“تطلعات” لتكريس النفوذ المصرى فى البحر الأحمر

إعداد: مصطفى مقلد

مقدمة:

مضت إثيوبيا للبحث عن منفذ بحرى جديد لها على البحر الأحمر، وظهر ذلك خلال الخطاب الذى ألقاه رئيس الوزراء الإثيوبى ببرلمان بلاده فى أكتوبر الماضى، ما أثار موجة غضب فى كل من إريتريا والصومال وكذلك جيبوتى التى كانت قد وقعت اتفاقية دفاع مشترك مع إثيوبيا، وزادت تلك الخطوة من تدهور العلاقات بين إثيوبيا وإرتريا الذى بدأ عقب توقيع اتفاق “بريتوريا” للسلام بين الحكومة المركزية فى أديس أبابا وجبهة تحرير شعب تيغراى فى نوفمبر 2022، إذ إنه على رغم تحالفهما كان لكل طرف منهما أهداف مختلفة عن الآخر لشن الحرب أو المشاركة فيها، ومن ثم تباينت مواقفهما فى شأن كيفية إنهاء الحرب.

وجاءت الخطوة الإثيوبية لتقطع جهود استعادة الاستقرار داخل الصومال، حيث اتفق الرئيس الصومالى “حسن شيخ محمود”، ورئيس إدارة أرض الصومال “موسى بيهى”، على استئناف المفاوضات السياسية للوصول إلى حل دائم تحت رعاية رئيس جمهورية جيبوتى “إسماعيل عمر غيلى”، كما اتفق الطرفان على أن ينفذا الاتفاقات التى تم التوصل إليها فى المفاوضات السابقة بشكل مشترك.

وبذلك نكون أمام مشهد جديد فى منطقة القرن الإفريقى، تسعى فيه إثيوبيا – غير عابئة بالاستقرار الإقليمى أو القانون الدولى- للوصول للبحر الأحمر وزيادة نفوذها الإقليمى على حساب جيرانها، وهو ما تتحسب له مصر وتدعو لأن يكون تحقيق المصالح وفق رؤى تراعى مصالح الآخرين، وهو ما ظهر أيضًا فى موقف مصر للتأكيد على وحدة وسلامة أراضى الصومال.

وأمام تلك التطورات التى كان أبرزها الدعم المصرى الكامل للصومال، تحدث رئيس الوزراء الإثيوبى عن “الصداقة” الدائمة القائمة مع الصومال، ويبدو “أن آبى أحمد” قد أطلق بذلك محاولة للفصل بين نزاعى – سد النهضة والاتفاق البحرى مع أرض الصومال – لتجنب الوضع الذى قد تجد فيه مصر والصومال أرضية مشتركة فى معارضتهما لسياسات إثيوبيا الإحادية، ومن الممكن أن يؤدى مثل هذا التحالف إلى تضخيم الضغوط على أديس أبابا، مما يجعل الوضع الإقليمى أكثر خطورة.

وعليه، تشجع تلك التطورات مصر لتدشين إستراتيجية جديدة تكرس لنفوذ مصرى من خلال التعاون مع دول “الصومال، جيبوتى، إرتريا” تستهدف إبقاء اعتماد إثيوبيا على موانئ جيبوتى وإرتريا، وإحياء المفاوضات السياسية بين الصومال وأرض الصومال، بجانب تعزيز الروابط المصرية مع الدول الثلاث انطلاقًا من حاجتهم لتسريع التنمية وإجابة متطلبات أساسية كالدواء.

إمكانية وساطة مصرية؟

مع صعود “محمد عبد الله فرماجو” للسلطة فى الصومال اتخذ مواقف مقاربة لتركيا التى كانت مصر فى خصومة معاها آنذاك، واقتربت أكثر لإثيوبيا، لذا تحول موقف القاهرة الذى كان أقرب لمقديشيو، إلى العمل على تدفئة العلاقات مع “بلاد بونت” التى زارها وزير التعليم المصرى فى نوفمبر 2019، وأرض الصومال التى زارها وفد مصرى رفيع فى يوليو 2020، بحث مع المسؤولين هناك التجارة الثنائية والاستثمارات فى مجال الثروة السمكية والحيوانية.

ومن المفارقات أن إثيوبيا كانت الحليف الأقوى لأرض الصومال طوال عقود، ضمن إستراتيجية أديس أبابا لإضعاف الصومال، وللاستفادة منها كمنفذ بحرى لإثيوبيا الحبيسة، ومع وصول “آبى أحمد” إلى سدة الحكم فى إثيوبيا 2018، تغيرت أولويات أديس أبابا فى الصومال، حيث انتهجت إستراتيجية جديدة تعتمد على التحالف مع “أسمرة ومقديشو”، وأمام تخوف “هرجيسا” من خطر فقدان حليفها الوشيك، قامت بمناورة دبلوماسية من خلال التجاوب مع القاهرة المستاءة من تأييد مقديشو لموقف أديس فى ملف سد النهضة، ما دفع إثيوبيا إلى العودة للشراكة مع “هرجيسا” لقطع الطريق على مصر، وبالمقابل عاد “حسن شيخ محمود” للحكم فى الصومال مجددًا ليعيد العلاقات مع مصر لسابق عهدها.

ومن خلال علاقات مصر مع الأطراف المركزية والانفصالية فى الصومال، فإن الفرصة قد تسمح لها لتهدئة التوترات مع أرض الصومال وتقديم الإغراءات لها فى سياق العودة لطاولة المفاوضات مع الحكومة المركزية خاصة وأن الإقليم ليس ببعيد عن الاضطرابات حيث:

يعد المكون العشائرى فى أرض الصومال النواة المكونة للنظام السياسى للكيان، فيتكون من شيوخ القبائل الذين وضعوا ميثاقًا للصلح بين القبائل الموجودة فى أرض الصومال لتقرير مصيرها بعد حرب أهلية بين العشائر انتهت عام 1991، وتم جمع أكبر قدر ممكن من قيادات العشائر المحلية، للتوصل إلى ميثاق وطنى يمهد الطريق لكتابة دستور وبناء نظام سياسى، إلا أن تلك الخطوة لم تخلُ من تناقضات، حيث استأثرت بعض القبائل بالحصص السيادية
فى النظام الرسمى، بينما هُمشت أخرى.

وتعد عشيرتا “طولبهنتى وورسنجلى” المكون البشرى الرئيس فى المناطق الشرقية، والتى لها خصوصية ديمغرافية وقبلية، وتأخذ اتجاهات تصعيدية باتجاه القطيعة مع أرض الصومال، آخرها المناوشات المسلحة التى تفجرت مطلع عام 2023، وذلك لاعتماد إدارة أرض الصومال على القبضة الأمنية والعسكرية لإخضاع الأقاليم دون وجود تسوية سياسية تحقق مطالب العشيرتين وتفرز محاصصة عشائرية جديدة لتقاسم السلطة مع بقية القبائل فى الإقليم، وهو ما يمكن أن يستمر فى إثارة أزمات أمنية وسياسية.

“القطاع الطبى” رأس حربة لنفوذ مصرى جديد:

أطلقت مصر مبادرة “دعم القطاع الصحى بإفريقيا”، التى انطلقت فى سبتمبر 2019، للكشف عن فيروس “سى”، كما قدمت القاهرة القوافل الطبية لقياس حدة الإبصار بجنوب السودان ووادى حلفا السودانية، فضلًا عن إرسال نفس القوافل إلى الدولة الإريترية، بجانب ذلك أطلقت مبادرات “المعرض والمؤتمر الإفريقى الطبى” بنسختيه الأولى والثانية والذى يأتى تحت عنوان “صحة إفريقيا”، وطبقًا لبيانات منظمة الصحة العالمية فإن أكثر من نصف سكان إفريقيا لا يتمتعون بإمكانية الوصول الكامل إلى الأدوية الأساسية، وتظل معظم الدول لديها إنتاج منخفض من الأدوية الأساسية، ولذلك هناك كثير من الدول تعانى من نقص الأدوية فى المستشفيات والصيدليات.

فى المقابل، فإن صناعة الدواء علامة مضيئة فى الاقتصاد المصرى، حتى وإن كانت تواجه تحديات، حيث تخطو مصر خطوات متسارعة لتكون فى مقدمة سوق الدواء، فى تصنيع المواد الخام وخفض أسعار الدواء وتكلفة الإنتاج مقارنة بالدواء المستورد، لتحقيق الاكتفاء الذاتى الكامل وخفض فاتورة الاستيراد، كما تُعَدّ مصر سوقًا واعدة باعتبارها أكبر منتج ومستهلك للأدوية فى الشرق الأوسط وإفريقيا، وباتت وجهة لاستثمارات القطاع، وقد دشنت مصر مدينة الدواء عام 2021 لتعويض النقص فى بعض الأصناف وتوفيرها بأسعار مناسبة تلبى الاحتياجات المحلية، ومن ثم التحول إلى مركز إقليمى للتصنيع، خاصة أنها أكبر مدينة لتصنيع الأدوية فى الشرق الأوسط، وذلك من خلال تعاونها مع الشركات الدولية، وفتح آفاق التصدير إلى الخارج.

وفى نفس السياق، فإن مجموعة “فاركو” المصرية للأدوية بدأت إنشاء مدينة لإنتاج الأدوية
فى المدينة المنورة بالسعودية باستثمارات تبلغ نحو 150 مليون دولار، بعد إسناد أعمال المقاولات والإنشاءات إلى شركة المقاولون العرب المصرية، كذلك وقعت “إيفا فارما” المصرية اتفاقًا لبناء مجمع تصنيع أدوية فى السعودية باستثمارات 133 مليون دولار، وتستهدف الشركة المصرية إطلاق أكثر من 150 منتجًا دوائيًا وسيبدأ الإنتاج فى 2025، ويشمل المجمع مركزًا للبحث والتطوير، وخمسة مصانع دوائية.

ونتيجة لتصاعد الأحداث الجيوسياسية فى الشرق الأوسط، وعسكرة البحر الأحمر واتساع التحديات فى المنطقة، بعد الضربات الأمريكية والبريطانية، ردًا على هجمات الحوثيين على السفن فى باب المندب، فقد انعكست الظروف الاقتصادية على أداء شركات الأدوية بشكل عام فى مصر حيث يقف قطاع المواد الخام الكيماوية والصيدلانية فى مصر كأحد ضحايا اضطرابات التجارة فى البحر الأحمر، وعليه يمكن أن تستفيد مصر من ناحيتين:

  • الأولى هى تشجيع القطاع الخاص والعام على بناء مصانع الأدوية فى دول الصومال وإرتريا وجيبوتى، كأحد مسارات الاستثمار المصرى هناك، بما يعزز من الروابط الاقتصادية وربط مصالح تلك الدول بمصر.
  • الثانية هى وجود فرصة لتجنب مثل تأثير تلك الاضطرابات على صناعة الدواء، من خلال تنويع مصادر الإنتاج.

خاصة مع وجود مسعى للتغلب على تحديات التصدير للقارة السمراء، عبر إنشاء مراكز لوجستية فى الدول الإفريقية توجد بها البضائع بشكل مباشر ومستمر، مع وجود مراكز لوجستية بالفعل فى كلٍّ من لبيبا والمغرب وموريشيوس، ومركز جديد تحت الإنشاء فى جنوب إفريقيا، وهو ما يدفع القرن الإفريقى للتحول إلى منطقة ذات أولوية الفترة المقبلة.

كلمات مفتاحية