إعداد: مصطفى مقلد
مقدمة:
وضعت الصين هدف الوصول إلى ذروة انبعاثات الكربون بحلول عام 2030 والحياد الكربونى بحلول عام 2060، ودعت جميع البلدان إلى الالتزام بالتنمية الخضراء المبتكرة، وبالفعل استثمرت الصين بصورة ضخمة فى الطاقة الخضراء، وأصبحت بشكل سريع فاعل مهم على مستوى العالم فى مجال توليد الطاقة المتجددة والتحول الأخضر، وقد أدى ذلك إلى أن تصبح الصين حلقة مهمة فى سلاسل توريد الطاقة الخضراء العالمية، مما يمنح البلاد نفوذًا هائلًا على أسواق الطاقة العالمية مستقبلًا.
كانت الصين مسؤولة عن ما يقرب من نصف الاستثمار العالمى فى الطاقة النظيفة فى عام 2022، حيث استثمرت 546 مليار دولار أمريكى، واستثمر الاتحاد الأوروبى، باعتباره ثانى أكبر منفق على الطاقة النظيفة، 180 مليار دولار أمريكى، وتتوفر لدى الصين وفرة من المواد الخام الأساسية لإنتاج ألواح الطاقة الشمسية، وفى مقابل ذلك، فإن غالبية واردات أوروبا من الأتربة النادرة -التى لا تنتجها بنفسها والتى تحتاجها كمواد أولية لإنتاج وصناعة أدوات التحول الأخضر بما يشمل ألواح الطاقة الشمسية- جاءت من الصين فى عام 2021.
وفى هذا السياق، أوضح “بوب وارد”، مدير السياسات والاتصالات فى معهد “غرانثام” للأبحاث فى كلية لندن للاقتصاد أن الصين تعترف بالتحول الأخضر باعتباره سباقًا، فكما هو الحال مع تحولات الطاقة السابقة، فإن التحول الأخضر يسهم فى إعادة تشكيل توازن القوى العالمى وتغيير خريطة الطاقة العالمية، وتخلق مسارات وسلاسل توريد جديدة وتوفر فرص للهيمنة على المجالات التكنولوجية والاقتصادية والمجالات ذات الصلة، بالتالى تعمل على خلق تبعيات جديدة.
تنافس مزدوج:
المعادن -خاصة النادرة- مكون أساسى لعملية التحول الأخضر وللقطاعات الإستراتيجية مثل الدفاع والفضاء، وهى أيضًا مكونات مهمة للهواتف الذكية وأجهزة التلفزيون وأجهزة الكمبيوتر، وهذا ما يفسر الاندفاع العالمى على المعادن، وتهيمن عشر دول على تعدين المواد الخام المهمة، أهمهم الصين وروسيا وتشيلى وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وفى حين حظر الاتحاد الأوروبى النفط والفحم الروسيين، فإن واردات المواد الخام بالغة الأهمية ما زالت مستمرة، فقد اشترى الاتحاد الأوروبى ما قيمته 13.7 مليار يورو من المواد الخام الحيوية من روسيا بعد الهجوم على أوكرانيا حتى يوليو 2023، وتدير الصين أكثر من 70% من عمليات استخراج العناصر الأرضية النادرة و50% من عمليات معالجة الجرافيت (الطبيعى) والكوبالت والليثيوم والمنجنيز على مستوى العالم، وهو ما قد يخلق أزمة جيواقتصادية تهدد أوروبا، ويهدف قانون “المواد الخام الحرجة” الذى دفعت به المفوضية الأوروبية “للحد” من تلك التبعية بحلول عام 2030.
وتقوم الصين بنقل التصنيع الأخضر إلى الخارج للتخفيف من المخاطر الجيوسياسية، فضلًا عن خلق فرص وتخطى المخاطر التى تخلقها البلدان على طول سلاسل التوريد بما فى ذلك مواجهة إستراتيجيات “إزالة المخاطر” الأمريكية/الأوروبية، حيث:
فى الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2021، أعلنت الصين أنها ستتوقف عن بناء محطات جديدة للفحم فى الخارج وستكثف بدلًا من ذلك الاستثمار فى الطاقة المتجددة، وهو التزام أكده الرئيس “شى جين بينغ” فى قمة مبادرة الحزام والطريق الأخيرة فى أكتوبر 2023، ويحقق التمدد عالميًا، ضمن مبادرة “الحزام والطريق الأخضر”، شبكة نفوذ من خلال نقل الخبرات الهندسية والبناء وشراء المعدات اللازمة فى شبكة واسعة من مشروعات الطاقة النظيفة والمتجددة، والإسراع فى إنهاء أزمة اعتمادها على سلاسل توريد النفط والغاز التى لا تقع تحت سيطرتها المباشرة وتمثل تهديدًا حقيقيًا لأمن الطاقة الصينى، وبجانب ذلك، ممارسة دور مركزى فى صياغة القوانين والقواعد العالمية الحاكمة لتحول الطاقة العالمى بما يتناسب مع مصالحها، وتحقيق مكاسب اقتصادية واستثمارية للقطاعين الحكومى والخاص فى الصين.
ويعتمد ذلك على زيادة الطلب على الطاقة المتجددة وبيئة الاستثمار فى الدول الأعضاء فى المبادرة الساعين للوصول إلى أهدافهم الوطنية لتقليل انبعاثات الكربون، وعلى الظروف الاقتصادية العالمية والانتعاش الاقتصادى الصينى.
من ناحية أخرى، تسعى الشركات المتعددة الجنسيات إلى خفض المخاطر فى سلاسل التوريد الخاصة بها وتقليل الاعتماد المفرط على أى موقع إقليمى واحد، وخاصة الصين، حيث تتبنى الشركات إستراتيجيات “الصين زائد واحد”، فتنويع سلاسل التوريد الخاصة بها إلى مواقع مثل الهند وفيتنام للتخفيف من الاضطرابات الناجمة عن التحديات المرتبطة بفيروس كورونا والتوترات الجيوسياسية، وأصبح هذا الاتجاه المتنامى يُعرف باسم “إزالة المخاطر”، مما يشير إلى التحرك نحو تعزيز مرونة سلسلة التوريد، بدلًا من الانفصال الكامل عن الصين، المعروف باسم “الانفصال”.
من جانبها، تتعامل الصين مع تلك التوجهات الجديدة، حيث كانت القوة الدافعة الأولية وراء خروج سلاسل التوريد من الصين هى ارتفاع تكاليف العمالة فى الصين، وخاصة فى الصناعات كثيفة العمالة مثل المنسوجات. ومع ذلك، بدأت العوامل الجيوسياسية تلعب دورًا أكثر وضوحًا منذ عام 2018، مع فرض الرئيس الأمريكى السابق ترامب رسومًا جمركية على الصادرات الصينية وتزايد المخاوف بشأن الصراعات الجيوسياسية المتعلقة بتايوان وبحر الصين الجنوبى، ما وضع ضرورة إضافية تتمثل فى “إزالة المخاطر” عن سلاسل التوريد.
ويتطور الدور الذى تلعبه الصين فى سلاسل التوريد العالمية، وهو ما من شأنه أن يتيح عملية إعادة التشكيل لصالحها من خلال زيادة الصادرات والاستثمارات الصينية، كما أن الشركات الصينية تحاول التكيف من خلال نقل عملياتها وتحسينها، مما يقلل التكاليف، وبطبيعة الحال، بالنسبة لبعض السلع المرتبطة بتحول الطاقة، وخاصة تلك التى تنطوى على معالجة أتربة نادرة، فمثلًا التعريفات الجمركية على الألواح الشمسية الصينية التى يعود تاريخها إلى ما قبل رئاسة ترامب، جعلت منذ فترة طويلة الصادرات المباشرة للألواح الشمسية الصينية إلى الولايات المتحدة باهظة التكلفة، لكن سوق الطاقة الشمسية فى الولايات المتحدة كانت مربحة بحيث لا يمكن للشركات الصينية أن تتجاهلها، وللتغلب على التعريفات الجمركية، قامت شركات تصنيع الطاقة الشمسية الصينية ببناء مصانع فى جنوب شرق آسيا.
تعيد الثورة الصناعية الخضراء تشكيل الترتيبات والتحالفات الحالية والفرص فى النقاط الجيوسياسية الساخنة الرئيسية، مثل الشرق الأوسط، حيث:
حتى سبتمبر الماضى، وقعت الصين 48 مذكرة تفاهم بشأن التعاون فيما بين بلدان الجنوب بشأن تغير المناخ، وتعاونت فى بناء 4 مناطق تجريبية منخفضة الكربون، وأطلقت 75 مشروعًا للتخفيف من تغير المناخ والتكيف معه، وعلى مدى السنوات العشر الماضية، تركزت استثمارات الصين الخارجية فى مجال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بشكل كبير فى أربع دول فى الشرق الأوسط: الإمارات العربية المتحدة وتركيا والمملكة العربية السعودية وعمان.
وعلى هذه الخلفية، من المتوقع أن تنمو الاستثمارات الصينية الحالية فى المنطقة بشكل أكبر، وتعد المملكة العربية السعودية أكبر متلق للاستثمارات الصينية بين دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ووفقًا لولى العهد السعودى، فإن المملكة تسعى لتبنى إستراتيجية تحول طاقة متوازنة وواقعية مبنيَّة على تجنُّب تفاقم التضخم، والبطالة، والمشكلات الاجتماعية والأمنية، واستمرار الاستثمار فى مصادر الطاقة التقليدية بالتزامن مع تشجيع تطوير تكنولوجيات الطاقة النظيفة.
ويُشير التعثُّر فى التعافى الذى يشهده الاقتصاد الصينى حاليًا إلى استمرار الطلب الصينى على النفط والغاز فى المدى القصير، ويمنح ذلك دول الخليج المنتجة للنفط المزيد من اليقين بشأن تعاونها مع الصين فى مجال الطاقة، ومحاولة خلق “حالة اتساق” بين مصالح الجانبين حول الاستثمار فى إدارة عملية تحول تدريجية لا تستبعد النفط والغاز بشكل كامل، وتتوافق مع خطط الحياد الكربونى العربية، وتعزز هذه الاستثمارات التكامل فى رؤى الجانبين حول تحول الطاقة، لكنها تدعم كذلك تحول منطقة الشرق الأوسط إلى لاعب عالمى فى مجال الطاقة المستقبلية، وهو ما يتوافق مع مصالح الصين التى تركز على بناء الشراكات مع دول الجنوب العالمى، وخلق منظومة اعتماد متبادل معها فى مجال الطاقة.