إعداد: شيماء عبد الحميد
“خطر الحرب الإقليمية يلوح فى الأفق”؛ هكذا يمكن توصيف الخريطة الأمنية للشرق الأوسط فى ضوء استمرار حرب غزة ومجازفة إسرائيل باتساع رقعة الصراع فى مقابل استعادة صورتها وهيبتها التى اهتزت بعد هجوم السابع من أكتوبر 2023، ويستدل على ذلك من هجوم “تل أبيب” على مكتب حركة حماس فى الضاحية الجنوبية بلبنان والذى أدى إلى اغتيال القيادى صالح العارورى واثنين من قادة كتائب القسام.
ولا شك فى أن كل ذلك يحمل فى طياته أعباءً جديدةً للولايات المتحدة التى غيرت هذه الحرب حساباتها فى المنطقة، ووضعتها فى وضع حرج يفرض عليها أن توازن بين مصالحها وتحالفاتها مع دول الشرق الأوسط من جهة، وعقيدتها الراسخة فى سياستها الخارجية والمتمثلة فى حماية أمن إسرائيل من جهة أخرى.
وما يزيد من هذا العبء على الإدارة الأمريكية الحالية؛ أن سياسة الرئيس الأمريكى “جو بايدن” تجاه إسرائيل، خاصةً دعمها فى الصراع مع حماس، باتت نقطة محورية فى النقاش السياسى المرتبط بالانتخابات الرئاسية التى من المقرر عقدها فى نوفمبر المقبل، وأن المنطقة تشهد توترات مشتعلة على جبهات متعددة تفرض على واشنطن النظر بجدية إلى كيفية التعامل مع إسرائيل ومواجهة التحديات الأمنية المستجدة بالإقليم.
وفى ضوء هذه المعطيات؛ يحاول هذا التقرير تقييم التحديات التى خلفتها حرب غزة بالنسبة للولايات المتحدة، وحسابات الربح والخسارة الأمريكية فى ضوء تطورات المنطقة الحالية، مع محاولة استشراف الرؤية الأمريكية تجاه تلك التحديات خلال الفترة المقبلة:
حرب غزة والتحديات الأمريكية فى المنطقة:
مع اتساع رقعة الصراع وامتداد تبعات حرب غزة إلى جبهات أخرى فى الإقليم سواء لبنان أو سوريا أو البحر الأحمر، فإن الولايات المتحدة ومصالحها فى الشرق الأوسط باتت معرضة للخطر؛ نظرًا لأن هذه التطورات تحمل مجموعة من التحديات التى ستحدد الرؤية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط خلال الفترة المقبلة؛ ومنها:
1- عرقلة النظام الإقليمى الجديد الذى حاولت واشنطن خلقه فى الشرق الأوسط؛ فقد عملت الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة “جو بايدن” منذ توليها السلطة على تهدئة الأوضاع فى الشرق الأوسط مما يسمح لها أن توجه اهتمامها وقواتها العسكرية نحو آسيا للتصدى إلى الخطر الصينى الذى اعتبرته الولايات المتحدة، الخطر الأكبر بالنسبة للأمن القومى الأمريكى، ولذلك اتخذت إدارة “بايدن” مجموعة من القرارات التى تخدم هذه الرؤية مثل الانسحاب الأمريكى من أفغانستان فى 2021، وسحب بعض أنظمة الصواريخ الدفاعية من بعض الدول وعلى رأسها السعودية، تقليل عدد القوات الأمريكية المتواجدة فى المنطقة وخاصةً العراق، وإعادة إحياء المفاوضات النووية مع إيران بشأن العودة إلى الاتفاق النووى الإيرانى الذى انسحبت منه الولايات المتحدة بشكل أحادى فى 2018.
هذا النظام الإقليمى الذى أرادت واشنطن أن تقيمه فى الشرق الأوسط، كان يعتمد فى جوهره على الاندماج الدبلوماسى لإسرائيل فى محيطها العربى، من خلال إقامة تحالف بين الدول العربية الصديقة لواشنطن لا سيما دول الخليج العربى وعلى رأسها السعودية، وإسرائيل التى كانت ستعتمد عليها واشنطن فى الحفاظ على أمن المنطقة، ومصالحها الإستراتيجية بعد تخفيف وجودها العسكرى المباشر لتتفرغ للتحدى الصينى فى شرق آسيا وحول العالم.
ولكن جاءت حرب غزة لتنسف هذه الإستراتيجية وتعرقل هذا النظام الإقليمى الذى كان قيد الإنشاء، وذلك بعد أن أعادت الحرب ترتيب الأوراق فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية من جديد، ليس على المستوى الإقليمى فحسب بل والدولى أيضًا؛ حيث باتت “تل أبيب” مرفوضة فى الشارع العربى، ومع استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية فى غزة؛ ستكون الدول العربية التى لها علاقات مع إسرائيل، أو تفكر فى تحسين العلاقات معها، فى وضع حرج أمام شعوبها بل ستواجه ضغوطًا متزايدة من الشعوب لقطع أى علاقات مع إسرائيل.
2- استهداف الوجود العسكرى الأمريكى فى المنطقة؛ تدخل محور المقاومة فى الحرب حيث أعلنت المقاومة الإسلامية فى العراق أنها سترد على التأييد الأمريكى المطلق لمجازر إسرائيل بحق الفلسطينيين المدنيين فى القطاع، من خلال استهداف الوجود الأمريكى فى المنطقة.
وبالفعل بات ما يقرب من 40 ألف جندى أمريكى فى مختلف أنحاء الشرق الأوسط، فضلًا عن القواعد العسكرية الأمريكية فى سوريا والعراق، فى مرمى الاستهداف من قبل ما يُعرف بقوات المقاومة، وتعرضت كبرى القواعد الأمريكية إلى الاستهداف المتكرر مثل قاعدة “التنف” فى سوريا، وقاعدة أربيل الجوية بالعراق.
وحرصًا من جانب الولايات المتحدة على عدم توسع رقعة الصراع؛ اكتفت الإدارة الأمريكية بتنفيذ ضربات جوية محدودة ضد المنشآت التى يستخدمها مقاتلو كتائب “حزب الله” الموالية لإيران فى العراق، إلى جانب تنفيذ ضربات مماثلة فى سوريا، فضلًا عن نشر نحو عشرة من أنظمة الدفاع الصاروخى فى المنطقة لحماية القوات الأمريكية من الصواريخ وغيرها مما يمكن أن يستهدف القوات الأمريكية.
3- تهديد مسارات الملاحة الدولية؛ حيث امتدت تبعات حرب غزة إلى الأمن البحرى للشرق الأوسط وذلك بإعلان جماعة الحوثى دخول الحرب ضد إسرائيل لنصرة الفلسطينيين فى القطاع، من خلال استهداف السفن المارة فى البحر الأحمر ومضيق باب المندب والتى لها علاقة بشركات الشحن الإسرائيلية أو أى سفينة متجهة نحو موانئ “تل أبيب” مهما كان العلم الذى ترفعه هذه السفن.
ومما لا شك فيه أن هذا التحرك يحمل تبعات كارثية على المصالح الأمريكية المتمثلة فى حرية حركة الملاحة والتجارة فى المضايق والمسارات البحرية فى المنطقة، حيث إنه نظرًا للأهمية الحاسمة للبحر الأحمر فى التجارة العالمية، يمكن أن تؤدى هجمات الحوثى على السفن إلى تعطيل سلاسل التوريد العالمية، فضلًا عن التأثير على أسعار النفط.
ورغم إعلان واشنطن تشكيل قوة بحرية جديدة تحت مسمى عملية “حارس الازدهار” لحماية السفن التجارية من هجمات الحوثيين، إلى جانب تعزيز تواجدها العسكرى فى هذه المنطقة، إلا أن البعض اعتبر التحرك الأمريكى أقل من الخطر الذى يحمله التصعيد فى البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وأن الإدارة الأمريكية تقلل من خطورة الوضع من أجل تجنب تصعيد التوترات فى المنطقة، وعدم فتح جبهة جديدة للحرب بخلاف غزة وجنوب لبنان.
4- عودة الزخم إلى الفاعلين من غير الدول فى المنطقة؛ ويُعتبر هذا التحدى من أهم التحديات الأمريكية التى خلفتها الحرب الإسرائيلية على القطاع، حيث إن واشنطن دائمًا ما رفعت شعار مكافحة الإرهاب كسبب من أسباب تواجدها العسكرى فى دول المنطقة، سواء كان الإرهاب الداعشى أو الحوثى أو الإيرانى.
ولكن جاءت هذه الحرب لتكون فرصة إلى عودة الزخم للفاعلين من غير الدول مثل حزب الله والحوثى ومليشيات المقاومة الإسلامية فى العراق وعلى رأسها الحشد الشعبى العراقى على حساب الدول الوطنية؛ حيث إن صعود هذا النوع من الفاعلين السياسيين وتصدره للمشهد الإقليمى والمحلى فى العديد من الدول، يعكس انهيارًا كاملًا فى مفهوم الدولة الوطنية، فضلًا عن أن التحركات التى قامت بها أطراف ما يُعرف بمحور المقاومة ضمن إستراتيجية إيران المعروفة باسم وحدة الساحات، أوضحت الإمكانيات المتوفرة للجماعات المسلحة دون الدول من التأثير على السلم والاستقرار الإقليمي.
وما يزيد الأمر خطورة؛ أن تلك الجماعات تحاول المزايدة على الموقف العربى، حيث تحاول الظهور أمام شعوب دولها بمظهر حامى القضية الفلسطينية ونصير الفلسطينيين المستضعفين، وذلك يشكل حرجًا للنظام العربى الرسمى الذى يعتمد الحلول السياسية وليست العسكرية التصعيدية، وهذا بالتأكيد يكسبها شرعية حتى وإن كانت على المستوى الشعبى وليس القانونى أو الدولى.
5- اختلاف وجهات النظر بين واشنطن وتل أبيب بشأن مستقبل القطاع؛ بات من الواضح فى الآونة الأخيرة أن الطرفين الإسرائيلى والأمريكى ليس لديهما رؤية موحدة بخصوص مستقبل قطاع غزة؛ حيث ترفض إدارة “بايدن” فكرة احتلال إسرائيل للقطاع، كما أنها غير متحمسة لفكرة السيطرة الأمنية الإسرائيلية عليه، فيما ترى أن السلطة الفلسطينية هى الشريك الأكثر قابلية لحكم غزة، وهو ما ترفضه “تل أبيب”.
6- الانفتاح الإقليمى على إيران؛ حيث تُعتبر طهران هى أكثر دولة استفادت بالفعل من الحرب؛ إذ أظهر محور المقاومة الذى تتزعمه إيران أنه قادر على تغيير اتجاه السياسات فى الشرق الأوسط عبر التلاعب بدرجة تصعيد الصراعات الإقليمية وتهدئتها، كما عززت إيران أيضًا صورتها كمدافع عن الفلسطينيين مما زاد من شعبيتها فى جميع أنحاء الشرق الأوسط، ولكن بشكل لا يأتى على حساب علاقاتها المزدهرة مع العالم العربى من أجل دمج نفسها بشكل كامل فى السياسة الإقليمية.
وبالتأكيد هذا يأتى على عكس رغبة الولايات المتحدة التى كانت تؤسس لنظام إقليمى يجعل من إيران العدو الأول للمنطقة فيما يدمج إسرائيل فى محيطها العربى لتقوم “تل أبيب” بملء الفراغ الأمريكى والحفاظ على مصالح واشنطن فى المنطقة، لتتفرغ الولايات المتحدة لمواجهة الخطر الصينى.
حسابات الربح والخسارة الأمريكية:
فى ضوء التحديات التى خلفتها حرب غزة أمام الولايات المتحدة فى منطقة الشرق الأوسط، اختلفت الرؤى حول حسابات الربح والخسارة الأمريكية فى هذه الحرب؛ حيث رأى البعض أن تصدر واشنطن المشهد وعودتها إلى المنطقة من باب حرب غزة، أثبت أنها ما زالت السيدة الأولى فى الشرق الأوسط، بينما رأى البعض الآخر أن الولايات المتحدة ستخرج خاسرة من تبعات هذه الحرب، وهو ما يمكن إيضاحه على النحو التالى:
1- الرأى الأول؛ مكاسب واشنطن فى حرب غزة:
جاءت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لإعادة ملف الشرق الأوسط إلى الواجهة فى واشنطن، ولإثبات أن الولايات المتحدة ما زالت الدولة الأكثر قدرة على المساعدة فى تحقيق الاستقرار بالمنطقة، وأنها قوة كبرى يمكنها التعامل مع العديد من الصراعات الكبرى فى آن واحد، وذلك على حساب الصين وروسيا اللتان لم يكن لهما دور يُذكر فى هذا الملف الذى يُعتبر هو المحرك الرئيسى للشرق الأوسط، والمحدد الأساسى لمدى استقرار وأمن المنطقة.
ففى مقابل التراجع الصينى والروسى فى المنطقة، أعادت الحرب الولايات المتحدة إلى قلب الصراع فى الشرق الأوسط، وأسقطت أى حديث عن الانسحاب الأمريكى من المنطقة، ويظهر ذلك فى تعزيز الوجود العسكرى الأمريكى بالمنطقة مع بداية الحرب؛ حيث فى أعقاب عملية طوفان الأقصى، تم الإعلان عن إرسال حاملتى الطائرات “يو إس إس أيزنهاور” و”يو إس إس جيرالد آر فورد” ومجموعة السفن الحربية التابعة لهما إلى شرق البحر المتوسط، واستعداد ما يقرب من ألفى جندى أمريكى لاحتمال نشرهم فى إسرائيل، هذا إلى جانب زيادة أعداد طائرات “إيه-10″ و”إف-15″ و”إف-16” الموجودة فى الشرق الأوسط.
وقد أرادت الإدارة الأمريكية من هذه التحركات، إرسال رسائل مهمة للغاية، مفادها أن واشنطن لن تسمح للميليشيات الموالية لإيران بتهديد المصالح والأمن القومى الأمريكى فى المنطقة، وتأكيد الالتزام الأمريكى بأمن حلفائها فى المنطقة، وردع وكلاء إيران من توسيع نطاق الحرب.
2- الرأى الثانى؛ خسائر واشنطن من حرب غزة:
أ. اهتزاز صورة الولايات المتحدة كطرف محايد؛ فالدعم الأمريكى المطلق واللا محدود للمجازر التى ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين، شوه صورة واشنطن وأفقدها مصداقيتها أمام الشعوب العربية والإسلامية بسبب تغاضى واشنطن عن انتهاك إسرائيل لقواعد القانون الدولى والقانون الدولى الإنسانى، بل إن هذا الدعم كشف حقيقة الشعارات الأمريكية التى رفعتها والمبادئ التى كانت تنادى بها حول العالم من حقوق إنسان وديمقراطية، ومن ثم أفقدها قوتها الناعمة التى دائمًا كانت تحرص على الترويج بها لسياساتها فى المنطقة، هذا إلى جانب إيضاح مدى ازدواجية المعايير التى اتسمت بها الإدارة الأمريكية فى هذه الحرب؛ حيث شددت واشنطن على ضرورة إدانة الدول الأخرى لهجمات حماس دون إدانة ما تقوم به إسرائيل من دمار وتخريب واسع النطاق ضد قطاع غزة.
ونتيجة لهذا الدعم، وصلت نسبة الثقة فى الولايات المتحدة وتأثيرها بين شعوب المنطقة إلى أدنى مستوياتها، بينما تصاعدت نسبة التأييد لمنافسيها وخصومها الإستراتيجيين؛ الصين وروسيا وإيران، حيث وفقًا لاستطلاع الرأى العام الذى أجرته المجموعة المستقلة للأبحاث IIACSS وشركاؤها فى المنطقة، والذى شمل عينات وطنية فى ستة دول عربية وهى العراق وسوريا والأردن ومصر ولبنان وفلسطين فى الفترة من 17-29 أكتوبر 2023، خسرت الولايات المتحدة نفوذها فى المنطقة، إذ بلغت نسبة العرب الذين يعتقدون أن للولايات المتحدة دورًا إيجابيًا فى حرب غزة 7% فقط، وفى بعض الدول مثل الأردن كانت 2% فقط، فى المقابل؛ كانت نسبة العرب الذين يقولون إن للصين دورًا إيجابيًا بلغت 46% فى مصر، و34% فى العراق و27% فى الأردن، كما بلغت نسبة من يعتقدون أن لروسيا تأثيرًا إيجابيًا 47% فى الدول المستطلعة.
وعلى النقيض؛ بات منافسو واشنطن مقبولين على المستوى الشعبى فى الدول العربية، حيث إن استخدام روسيا والصين لحق النقض “الفيتو” ضد مشروعات القرار الأمريكى فى مجلس الأمن، لاقى ترحيبًا كبيرًا من الدول والشعوب العربية.
ب. انعكاس الحرب على الداخل الأمريكى مع اقتراب الانتخابات الرئاسية؛ مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024، ألقت حرب غزة بظلالها على الداخل الأمريكى؛ حيث يواجه الرئيس الأمريكى “جو بايدن” العديد من الانتقادات الداخلية جراء دعمه غير المسبوق لإسرائيل، مما قد يؤثر سلبًا على فرص فوزه بولاية ثانية، هذا إلى جانب ما أثارته الحرب من انشقاقات داخل الحزب الديمقراطى.
فوفقًا لنتائج استطلاع رأى أجراه المعهد العربى الأمريكى فى أكتوبر 2023؛ فقد الرئيس بايدن شعبيته بشكل كبير بين الأمريكيين من أصل عربى جراء دعمه المطلق لإسرائيل؛ إذ إنه على الرغم من أن تأييدهم له فى انتخابات عام 2020 وصل إلى 59%، فإن الاستطلاع أوضح أن 20% من الأمريكيين من أصل عربى يوافقون إلى حد ما على أدائه بينما يحمل 66% وجهة نظر سلبية تجاه إعادة انتخابه، كما أوضح استطلاع رأى أجرته شبكة “إن بى سى نيوز” الأمريكية فى نوفمبر 2023، أن 62% من الأمريكيين يعارضون سياسة “بايدن” الخارجية، فضلًا عن معارضة 56% من الأمريكيين سياسات “بايدن” تجاه الأزمة فى غزة.
كما أن موقف الإدارة الأمريكية من الحرب على غزة، أفقدها دعم كتل كانت رئيسية فى فوز “بايدن” فى انتخابات 2020، وعلى رأسها كتلة الناخبين الشباب الذين تقل أعمارهم عن 30 عامًا، والذين أعلنوا رفضهم لدعم بلادهم للعدوان على الفلسطينيين، وكتلة المسلمين الأمريكيين والذين تعهد زعماؤهم من ست ولايات أمريكية، بحشد مجتمعاتهم ضد إعادة انتخاب “جو بايدن”، وقد تؤدى معارضة المجتمعات المسلمة والعربية الأمريكية الكبيرة إلى تعقيد طريق الرئيس نحو الفوز بأصوات المجمع الانتخابى.
وفى السياق ذاته؛ كشفت تقارير أمريكية وجود انقسامات حادة بين أعضاء الحملة الانتخابية للرئيس “بايدن” بشأن كيفية التعاطى مع الحرب بين إسرائيل وحركة حماس؛ فالبعض يرى أن “بايدن” يحرض على هجوم غير إنسانى ضد الفلسطينيين فى قطاع غزة، بينما يرى البعض الآخر أن موقف “بايدن” المؤيد لإسرائيل يهدف بالأساس إلى إظهار الالتزام الأمريكى بحماية “تل أبيب”.
ج. تكلفة التدخل العسكرى الأمريكى فى صراعات المنطقة؛ فزيادة وجود القوات الأمريكية، قد تصاعد التوترات الإقليمية وتكلفة التدخل العسكرى الأمريكى المستمر، وبالتالى هذه الخطوة قد تفاقم الصراع الحالى دون قصد، وتدفع واشنطن نحو الانجراف إلى التزامات أمنية مفتوحة فى المنطقة، وبالتالى تحميل الولايات المتحدة عبء سياسى وأمنى ومادى كبير، وهذا عكس ما كانت تأمله واشنطن فى السنوات الأخيرة فيما يخص تواجدها بالشرق الأوسط.
كيف ستتعامل واشنطن مع تحديات الشرق الأوسط الجديدة؟
تنذر بداية العام 2024 بأنه لن يقل سخونة عن العام الماضى، وبأن منطقة الشرق الأوسط قد تشهد تحديات أمنية جمة على خلفية تبعات حرب غزة، ومن ثم؛ يتعين على الولايات المتحدة صياغة إستراتيجية جديدة للشرق الأوسط، تعترف فيها بأنه لم يعد بإمكانها إهمال القضية الفلسطينية، التى أثبتت الحرب الحالية بأنها محدد رئيسى ومهم فى استقرار المنطقة، ودون معالجتها؛ لن تستطع الولايات المتحدة حل قضايا أخرى فى الإقليم وعلى رأسها مستقبل العلاقات العربية الإسرائيلية، وذلك من خلال المحاور التالية:
1- فيما يخص الحرب بين إسرائيل وحماس؛ من المرجح أن تستمر واشنطن فى اتصالاتها والحفاظ على مصالحها مع شركائها من الدول العربية، وأن تتبع دبلوماسية نشطة فى الشرق الأوسط، تسعى بها إلى تسوية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتحسين صورتها فى المنطقة، وذلك من خلال:
- استمرار المبادرات الدبلوماسية الأمريكية التى تهدف إلى الانتقال من الحل العسكرى مع قطاع غزة إلى الحل الدبلوماسى، لأن التسوية السلمية للصراع والقبول العربى الإقليمى لهذه التسوية من شأنه أن يكون له تأثير أكبر وأعظم على أمن إسرائيل مقارنةً بالجهود التى تبذلها “تل أبيب” الآن ضد حماس، وبالفعل بدأت واشنطن تفعيل هذا التوجه وهذا يتضح من خلال جولة وزير الخارجية الأمريكى “أنتونى بلينكن” الحالية إلى المنطقة، والتى تشمل تركيا والأردن وقطر والإمارات والسعودية وإسرائيل، والتى تُعتبر الجولة الرابعة لبلينكن فى الشرق الأوسط منذ السابع من أكتوبر 2023.
- الضغط على إسرائيل من أجل تقديم تنازلات بشأن المساعدات التى تدخل قطاع غزة، والدعوة إلى وقفات إنسانية قصيرة للسماح بدخول إمدادات الإغاثة الإنسانية التى تشتد الحاجة إليها فى القطاع، كما ستحتاج الولايات المتحدة إلى إظهار قدرتها على العمل مع إسرائيل ومصر وغيرهما من الدول والمنظمات والحركات الفاعلة فى المنطقة، لكى تضمن وصول المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين فى غزة، وذلك لأن تخفيف المعاناة الإنسانية التى يعانى منها الفلسطينيون حاليًا، سيقلل من الضغوط السياسية والأمنية على شركاء الولايات المتحدة فى المنطقة، وذلك من شأنه أن يصب فى مصلحة السياسة الأمريكية.
- الانخراط غير المباشر فى مفاوضات الإفراج عن الأسرى لدى حماس، وذلك من خلال دعم الجهود المصرية والقطرية من أجل التوصل إلى اتفاق ثانى يسمح بوقف إطلاق النار فى القطاع والإفراج عن عدد من الأسرى الفلسطينيين، مقابل الإفراج الجزئى عن بعض الرهائن لدى حماس.
- الإصرار الأمريكى على موقفها بشأن رفض التهجير القسرى للفلسطينيين، وإعادة احتلال إسرائيل لغزة مجددًا، وتقليص مساحة القطاع وحصاره، لأنه إذا انتهت الحرب بتجدد الاحتلال الإسرائيلى لغزة وتوسيع المستوطنات فى الضفة الغربية، ستواجه الولايات المتحدة رياحًا معاكسة تضر بمصالحها وعلاقاتها الإقليمية فى الشرق الأوسط، فيما ستستفيد إيران ووكلاؤها من هذا الاستقطاب وستكتسب المزيد من الأتباع والنفوذ، أما إذا أعقبت الحرب جهود سلام قوية بقيادة الولايات المتحدة، وبالتنسيق مع لاعبين إقليميين رئيسيين، فقد تتحول المنطقة فى اتجاه أكثر إيجابية، وذلك على حساب طهران وأذرعها.
وقد تتجه الولايات المتحدة إلى تبنى هذا التوجه خلال الفترة المقبلة فى ضوء مجموعة من المعطيات؛ منها: التزام الولايات المتحدة بالحفاظ على أمن إسرائيل، الانشغال الأمريكى بإدارة الصراع غير المباشر مع روسيا من خلال الحرب فى أوكرانيا، والتمسك بسياسة عدم الانخراط الأمريكى فى المنطقة وضمان استقرارها.
ولكن هذا لا يعنى أن الإدارة الأمريكية ستغير موقفها المؤيد لإسرائيل، حيث إن أكثر ملف تتوافق حوله الغالبية العظمى من الحزبين الديمقراطى والجمهورى هو تأييد وجهة نظر الحكومة الإسرائيلية فى مختلف محطات صراعها مع الفلسطينيين، وذلك بدليل رفض واشنطن لقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة التى تصوت لصالح الاعتراف بحقوق الفلسطينيين وآخرها القرار الداعى إلى هدنة إنسانية فى غزة.
2- فيما يخص إيران وأطراف محور المقاومة؛ مثل حزب الله والمليشيات العراقية مثل المقاومة الإسلامية فى العراق؛ ستعمل الولايات المتحدة على استمرار التفاهمات معها بشأن قواعد الاشتباك، إذ ستكتفى إدارة بايدن بالرد بشكل معقول على التصعيد فى حين تكون الفصائل هى المبادرة، وبشكل يحافظ على منسوب تصعيد منضبط ومنخفض الشدة.
وذلك لأن الجميع يدرك مخاطر اتساع المواجهة، إذ أن واشنطن لا ترغب بساحة استنزاف جديدة بالتوازى مع الحرب فى أوكرانيا، كما أن إيران تدرك أن اندفاع حلفائها نحو توسيع رقعة المواجهة سينعكس سلبًا على المكاسب السياسية التى حققوها جراء هذه الحرب.
3- فيما يخص البحر الأحمر؛ فإن الولايات المتحدة ستسعى على ردع هجمات الحوثى لضمان حرية حركة الملاحة الدولية، مثل الهجوم الذى نفذته القوات الأمريكية يوم 31 ديسمبر الماضى والذى استهدف 3 زوارق حوثية مما أدى إلى مقتل 10 أفراد تابعين للجماعة، ولكن بشكل لا يورطها فى مواجهة عسكرية بحرية ضد الحوثيين، نظرًا لأن إدارة “بايدن” تتخوف من كسر الهدنة الهشة فى اليمن، وفتح جبهة حرب جديدة من شأنها أن تمهد لإثارة صراع أشمل فى المنطقة.
استنتاجات ختامية:
– تسعى الدول الكبرى دائمًا إلى التعامل والتكيف مع الظروف المتغيرة والاستفادة منها، ووفقًا لحسابات الربح والخسارة الأمريكية؛ فإن الولايات المتحدة فى 2024 ستظل هى اللاعب الرئيسى فى المنطقة، وستسعى لتعويض ما أصاب صورتها واستعادة مكانتها مرة أخرى.
– سياسة واشنطن تجاه إسرائيل لن تتغير مهما فعلت “تل أبيب” من مجازر وانتهاكات؛ لأن اللوبى الصهيونى متغلغل فى مراكز صناعة القرار السياسى، وله التأثير الكبير على السياسة الأمريكية الخارجية، وأكبر دليل على ذلك؛ تصريح “جو بايدن” بعد عملية طوفان الأقصى “ولو لم توجد إسرائيل لأوجدناها”، وهذا يؤكد التوجه الثابت لكل الأحزاب الأمريكية من كل الاتجاهات، فيما يخص دعم إسرائيل وحمايتها.
– من أهم تداعيات الحرب الحالية؛ هو تأكيد أهمية العودة إلى صيغة الأرض مقابل السلام من أجل الوصول إلى سلام قابل للاستدامة مجددًا، أما معادلة “بنيامين نيتانياهو” الداعية إلى السلام مقابل السلام، فهى السبب فى احتدام الأوضاع الحالية فى الشرق الأوسط.
– الولايات المتحدة مقبلة على انتخابات رئاسية قد تغير من جميع الحسابات، حيث إن تغيير الرئيس الأمريكى “جو بايدن”، وعودة الرئيس السابق “دونالد ترامب”، سيؤديان إلى كثير من التغيرات الكبرى فى سياسة واشنطن تجاه الدول الأوروبية والحرب (الروسية – الأوكرانية) والعلاقات مع الصين والهند والشرق الأوسط.
– الرئيس المقبل جمهوريًا كان أو ديمقراطيًا؛ سيتعامل مع منظومة المصالح الكبرى للولايات المتحدة فى العالم بصرف النظر عن التكلفة التى تدفعها السياسة الأمريكية للحفاظ على مصالحها الكبرى فى العالم، والتى ستحدد أولويات ومهام السياسة الأمريكية، وفق مبدأ التكلفة والعائد.