للسجن لسنوات طويلة، وبالرغم من ذلك لم يتوانَ عن نصرة بلاده، حيث سعى جاهداً لتفكيك إرث نظام الفصل العنصرى بكافة السبل، فقاد مفاوضات مع  “دي كليرك” آخر رئيس أبيض لجنوب إفريقيا لإنهاء سياسة الأبارتهايد وعقد انتخابات متعددة الأعراق عام 1994، فتوج مسعاه بتسلم رئاسة جنوب إفريقيا فى نفس العام، ثم منصب رئيس المؤتمر الوطنى الأفريقى من عام 1991-1997، ثم شغل منصب الأمين العام لحركة عدم الانحياز عام 1998، واستقال من منصبه عام 1999، وركز فيما بعد على مكافحة الفقر وانتشار مرض الإيدز من خلال مؤسسة نيلسون مانديلا؛ لذا فإنه يعد مصدر إلهام لأبناء شعبه الذين خاضوا تحت مظلته نضالاً عنيفاً ضد الأبارتهايد، وتوفى عام 2013؛ مخلفاً إرثاً بطولياً لا ينضب لكافة المناضلين ضد الظلم والاستعمار والعنصرية فى كل زمان ومكان.

ركائز الأبارتهايد بين جنوب أفريقيا وإسرائيل:

تستند سياسة الفصل العنصرى على ثلاث ركائز:

الركيزة الأولى– التقسيم العرقى: تتمثل فى تقسيم السكان فى جنوب إفريقيا إلى مجموعات عرقية عبر قانون تسجيل السكان لعام 1950، بحيث تحتل الفئة البيضاء رأس الهرم السكانى، أما الفصل العنصرى الإسرائيلى فيقوم على تقسيم فلسطين إلى مجموعات مختلفة يهود وغير يهود عبر قانون العودة عام 1950، أى فى نفس العام الذى أعلنت فيه بريتوريا قانون تسجيل السكان لنفس الغرض، حيث منح اليهود حق الهجرة من أى مكان حول العالم إلى إسرائيل، وكنتيجة لذلك تولد نظام يمنح اليهود امتيازات دون غير اليهود ، وهو ما اتضح فى القانون الأساسى الذى دشنته السلطات الإسرائيلية عام 2018، والذى أشار إلى إسرائيل على أنها دولة قومية للشعب اليهودي، بالرغم من أن حوالى أكثر من 20% من سكانها ليسوا يهود.

الركيزة الثانية- التقسيم الجغرافى: أُجبر السكان الأفارقة على الإقامة فى مناطق جغرافية معينة، عبر إنشاء أوطان بديلة لهم أُطلق عليها “البانتوستان”؛ وذلك بهدف نزع المواطنة والجنسية عن سكان جنوب إفريقيا، مع تقييد حرية التنقل بين المناطق المختلفة خاصة التى يقطنها البيض، واشتراط وجود تصاريح لدخول مثل هذه الأماكن، أما عن فلسطين فقد اندرج قانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل لعام 2003؛ ليحظر لم شمل العائلات الفلسطينية عبر حرمانهم من حق مغادرة بلادهم والعودة إليها، ومن حرية التنقل والإقامة وحق الوصول إلى الأرض؛ ليضرب مثالاً فى ذلك على أنه من أقسى التشريعات التمييزية ضد الشعب الفلسطينى.

الركيزة الثالثة- الأمن: تستند هذه الركيزة على استخدام أدوات القمع والاعتقال الإدارى والتعذيب والقتل خارج نطاق القضاء، سواء فى جنوب إفريقيا أو خارجها، ولم يكن القمع مقتصر على النشطاء فقط، بل شمل ذلك كل من يخالف القوانين المرتبطة بتصاريح المرور وكل من يحاول التعبير عن رأيه، أو يتزوج خارج إطار التقسيم العرقى، أما عن إسرائيل، فقد تمثلت هذه الركيزة فى عمليات الإعدام خارج إطار القضاء، ففى الأراضى المحتلة، يتم توظيف مصطلح الأمن؛ لتبرير القيود المفروضة على الفلسطينيين فيما يتعلق بحرية الرأى والتعبير والتجمع والتنقل، وقد ظهر ذلك جلياً فى العدوان الأخير على غزة، حيث شنت تل أبيب هجماتها على القطاع بذريعة الحفاظ على أمنها ضد هجوم حماس عليها، تلك التحركات هى السبيل الذى يتبعه الكيان الإسرائيلى لتبرير اعتدائاته المتكررة على الشعب الفلسطينى الأعزل.

الأبارتهايد فى القانون الدولى:

فى الوقت الذى يشير إليه مصطلح الأبارتهايد إلى كل الممارسات العنصرية الموجهة نحو اضطهاد فئة بعينها وحرمانها من حقوقها، نجد أن ثمة أداتان دوليتان تحظران جريمة التمييز العنصرى، هما الاتفاقية الدولية لمنع الأبارتهايد والمعاقبة عليه لعام 1973، بجانب نظام روما الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، ونصت المادة 1 من اتفاقية 1973 على أن هذا النظام يعد جريمة ضد الإنسانية، وتفسر المادة 2 هذه الجريمة على أنها عبارة عن سياسات وممارسات تستخدم للعزل والفصل العنصرى؛ بغرض إدامة هيمنة فئة عنصرية معينة من البشر على فئة أخرى واضطهادها بشكل ممنهج، أما نظام روما لسنة 1998، فقد تم استخدامه بعد سقوط سياسة الأبارتهايد فى جنوب أفريقيا، ويقوم هذا النظام على تقديم تعريف ذات نظرة مستقبلية لهذه السياسة قابلاً للتحقيق عالمياً فالمادة 7-2-ح تشير إلى أن الأبارتهايد هو عبارة عن أية أفعال لا إنسانية يتم ارتكابها فى سياق نظام مؤسسى جوهره الاضطهاد الممنهج والسيطرة من قبل جماعة عرقية محددة إزاء أية جماعة أو جماعات أخرى، ترتكب بدافع الإبقاء على هذا النظام، إلا أنه وبالنظر إلى السجال التاريخى الطويل لممارسات الاضطهاد والتفرقة العنصرية على الأراضى الفلسطينية والجنوب الإفريقية نجد أن هذا القانون أصم وأعمى، يكتفى بالإشارة إلى مدى بشاعة الأبارتهايد، ولكن هل من سبيل لإجبار ممارسى هذه السياسة على الكف عن انتهاك حقوق الإنسان فى هذا الصدد، والتى نجم عنها عمليات تطهير عرقى وإبادة جماعية مازالت تحصد أرواح آلاف الفلسطينيين فى الوقت الحالى فى ظل العدوان الإسرائيلى على غزة، الذى تمخض عنه سيل من الدماء التى ارتوت بها أراضى غزة لم ينقطع حتى الآن؛ انطلاقاً من عقيدة جوفاء اتخذها الإسرائيليون منذ البداية تحت مسمى أرض بلا شعب واتباع سياسة الأرض المحروقة؛ لتحقيق ذلك الهدف الذى هو فى الأساس قائم على سحق أى عنصر غير يهودى فى فلسطين، دون النظر إلى أية قوانين، فقد كسر قوانين الإنسانية، فهل له من الانصياع لمجرد كلمات على ورق تحت مسمى القوانين الدولية؟.

أوجه التشابه والاختلاف بين سياسة الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا وإسرائيل:

أولًا: أوجه التشابه:

تقوم العقيدة الإسرائيلية على فكرة “أرض بلا شعب”، فى حين أن المستوطنين البيض منذ وطأة قدماهم يرون أن جنوب إفريقيا أرضاً خالية من السكان، وقد ادعت الكنيسة الهولندية فى جنوب إفريقيا بإن البيض هم شعب الله المختار، وهى نفس العقيدة التى اعتنقها اليهود، وقد أطلق الغزاة الهولنديون على بريتوريا مصطلح “معسكر الأمل الجميل”، أما اليهود فقد أطلقوا على فلسطين “نشيد الأمل”، وفى هذا الصدد نجد أن الحالتين تتشابهان، ليس فقط فى المسميات أو المعتقدات التى ترسخت فى أذهان المستوطن، بل فى سياقات التاريخ الاستعمارى ذاته، فكلا البلدين شهدا غزواً استيطانياً من قبل بريطانيا، على نحو نجم عنه نظامين عنصريين، استلهما أسسهم من واقع أيدلوجى قام على نظرية الفصل بين الغزاة والسكان الأصليين، ظلت مستمرة حتى تسببت فى أزمة تاريخية، حملت عنوان الحضور التاريخى للشعب صاحب الأرض، مع إثارة جدلية الاعتراف بحقيقة وجوده وأحقيته فى التمتع بحقوقه الطبيعية والسياسية، ولكى نجرى مقاربة تاريخية لإجراء المقارنات الزمنية للتاريخ الاستعمارى لفلسطين وجنوب إفريقيا، نجد أنه فى عام 1948، فى الوقت الذى أقيم فيه الكيان الإسرائيلى استلم الحزب الوطنى مقاليد الحكم فى بريتوريا، ومنذ ذلك الحين تحولت بعده ممارسات الفصل العنصرى إلى سياسة رسمية معلنة، فقامت إسرائيل باحتلال الأرض، وبطرد من تمكنت من طرده من السكان، وتحويلهم إلى لاجئين في الدول المجاورة، ثم عمدت إلى إبقاء من تبقى فى تجمعات عربية محدودة المساحة ومعزولة قدر الإمكان عن الوسط اليهودى، وتعامل النظام العنصرى فى جنوب إفريقيا مع السكان عبر تقسيمها إلى مناطق يقطنها البيض وأخرى ساكنيها من الأفارقة، مع فرض إجراءات تقييدية على السود مثلما الحال مع الفلسطينيين، وفى كلتا الحالتين تم ارتكاب العديد من المجازر ضد السكان، وكان تطبيق هذا النظام يتم بطريقة أكثر عنفوانية، لعبت السجون وعمليات التعذيب دوراً رئيسياً فى فرضه، أيضاً بالنظر إلى طبيعة النداءات التى أطلقتها دولة البيض فى جنوب إقريقيا، والتى ادعت من خلالها بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة فى إفريقيا، فإن إسرائيل كذلك ادعت ديمقراطيتها، وأنها الدولة التى تتبع ذلك فى الشرق الأوسط، ولكن على سبيل الممارسة الفعلية، فثمة اضطهاد وتفرقة عنصرية وارتكاب أبشع الجرائم فى حقوق مواطنى البلدين الأصليين، يعززه نظام قانونى جائر، وفى هذا الصدد يمكن الإشارة إلى أن الديمقراطية التى اتبعها المستوطنون كانت ديمقراطية ناقصة مشوهة وعنصرية، حيث كانت موجهة لفئات معينة من السكان، بالتأكيد هم الفئات المسيطرة على دفة الأمور فى البلاد، وبالتالى ضمنت لهم استقراراً أدوم فى الحكم، وتداولاً سلمياً للسلطة، وحرية للتعبير والمشاركة على نطاق أوسع.

ثانيًا: أوجه الاختلاف:

لقد كان لنظام الفصل العنصرى فى إسرائيل وجنوب إفريقيا أوجه عدة من الاختلاف، من حيث الغرض، كان الهدف من الاحتلال الإسرائيلى يختلف عن نظام الابارتهايد فى جنوب إفريقيا، الذى كان يقوم بشكل أساسى على التفرقة العنصرية، حيث أنشأ النظام مؤسساته بحيث ترتكز على هذه الغاية، وتجسد ذلك فى اتباع الأقلية البيضاء مسار القوة للحفاظ على السلطة، وإحكام السيطرة على الأغلبية السمراء، أما المؤسسات الإسرائيلية لم تستند على العنصرية بنفس درجة الوضوح التى ظهرت فى بريتوريا، حتى لو قامت باستخدامها ضد الفلسطينيين، كما أن للكيان خطط وأهداف مختلفة بشكل كبير عن المستعمر الأبيض، على الجانب الآخر، جاءت دولة البيض فى سياق التنافس على المستعمرات الخارجية بين الدول الأوروبية؛ لتأمين المصالح الاستراتيجية وطرق التجارة الدولية، على العكس من إسرائيل التى كانت مشروعاً أوروبياً، سعت إليه الدول الأوروبية؛ ليكون بمثابة الذراع الطويلة لها، وموقعاً حيوياً يخدم مصالحها فى واحدة من أهم المناطق فى العالم، وعليه فإن إسرائيل كانت وما زالت تمثل مشروعاً حيوياً  للحضارة الغربية، ما زال يستمد أسباب قوته، ومبررات وجوده من خلال العلاقات المتميزة مع دول الغرب، وفى الوقت الذى تعامل فيه المجتمع الدولى مع دولة البيض بصرامة شديدة، حيث نزع الشرعية عنها، بعد أن عزلها وفرض عليها عقوبات تجارية، لا سيما حينما اشتد الصراع هناك، نجد أن ثمة ازدواجية فى المعايير التى تعامل بها مع تلك الدولة وإسرائيل، التى انتهكت حقوق الشعب الفلسطينى، وسكوت النص الدولى عن القضية الفلسطينية التى تتردد أصداؤها فى الأروقة الدولية منذ سنوات، وبالرغم من كافة التجاوزات والانتهاكات الصارخة فى حق الفلسطينيين، إلا أن العالم لم يجرؤ على نزع الشرعية عن الكيان الإسرائيلى أو حتى عزله، مع مساندة الولايات المتحدة للإسرائيليين ودعمهما بقوة، وهو ما لم يظهر فى الحالة الجنوب إفريقية، وبالنظر إلى أبعاد الصراع فى القضية الفلسطينية، نلاحظ أنه كان قائماً على اعتبارات قومية ودينية، والخلاف حول ملكية الأرض التى ادعى الإسرائيليون أحقيتهم فيها، ونازعوا،  الفلسطينيين عليها وانتزعوها منهم، ولكن فى جنوب إفريقيا، كانت الرواية التاريخية واضحة، فكلاً من البيض والسود، لم يختلفوا على ملكية الأرض، وسعت السلطة الحاكمة فى البلاد؛ لتوظيف الدين لفرض سيطرتها على المجتمع، وإضفاء مشروعية دينية على نظامها العنصري، وأقنعت جمهورها بأن الممارسات العنصرية تمثل وصايا الرب، حتى صارت جزءاً من تعاليم الكنيسة الهولندية، ومع ذلك لم يلعب الدين دوراً محورياً في الصراع بين البيض والسود، وفى حالة الصراع العربى الإسرائيلى لعب الدين دوراً مؤثراً وكان له حضوراً واضحاً، فقد استندت العقيدة الصهيونية على ادعاءات أحقيتها فى ملكية الأرض، واتضحت دور الفئة اليهودية المتدينة التى أثرت بشكل واضح على السياسة الإسرائيلية، على نحو بات يهدد بتغيير بنية وهوية الدولة، من ناحية أخرى، كان هناك حضور قوى للأحزاب والحركات الإسلامية فى فلسطين “حماس والجهاد الإسلامى”، أيضاً دائماً ما تسعى إسرائيل إلى تعريف ذاتها كدولة يهودية، والسعى نحو تحقيق هدف دولة يهودية بلا أعراق أو أديان أخرى بخلاف اليهود، أى تصفية كل من على الأرض، أياً كانت الوسيلة المتبعة فى ذلك، وهذا التعريف الإثنى والدينى تلاشى فى دستور جنوب إفريقيا التى لم ترفض وجود الفئات السمراء.

مقاربات النضال ضد الاستيطان الإسرائيلى والجنوب إفريقى:

بالرغم من أوجه الاختلاف بين القضيتين الفلسطينية والجنوب إفريقية، إلا أنه يمكن الاتفاق على أن الممارسات القمعية والعنصرية فى كلا البلدين لم تختلف كثيراً، وبالتالى فإن مطالب الفلسطينيين بالحرية والاستقلال وإنهاء الاحتلال لا تقل وجاهة عن مطالب السود فى جنوب إفريقيا بإنهاء الأبارتهايد، فقد بدأ الفلسطينيون تاريخهم النضالى منذ أن شرعت بريطانيا فى تنفيذ مشروعها الإسرائيلى، واتبع النضال مسارات عدة، كان أهمها الثورات الشعبية والإضرابات وحرب العصابات، واستمر ذلك حتى عام 1948، حتى أصبحت إسرائيل أمراً واقع كادت أن تصفى القضية الفلسطينية به، ولكن سرعان ما عادت الروح الوطنية للمناضلين، ففى عام 1965، أخذ مسار النضال الفلسطينى منحى آخر؛ بدأ بالكفاح المسلح، ثم بالنضال السياسى على الساحة الدولية، بعد أن نجحوا بإعادة الاعتبار لقضيتهم الوطنية، وأخرجوها من ملفات النسيان إلى ميدان المعركة، وانتزعوا اعترافاً عالمياً بعدالة قضيتهم، واستمر الكفاح الوطنى الفلسطينى بأشكال جديدة ومتنوعة، أبرزها الانتفاضات الشعبية والعمليات الفدائية، وصولاً إلى مرحلة المفاوضات المباشرة مع الإسرائيليين، أما فى الحالة الإفريقية، فلم يكن الأفارقة فى حاجة إلى خوض معارك سياسية؛ للحصول على اعتراف دولى بوجودهم، بل كانوا فى حاجة ماسة إلى إعادة الاعتبار لشخصية الإنسان الإفريقى التى سحقتها سياسة التمييز العنصرى، والتخلص من عقدة النقص التى أنتجتها عقود طويلة من الذل والعبودية، وأدت إلى فقدان الإفريقى ثقته بنفسه، علاوة على فضح النظام الحاكم وإثبات عنصريته، ودعوة العالم لمقاطعته وعزله، ونزع الشرعية عنه، ولم يتخلف الجانبين عن ركب محاربة الأبارتهايد والسياسات القمعية التى عانى منها الشعب الفلسطينى ونظيره فى جنوب إفريقبا، ولكن النقطة الحاسمة فى هذه القضية هى أن الشعب الإفريقي في نهاية المطاف نال حريته، وأحرز نصره، وأنجز غايته، وتمكّن من تفكيك النظام العنصري وإقامة دولة ديمقراطية غير عنصرية، ولكن الفلسطينيين ما زالوا تحت الاحتلال، إلا أنّ هذا ليس بسبب تقاعس الشعب الفلسطيني؛ بل هو عائد إلى جملة من الاعتبارات السياسية لها علاقة بطبيعة وخصوصية كل قضية، واختلاف الكثير من المعطيات بين الحالتين.

ختامًا:

إن أقصى ما يمكن أن يتعرض له شعب دولة ما أن يعيش غريباً فى موطنه، يعامل بعنصرية صارمة، يتجرع ويلات الهزيمة وينازع؛ لكى يتحرر من قبضة الاستعمار ونهب أراضيه، والأبشع من ذلك هو مناصرة القوانين والتشريعات الدولية للمغتصب، وشرعنة أفعاله وتصرفاته، وهو ما اتضح فى فلسطين وجنوب إفريقيا، على الأقل هذه الأخيرة قد تحررت بشكل شبه مطلق من نظام الأبارتهايد، وإن كان ما زال إرثه عالقاً حتى الآن، يشعر به المواطنين، كلما حلت النكبات، مثلما حدث فى العداون الإسرائيلى على غزة، والذى يسترجع فى الأذهان ذكريات هذا الماضى الأليم، أما عن الشعب الفلسطينى، فحالياً يعيش مرحلة من أقسى مراحل حياته، تسعى خلالها تل أبيب إلى توظيف سياسة أرض بلا شعب بشكل واضح وقوى، حينما عمدت إلى الضغط على سكان القطاع للنزوج إلى أقصى الجنوب، مع المطالبة بتهجير هؤلاء السكان إلى سيناء المصرية؛ ليفسح لها المجال أمام اتباع نفس المسار مع سكان الضفة الغربية والزج بهم نحو الأردن؛ ليتحقق لها ذلك الحلم، الذى ارتكبت من أجله أفظع الجرائم الوحشية الممنهجة ضد الفلسطينيين، ولكن لكل بداية نهاية، ومثلما سطرت المقاومة الجنوب إفريقية نهاية الأقلية البيضاء وحكمها العنصرى فى البلاد، سوف يأتى العصر الذى نتحدث فيه عن نهاية إسرائيل وتحقيق النصر للشعب الفلسطينى، بل والأمة العربية والإسلامية جمعاء.

كلمات مفتاحية