مظاهرات مُرخصة وقرار المحكمة الدستورية: أبرز تطورات الوضع الداخلى فى السنغال

إعداد: دينا لملوم

باحثة متخصصة فى الشؤون الأفريقية

فى بلد لم تغب عنه شمس الديمقراطية منذ عقود، استطاع أن يؤسس للسنغال علاقات دبلوماسية وطيدة، وحول البلاد إلى منتجع ضخم من الاستثمارات وتنمية الموارد الاقتصادية، كما أن هذا الاستثناء الديمقراطى يعد ملاذًا للسلام لم يشهد انقلابًا قط منذ حقبة الاستعمار الفرنسى، ومع ذلك جاء “ماكى سال” ليضرب بهذه المبادئ الشفافة عرض الحائط؛ لتشهد البلاد واحدة من أخطر الأزمات التى لم تعاصرها منذ أزمنة بعيدة، سبقتها بعض الاضطرابات السياسية مؤخرًا، ولكن جاءت الخطوات التى اتخذها سال لتشعل فتيل التوترات التى ما لبثت أن يهدأ صداها، والأدهى من ذلك أن تكون مقدمة لسلسلة من الاضطرابات التى قد تقحم داكار فى واقع مرير من النزاعات والخلافات كالعديد من الدول الإفريقية التى لم يهدأ لهيبها، حيث الانقلابات العسكرية والصراعات المسلحة، فما إن تنغمس دولة فى هذه البؤر حتى تستحيل إعادتها إلى ما كانت عليه.

ماذا وراء إرجاء الانتخابات الرئاسية فى السنغال؟

فى عام 2016 صدرت التعديلات الدستورية فى السنغال والتى قضت بتقليص الولاية الرئاسية إلى ولايتين فقط، ومنذ ذلك الوقت وقد أثيرت أزمة سياسية فى البلاد، على خلفية اعتراض الرئيس السنغالى “ماكى سال”، الذى أعلن عن نيته الترشح للولاية الثالثة؛ معتبرًا أن هذه الإصلاحات الدستورية جاءت بعد توليه الولاية الأولى للبلاد التى بدأت عام 2012، وبالتالى فإن نص هذه المادة لا تنطبق عليه؛ وردًا على عزم الرئيس الترشح لولاية ثالثة وتطويع نصوص الدستور لصالحه، دعت القوى السياسية المعارِضة وفى مقدمتها رئيس حزب “باستيف” “عثمان سونكو” المعتقل للنزول إلى الشارع للتصدى لطموحات سال فى الاستمرار فى الحكم.

مظاهرات مُرخصة:

لقد انطلقت التظاهرات السلمية فى العاصمة دكار السبت 17 فبراير 2024، بما يوحى بالتهدئة بعد أسبوعين من التوترات التى نجمت عن قرار تأجيل الانتخابات الرئاسية، وارتدى المتظاهرون قمصانًا سوداء تحمل اسم الجمعية التى دعت إلى التظاهر وأخرى لُونت بألوان علم السنغال، كما لوحوا بلافتات كُتب عليها “احترام الرزنامة الانتخابية”، “لا للانقلاب الدستورى”، “السنغال حرة”، وقام رجال الدرك بدوريات بمنطقة التظاهر، ولكن دون استخدام أساليب العنف لقمع الاحتجاج بخلاف التظاهرات السابقة، التى تم قمعها بوسائل عنيفة واستخدام الغاز المسيل للدموع وخلافه، بما تسبب فى عمليات قتل وعنف، فضلًا عن الاعتقالات التعسفية، هذا وقد وصفت الحشود الشعبية ماكى سال بالديكتاتور، وطالبوا بالإفراج عن عثمان سونكو -زعيم المعارضة المسجون- الذى يحظى بشعبية كبيرة بين السنغاليين.

قرار المحكمة الدستورية السنغالية:

فى الخامس عشر من فبراير الحالى أعلنت المحكمة الدستورية بالسنغال إبطال قرار تأجيل الانتخابات الرئاسية من 25 فبراير حتى 15 ديسمبر المقبل، وقضت المحكمة بعدم دستورية القانون الذى أقرته الجمعية الوطنية 5 فبراير، وقد قدم مرشحون رئاسيون ومشرعون من المعارضة حزمة من الطعون القانونية على مشروع القانون البرلمانى الذى مدد فترة حكم الرئيس، أيضًا ألغت المحكمة “مرسوم سال” الذى سمح له بتعديل الجدول الزمنى للانتخابات قبل 3 أسابيع على موعدها المقرر سلفًا، فأصبحت البلاد فى مأزق حقيقى؛ نظرًا لما أشارت إليه المحكمة باستحالة إجراء الانتخابات الرئاسية فى موعدها المقرر 25 فبراير؛ بسبب تأخر العملية بما تشمله من خطوات وإجراءات متعددة تنظم سير هذا الماراثون الانتخابى، وطالبت السلطات المختصة بضرورة إجرائها فى أقرب وقت ممكن، وعليه فقد تعهد الرئيس “ماكى سال” باستكمال هذه العملية الديمقراطية الانتقالية وتنظيم انتخابات فى أقرب فرصة ممكنة، مع تنفيذ قرار المجلس الدستورى بشكل كامل دون تلكؤ أو تأخير المشاورات اللازمة لعقد الانتخابات الرئاسية المقبلة.

مرشحون من بينهم رئيسة الحكومة السابقة:

تضم اللائحة التى وافق عليها المجلس الدستورى مرشحين لهم أصوات مرجِّحة، أبرزهم رئيسة الوزراء السابقة “أميناتا تورى” التى تحظى بعلاقات جيدة داخل صفوف الحزب الحاكم، وقد سبق واختلفت مع الرئيس “ماكى سال” عام 2022 إثر عدم ترشحيها لرئاسة البرلمان، ومن ضمن الشخصيات التى لها تأثير نسبى ووافق المجلس الدستورى على ترشيحها، الوزير الأسبق عبد الله ديون، واللافت للنظر فى هذه الانتخابات هو استبعاد زعيم المعارضة السياسى “عثمان سونكو” المودع بالسجن، والذى يحظى بشعبية كبيرة لدى الشباب السنغالى، هذا وقد تأتى الرياح بما لا يشتهى سال ويحدث انقلاب عليه إذا ما ترّفع عن تمسكه بالسلطة وأجرى الانتخابات فى أقرب وقت ممكن.

مطالبات بالإفراج عن مرشح رئاسى:

طالب أنصار “باسيرو ديوماى فاي”، مرشّح المعارضة المسجون للانتخابات الرئاسية فى السنغال، بالإفراج عنه فى أسرع وقت وفق مبدأ المساواة فى المعاملة، بعد أن ألغى المجلس الدستورى قرار الرئيس ماكى سال بتأجيل الانتخابات، وأن ذلك مطلب شعبى واحترام للدستور، كما طالبوا بضرورة الإفراج بشكل عاجل عن الرئيس “عثمان سونكو” زعيم المعارضة، الذى سبق سجنه يوليو 2023 بتهمة الدعوة إلى التمرّد والتآمر الإجرامى المرتبط بمشروع إرهابى وتعريض أمن الدولة للخطر.

الوضع الاقتصادى السنغالى فى منعطف خطير:

دائمًا ما تؤثر حالة الاستقرار السياسى فى البلاد على الأوضاع الاقتصادية، حيث إن البيئة المضطربة أمنيًا وسياسيًا تكون أرضية خصبة لهروب الاستثمارات الأجنبية وتباطؤ معدلات التنمية والنمو الاقتصادى، وكدولة مثل السنغال تستمد حضورها الاقتصادى من ماضيها الخالى من التعثرات السياسية والاضطرابات التى تعصف بالعديد من دول جوارها، فإن الإقدام على خطوة تأجيل الانتخابات فى هذا البلد الديمقراطى، وما تبعه من احتجاجات وإثارة حالة من القلق الدولى والإقليمى إزاء ذلك يثير التخوفات بشأن اكتشافات الغاز الهائلة فى السنغال، والمزمع تصديرها خلال العام الجارى، وبالطبع فإن هذا المورد يكون أكثر جذبًا للمستثمر الأجنبى الذى يعول على ديمومة الاستقرار السياسى الذى تميزت به داكار طيلة العقود الماضية.

سيناريوهات محتملة:

إن طبيعة المشهد السياسى فى السنغال يمكن أن تحكمه عدة سيناريوهات ستكون حاكمة للوضع الراهن مستقبلًا، وستعد بمثابة النقطة الفاصلة بين ماضى يتسم بالهدوء النسبى وواقع مضطرب، ومستقبل مجهول قد يحمل فى طياته تداعيات لن يكون محمود عقباها، إذا لم يتم مراعاة الشواغل السنغالية ووضع أمن واستقرار الدولة فى المقام الأول:

السيناريو الأول:

إجراء الانتخابات الرئاسية فى أقرب وقت:  قد تدفع الضغوطات الخارجية والداخلية الرئيس سال إلى القبول بسياسة الأمر الواقع والاستجابة لطعون مرشحى المعارضة، ومن ثم موافقته على إعادة العملية الانتخابية إلى مسارها الذى انحرفت عنه منذ قرار التأجيل، ورغم أن هذا الخيار مستبعد إلى حد ما فى الوقت الحالى، فإن تطبيقه عمليًا سيثير إشكالات فنية من قبيل الجاهزية لتنظيم انتخابات سبق أن تم إرجاؤها، أو حتى سياسية وقانونية متعلقة بقائمة المرشحين المفترض أن يخوضوا الانتخابات بحكم أن القائمة الأصلية استثنت بعض قادة المعارضة، وهو ما فتح الباب من قبل أمام قرار التأجيل، وبالتالى سيتم الدعوة إلى عقد انتخابات مع الوضع فى الحسبان هذه الاعتبارات، بما يعنى تأخيرها نسبيًا لحين استكمال التجهيزات اللازمة.

السيناريو الثانى:

تأجيلات عدة ومحاولة لكسب المزيد من الوقت: قد يلجأ الرئيس سال إلى حجة تأجيل الانتخابات شيئًا فشيء؛ لكسب المزيد من الوقت وإعادة ترتيب الأوراق، وبالتالى تعليق المسار الانتخابى وفقًا للقرارات الحالية التى تثير جدلًا قانونيًا ودستوريًا وسياسيًا واسعًا فى السنغال، ويعنى ذلك رفض الطعون القضائية التى قدمتها المعارضة، واستمرار الأزمة السياسية حتى تنظيم الانتخابات فى الموعد المحدد لها نهاية العام، وربما إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو سيناريو مرجح بشكل نسبى.

السيناريو الثالث:

سيناريو الانقلاب: فى هذا البلد الإفريقى الذى عُرف باستقراره السياسى، ولم يخض تجربة الانقلابات العسكرية من قبل رغم شيوعها فى محيطه، يثار التساؤل حول موقف المؤسسة العسكرية، التى كانت تقف دومًا على الحياد وعدم التدخل فى الشؤون السياسية، ولكن هل ستقف هذه المرة مكتوفة الأيدى أمام الانقلاب الدستورى من قبل الرئيس، أم أنها ستتدخل لإجباره على الالتزام بالدستور وتنفيذ قرار المحكمة الدستورية حال عزوفه عن ذلك، مع إجراء الانتخابات فى موعدها أو تأجيلها لفترة وجيزة؛ لإعطاء الفرصة للمرشحين للقيام بحملاتهم الانتخابية لاسيما وأن الفترة المتبقية على المدة المحددة سلفًا لا تكفى لذلك، هذا فى ظل الثقة الكبيرة التى يحظى بها الجيش لدى الشعب، إذن فقد يتدخل الجيش بدعوى الحفاظ على الأمن والاستقرار ويقوم بالانقلاب على ماكى سال، وقد يحافظ على ثباته وعدم التدخل فى الوضع السياسى، وهنا قد تكون الفرصة أمام المعارضة ذاتها للانقلاب على سال وإخراج باسيرو فاى وعثمان سونكو من السجن، مع احتمالية أن تسعى لإزاحة ماكى من السلطة وإفساح المجال لتولى فاى أو سونكو مقاليد السلطة عوضًا عنه، وعلى أى حال فإن فرضية الانقلاب مرجحة بشكل كبير إذا لم يلتزم الرئيس بالعملية الديمقراطية ولم يراعِ قرار المحكمة الدستورية، ويضع المصلحة الوطنية فوق أى اعتبار.

ختامًا:

فى الوقت الذى تشتد فيه الأزمة السياسية وتخبط الأوضاع والسيناريوهات التى يمكن أن تحكم المشهد خلال الفترة المقبلة، يكتب السنغال يوميات تدافع سياسى قوى، وفورة فى الشارع السنغالى يستمد جذوره من رصيد الديمقراطية والرخاء السياسى الذى تذخر به البلاد بمؤسساتها القوية، وهو ما سيجعل صدع ولهيب هذه الأزمة يمكن امتصاصه، والعبور بسلام من هذا المنزلق، ولكن بالرغم من ذلك فثمة تخوفات من احتمالية تكلس الوضع السياسية التى إذا لم تتخطَ هذه الأزمة قد نرى تكرارًا لمشهد الاضطرابات التى تعصف بدول المنطقة، وقد تخرج السنغال من عباءة الهدوء الذى عاصرته لسنوات، حتى تصبح ضمن عداد الصراعات والتوترات، فبدلًا من أن تكون مجاورة لمحيط الاضطرابات ستصبح فى  قلب هذه الاضطرابات.

كلمات مفتاحية