إعداد: أحمد محمد فهمى
باحث متخصص فى الشؤون التركية والإقليمية
تتجه أنظار الشعب التركى باهتمام بالغ نحو الانتخابات البلدية المقررة فى شهر مارس المقبل، حيث تشكل المحطة الثالثة والأخيرة فى مسار الاستحقاقات الانتخابية، بعد إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية فى مايو الماضي، وتُعَدُّ هذه الانتخابات اختبارًا ذا أهمية بالغة للأحزاب السياسية، وبشكل خاص بالنسبة لحزب العدالة والتنمية الذى يتطلع لتعويض خسارته فى انتخابات البلديات عام 2019، كما تأتى هذه الانتخابات فى ظل تحديات سياسية واقتصادية تواجه البلاد، والتى قد تلعب دورًا محوريًا فى تحديد مسار الانتخابات ونتائجها.
وتستمد هذه الانتخابات أهميتها من رغبة حزب العدالة والتنمية فى استعادة المدن الكبرى وخاصة إسطنبول وأنقرة، التى تخضع حاليًا لإدارة حزب الشعب الجمهورى، أبرز أحزاب المعارضة، ويعتبر تحقيق هذا الهدف تحديًا حقيقيًا للحزب الحاكم، وفى حال نجاحه، سيعزز مكانته فى المشهد السياسى التركى.
ويعكس الزخم الواسع الذى يحيط بانعقاد الانتخابات البلدية توقعات الشعب التركى وحماسه للمشاركة فى عملية اختيار ممثليهم على الساحة المحلية، وستكون هذه الانتخابات فرصة لتحديد اتجاه المستقبل السياسى والاقتصادى لتركيا، وقد يترتب عليها تأثيرات كبيرة على المستوى الوطنى والدولى.
استعدادات حزب العدالة والتنمية:
على الرغم من حصول حزب العدالة والتنمية، بالتحالف مع حزب الحركة القومية، على الأغلبية فى الانتخابات البلدية الماضية، إلا أن خسارة البلديات الكبرى، وعلى رأسها بلديتى إسطنبول وأنقرة، كانت ضربة قوية لهذا التحالف. وعليه، فإن هناك مجموعة من الاستعدادات التى اتخذها التحالف فى إطار هدفه المتمثل فى الاستمرار فى تحقيق الأغلبية مع انتزاع تلك البلديات من قبضة المعارضة، والتى فى مجملها تمثل دعاية لقدرات الحكومة ونجاحاتها على الصعيد الداخلى فى مواجهة التحديات وكذلك تعاطيها الفعال مع المطالب الداخلية، والتى من أبرزها ما يلى:
١- التفاعل بخطط واضحة مع دروس الانتخابات العامة:
بعد فوز حزب العدالة والتنمية فى الانتخابات العامة فى مايو الماضى، وخاصة فى الانتخابات الرئاسية والتى شهدت للمرة الأولى فى التاريخ التركى دخولها لجولة ثانية، استطاع أن يتفهم تطلعات ومتطلبات الشعب التركى، والتى يمكن تلخيصها فى تذمره من السياسة الاقتصادية التى أدت إلى تدهور العملة الوطنية والارتفاع الكبير فى معدلات التضخم، أيضًا تعاطفه مع الخطاب اليمينى المتطرف الذى يناهض وجود اللاجئين فى تركيا، بعد سلسلة من الحملات الدعائية المعارضة لاستمرار وجودهم فى البلاد، وعن ضرورة قيام الدولة التركية بإعادتهم إلى بلادهم، بعدما تم الترويج بأنهم أحد الأسباب الجوهرية فى تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وغيرها.
واستطاع “أردوغان” أن يتفهم تلك المطالب، ويعى تلك الدروس والتى تمثل ردود فعل على سياساته الداخلية، وعكس ذلك بوضوح فى تشكيل حكومته الجديدة وأولويات أجندتها، منها إعادة الوزير السابق “محمد شيمشك” إلى منصبه كوزير للمالية بهدف إصلاح الاقتصاد التركى بعد سلسلة من القرارت الخاطئة، والذى كان اقتصادًا صادعًا فى مرحلة ما قبل تحول السياسات التركية من “تصفير المشكلات” إلى “إثارة المشكلات”، بالإضافة إلى ذلك تم التسريع فى إعادة توطين اللاجئين السوريين فى بلادهم، على ضوء الدعوات التركية – والتى انطلقت بداية من صفوف المعارضة – فى إصلاح العلاقات مع دمشق.
بالتالى، وفى سبيل إعادة تصحيح السياسات وبين نجاحات مرضية وأخرى منقوصة، استطاع حزب العدالة والتنمية إقناع الشعب التركى من جديد بقدرته على تصحيح الأوضاع السابقة، فى مقابل معارضة مشتتة لديها برامج دعائية فقط، وقائمة على انتقاد الحزب الحاكم وسياساته دون تقديم بدائل سياسية وإستراتيجية واضحة.
٢- تطور الأداء الأمنى فى مكافحة الإرهاب:
تُجسد كافة التصريحات الحكومية، بأن تركيا “تشهد أنجح فترات تاريخها فى مكافحة الإرهاب” حسب تصريح وزير الدفاع يشار جولر، من خلال استمرار مهام القوات الأمنية والعسكرية بمكافحة الإرهاب وتعقب عناصر التنظيمات الكردية المسلحة فى داخل البلاد وكذلك فى دول الجوار من جانب، وكذلك تعقب عناصر تنظيم “داعش” الإهابى من جانب آخر.
كما أوضحت وزارة الداخلية، أنه فى عام ٢٠٢٣ خلال الفترة من ١ يناير إلى ١ نوفمبر تم تحييد ٧٢١ إرهابيًا، بينهم ٨٤ قتيلًا، خلال ١٩ ألفًا و٧٥٦ عملية أمنية، كما تم الاستحواذ على أرشيف يحتوى على بيانات شخصية لأكثر من ٩٥٠٠ عنصر من تنظيم “داعش” وهو ما ساعد فى مهاجمة أماكن خلايا التنظيم واعتقال عناصره وكشف مخططاته.
وتهدف هذه الخطوات فى مجملها على الصعيد الداخلى فى تجفيف منابع الإرهاب وضمان عدم القيام بعمليات إرهابية داخل المدن التركية خاصة المدن الكبرى، فباستثناء الهجوم الإرهابى الذى وقع أمام مديرية الأمن التابعة لوزارة الداخلية فى العاصمة أنقرة العام الماضى، لا يوجد اعتداءات إرهابية كبيرة تستهدف الداخل التركى.
٣- إعادة إعمار مدن الزلازل:
بعد الزلزال المدمر الذى ضرب جنوب تركيا منذ عام تقريبًا، كان هناك توقع أن يؤثر ذلك على الكتلة التصويتية الكبيرة لمدن الجنوب التركى ذات الأغلبية المحافظة تجاه حزب العدالة والتنمية فى الانتخابات العامة الماضية، خاصة بعد الكشف عن قضايا فساد تعلقت ببعض مقاولى الإنشاءات فى المناطق الأكثر تضررًا من الزلزال، لكن المفاجأة كانت أن ناخبى معظم المناطق المنكوبة قد صوتوا لصالح مرشحى الحزب.
وبعد تعهد من الحكومة بإعادة الإعمار، نجحت آلة التنمية فى إنجاز مشروعات إعادة الإعمار لتلك المدن، وإعادة تسكين المتضريين من الزلزال بها، وهو ما تم إنجازه بشكل كبير ليضاف إلى ملف نجاحات الحزب الحاكم فى التعامل مع هذا التحدى، وسرعة الإنجاز والتأهيل.
٤- ترحيل المهاجرين غير الشرعيين:
كانت المدن الكبرى، وخاصة إسطنبول، تعانى من زيادة كبيرة فى عدد المهاجرين غير الشرعيين، وهم الأشخاص الذين دخلوا تركيا بطرق غير قانونية، أو الذين فضلوا البقاء فى البلاد على الرغم من انتهاء تأشيرات إقامتهم، أو العاملين دون تصاريح، وهذا ما شكل نواة لحملات الدعاية ضد حزب العدالة والتنمية من قبل الأحزاب المعارضة.
لذا، ومن خلال التعهد الذى قدمه وزير الداخلية “يرلى كايا” بإنهاء وجود المهاجرين غير الشرعيين فى المدن التركية، أطلقت الشرطة حملات أمنية – خاصة فى المدن الكبرى – بهدف تقليل عدد المهاجرين بشكل عام وترحيل جزء من اللاجئين السوريين الذين يخالفون الإجراءات المفروضة من قبل إدارة الهجرة إلى مناطق شمال سوريا.
ما هى فرص حزب العدالة والتنمية؟
هناك مجموعة من العوامل تعزز من فرص الحزب لتحقيق الأغلبية فى انتخابات البلدية – وإن كان هذا متوقعًا بشكل كبير – مع توقعات نسبية بحصد ولايتى أنقرة وإسطنبول، ومن بين تلك الفرص البارزة:
١- تشتت وتفكك المعارضة:
لا تزال المعارضة تعانى من تداعيات الانتخابات السابقة وفشل زعيم حزب الشعب الجمهورى “كمال كليتشدار أوغلو” فى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، على الرغم من الحملات الداعمة والفرص التى كانت متاحة له، لكن حتى بعد الإطاحة بــ”كليتشدار أوغلو” وتعيين “أوزجور أوزيل” رئيسًا جديدًا للحزب، فإن الأخير فشل فى توحيد أحزاب المعارضة ضمن تحالف جديد، والدخول فى الانتخابات البلدية القادمة على غرار التحالف الذى دخل الانتخابات فى 2019 وحقق نجاحات بارزة، مما ينعكس على استعدادات وقوة المعارضة فى الانتخابات البلدية القادمة.
٢- خفوت فى الدعاية المتطرفة:
هناك مؤشرات واضحة تشير إلى تراجع وضعف فى قدرات الأحزاب اليمينية المتطرفة، وهو أحد النتائج المترتبة على نجاح حزب العدالة والتنمية، سواء فى الانتخابات العامة الأخيرة أو فى التعامل مع المشكلات والأزمات الداخلية، كما يعود هذا التراجع إلى عدم امتلاك هذه الأحزاب برامج شاملة على الصعيدين الداخلى والخارجى، باستثناء بناء برامجها الحزبية على الكراهية والعنصرية، والتى استطاعت من خلالها الحصول على نسبة تصويت ٥،١٧٪ فى الانتخابات الرئاسية الماضية، أى أقل من ثلاثة ملايين صوت، وهو ما يشير إلى الشعبية التى حققتها الدعاية اليمينية آنذاك.
كما أنه ومع بروز أزمة إلغاء مباراة كأس السوبر فى الرياض، وما تبع ذلك من حملات دعائية عنصرية موجهة للعرب بشكل عام وللمملكة العربية السعودية بشكل خاص، فإن الأجهزة الرسمية عندما كشفت عن الادعاءات والحملات الموجهة من خلال شبكات التواصل الاجتماعى، التى استهدفت إثارة الشعب التركى وعواطفه الوطنية ضد العرب، ولم تستمر هذه الأزمة طويلًا وانتهت بشكل يشير إلى تراجع واضح فى مصداقية وقوة دعاية تلك الأحزاب وأنصارها على الشعب التركى.
٣- تصميم أردوغان لاستعادة الولايات الكبرى:
مثلت خسارة بلدية إسطنبول فى انتخابات ٢٠١٩، ضربة قاسية لأردوغان، والتى لم تخرج من يديه منذ ١٩٩٤ حتى ٢٠١٩، وحتى عند خسارة مرشحه “بن على يلدرم” ألغت الحكومة النتائج وأعادتها، ولكنها خسرتها أيضًا مرة أخرى للمرة الثانية بفارق أكبر، وهو ما شكل دافعًا لأردوغان للتخطيط بكل عزم وإرادة لاستعادتها من جديد، لما تمثله من مكانة مهمة له ولحزبه، وهو ما أكده فى اجتماع لرؤساء فروع حزب العدالة والتنمية نهاية نوفمبر المنصرم، بأن الهدف الرئيسى للحزب، هو استعادة إسطنبول، وأنقرة.
٤- مرشح حزب العدالة والتنمية لبلدية إسطنبول:
فى مؤتمر جماهيرى للإعلان عن مرشحى الحزب لانتخابات البلدية، أعلن الرئيس أردوغان ترشيح وزير البيئة والتطوير العمرانى السابق “مراد قوروم”، والمعروف بنجاحاته البارزة فى مجال إعادة الإعمار، بما فى ذلك إعادة إعمار مناطق الزلزال فى جنوب تركيا، ومن بين أحد جوانب ترشيح هذه الشخصية الناجحة تأتى دعاية الحزب على دوره فى حال نجاحه فى الانتخابات إلى إعادة تأهيل بلدية إسطنبول، التى أصبحت تحتاج إلى تأهيل وتخطيط، وفقًا لترويج حزب العدالة والتنمية، كما تعهد “قوروم” بإعادة المدينة إلى مجدها السابق بعد سنوات من إدارتها من قبل المعارضة.
٥- لغة العمل والإنجاز:
تُعتبر هذه اللغة هى إحدى أبرز المبادئ لحزب العدالة والتنمية فى مواجهة التحديات والأزمات، فعلى غرار أزمة الزلزال المدمر فى فبراير الماضى، عملت الحكومة بشكل سريع فى إعادة إعمار مناطق الزلزال، وأنجزت هذا الملف بشكل يبرز قدرات الحكومة وسرعة إنجازها.
فى المقابل، يُعتبر هذا الأمر أحد أبرز نقاط الضعف لدى أحزاب المعارضة، خاصةً عند النظر فى إدارة رئيس بلدية إسطنبول “أكرم إمام أوغلو” للمشاكل التى يواجهها فى بلدية إسطنبول، وتقصيره فى أداء عمله كرئيس للبلدية مقارنةً بالاهتمام البالغ الذى يوليه لطموحاته السياسية، وبالخلافات فى حزب الشعب الجمهورى.
وختامًا:
من خلال تتبع أداء رؤساء البلديات التى يسيطر عليها حزب الشعب الجمهورى، ومن خلال تحليل النتائج السابقة للانتخابات العامة الماضية، وما تلا ذلك من تخطيط مُركز من حزب العدالة والتنمية، وأيضًا من تداعيات طالت تحالف المعارضة وأطاحت بمرشحهم الرئاسى من منصبه كرئيس لأبرز أحزاب المعارضة.
يمكن الاستشراف بأن أحد النتائج المتوقعة للانتخابات القادمة هو عودة إسطنبول من جديد إلى حزب العدالة والتنمية، لعدة اعتبارات أبرزها أن “أكرم إمام أوغلو” قد “انغمس” كثيرًا فى دهاليز السياسة العامة والانتخابات العامة الماضية والأزمات الداخلية لحزبه عوضًا على التركيز فى مهام منصبه كرئيس لإحدى أكبر البلديات التركية.
أما فى بلدية أنقرة، فإن فرص استمرار رئيسها الحالى “منصور يافاش” تعتبر عالية، نظرًا لتركيزه بشكل أعمق على القيام بواجباته تجاه البلدية بالإضافة إلى شعبيته البارزة بين مواطنى أنقرة، وهو الذى رفض سابقًا مطالب الترشيح للانتخابات الرئاسية الماضية كمرشحٍ عن تحالف المعارضة.
كما يلاحظ أن هناك تركيزًا كبيرًا وواضحًا لحزب العدالة والتنمية على استعادة بلدية إسطنبول بشكل خاص أكثر من أنقرة، فعلى الرغم من أن الأخيرة هى العاصمة وتحتضن مقرات الدولة، إلا أن إسطنبول تحمل رمزية كبيرة وعميقة لحزب العدالة والتنمية. وبالتالى، فإن التركيز عليها وإعادة السيطرة عليها يشكل هدفًا ناجحًا فى حد ذاته، قد يعوض عن خسارة أنقرة فى حالة الفشل فى استعادتها، كما يُلاحظ ذلك أيضًا من خلال تركيز أردوغان فى المرحلة الأولى لإعلان المرشحين للانتخابات البلدية، حيث أُعلن عن مرشحى الحزب فى ١١ بلدية، بما فى ذلك إسطنبول، بينما تم تأجيل مرشح بلدية أنقرة للمرحلة التالية خلال الأيام القليلة المقبلة.
لكن مهما كانت النتائج، التى لن تخرج عن أغلبية لحزب العدالة والتنمية، ينتظر الأتراك عقد هذه الانتخابات وإغلاق هذا الملف، للتركيز على جانب هام فى رؤية “قرن تركيا” التى أطلقها أردوغان، وهى الدعوة لكتابة دستور جديد للبلاد يتناسب مع المئوية الثانية للجمهورية التركية، بدلًا من الدستور الحالى الذى وضع بعد انقلاب عام ١٩٨٢.