إعداد: شيماء ماهر
باحثة متخصصة في الشؤون الأفريقية
تشهد منطقة شرق الكونغو الديمقراطية حالةً من الصراعات المستمرة منذ عقود؛ بسبب تحوُّلِها إلى ساحة حرب، تنخرط فيها مجموعةٌ كبيرةٌ من الفصائل المسلحة، وفي الأيام الأخيرة، تجدَّدت الاشتباكات بين “روندا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية”، في ظلِّ تبادُّل التُّهَم بين البلديْن، بشأن إطلاق النار على الحدود المُشتركة بينهما، بالتزامن مع تصاعُد حِدَّة المواجهات المُسلَّحة بين الجيش الكونغولي وحركة “23 مارس” المتمردة؛ ما أثار مخاوف متزايدة حول احتمالية انزلاق “كينشاسا، وكيغالي” إلى حرب شاملة؛ الأمر الذي قد يفاقم الأوضاع الأمنية المأزومة في منطقة البحيرات العُظْمى.
مشهد مأزوم.. عودة من جديد إلى الاشتباكات
في سياق المعارك الدائرة مع متمردي حركة ” إم 23″ المدعومة من روندا، اتهم جيش جمهورية الكونغو الديموقراطية، يوم 17 فبراير 2024م، رواندا، باستهداف ” مطار غوما” شرق البلاد، بطائرات دون طيار، وقال المتحدث باسم الجيش في إقليم شمال كيفو ” اللفتنانت كولونيل غيوم ندجيكي ” في مقطع فيديو بثَّه المكتب الإعلامي للحاكم: إن هذه الطائرات المسيَّرة استهدفت طائرات تابعة للقوات المسلحة في جمهورية الكونغو الديموقراطية، وتضرَّرت الطائرات المدنية؛ بسبب هذا الهجوم.
ويشتد القتال في مدينة ساكي الاستراتيجية بإقليم ماسيسي، الواقعة على بُعْد حواليْ 25 كيلومترًا غرب غوما، منذ العاشر من فبراير الجاري، وفي ظلِّ غياب أيِّ حصيلة رسمية، أفادت مصادر مختلفة بسقوط عشرات القتلى والجرحى بين المدنيين والعسكريين، وأعلنت جنوب أفريقيا مقتل اثنيْن وإصابة ثلاثة من جنودها المشاركين في القوة الإقليمية لدول الجنوب الأفريقي، التي انتشرت مؤخرًا في المنطقة.
وتواصل قوات مجموعة ” إم 23″ ضغوطها على القوات المسلحة بجمهورية الكونغو الديمقراطية وحلفائها في شرق الكونغو، فعلى سبيل المثال، تشهد شمال وجنوب كيفو منذ فترة عمليات منتظمة لميليشيات إثْنيّة ودينية وسياسية متنوعة وجماعات إرهابية أيضًا، وتدعم رواندا حركة ” 23 مارس”، على الرغم من إنكارها لذلك، فتهدف رواندا في المقام الأول إلى تفكيك ما يُعرف بالقوات الديمقراطية لتحرير رواندا، التي تتركز في شرق الكونغو، وتطلب من الكونغو الديمقراطية تسليم جميع الشخصيات القيادية في القوات الديمقراطية لتحرير رواندا، وعقب ذلك، يمكن توطيد العلاقات بين البلديْن، على الجانب الآخر، تسعى كينشاسا تدمير كُلٍّ من حركة ” 23 مارس” والقوات الديمقراطية المتحالفة وغيرها من القوات المتمردة، والتي تتركز في شرق البلاد.
والجديرُ بالذكر، أن منطقة شرق الكونغو الديمقراطية تُمثِّلُ واحدةً من أخطر مناطق النزاعات المسلحة في العالم، وينْشَطُ بها أكثر من 100 جماعة مسلحة مختلفة في جميع أنحاء البلاد، تأتي في مقدمتها ” القوات الديمقراطية المتحالفة ” الوثيقة الصلة بتنظيم داعش الإرهابي، والتي شنَّت هجومًا في عام 1998م، قُتِلَ على إثْره نحو 80 طالبًا، في هجومٍ على جامعةٍ بالمناطق الحدودية، ويشهد إقليم شمال كيفو منذ نهاية عام 2021م نزاعًا عسكريًا بين حركة ” إم 23″، مدعومةً بوحدات من الجيش الرواندي من جهةٍ، والجيش الكونغولي مدعومًا من جماعات مسلحة من جهةٍ أُخرى، بالإضافة إلى العديد من الجماعات المسلحة القومية، والتي تُعرف باسم “الماي ماي (Mai-Mai)” فضلًا عن التعاونية من أجل تنمية الكونغو (كوديكو)؛ ما يؤدي إلى تغذية الصراعات في شرق الكونغو.
نزوح كثيف مع تفاقُم الأزمة الإنسانية في شرق الكونغو الديمقراطية
بلغت الأزمة الإنسانية في شرق الكونغو الديمقراطية مستويات حَرِجَة، عقب تصاعُد أعمال العنف الأخيرة، التي اندلعت منذ يناير 2024م، مع امتداد الاشتباكات إلى القُرى القريبة من حدود جنوب كيفو، وتشير تقديرات حديثة إلى أن أن أكثر من 200.000 شخص نزحوا من ساكي والبلدات المجاورة في محافظة شمال كيفو؛ بسبب المعارك الأخيرة، ويُضاف هذا العدد إلى أكثر من 6 ملايين شخصٍ نازحٍ في الكونغو الديمقراطية حاليًا، أكثر من 80 % منهم هربوا من ديارهم؛ بسبب الصراع، خاصَّةً في المنطقة الشرقية.
وقد كان أكثر من 2.8 مليون طفلٍ في الكونغو الديمقراطية يُعَانُون بالفعل من ارتفاع معدلات سُوء التغذية، ويواجهون الآن انقطاعات في التعليم والرعاية الصحية، ويواجه ما يُقدَّرُ بنحو 1,1 مليون طفلٍ و605.000 امرأةٍ مستويات عالية من سوء التغذية الحاد، وبالإضافة إلى ذلك، تسبَّب الصراع في أضرار جسيمة، وأدَّى إلى سقوط قتلى وجرحى في صفوف المدنيين، وشهدت المنطقة أيضًا أمطارًا غزيرة وفيضانات، وتسبَّبت الفيضانات في وفاة أكثر من 300 شخص، وألحقت الضرر بنحو 1.8 مليون شخصٍ؛ ما أدَّى إلى تفاقم هشاشة السكان، وتمَّ الإبلاغ عن تفشِّي وباء الكوليرا على طول الطريق المؤدي إلى غوما وفي مناطق النازحين القريبة[1].
قلق أممي ودولي إزاء تصاعُد التوتُّرات في شرق الكونغو
أدان مجلس الأمن الدولي في اجتماع طارئ بشأن الكونغو الديمقراطية الهجوم الأخير الذي شنَّته حركة ” إم 23″ المتمردة في شرق البلاد، ودعا أعضاء المجلس جميع الأطراف الفاعلة إلى الإسراع في وضْع حدٍّ للعنف، واحترام القانون الإنساني الدولي، واستئناف الحوار لإرساء وْقف إطلاق النار، ودعْم سيادة جمهورية الكونغو الديمقراطية ووحدتها وسلامة أراضيها.
وعبَّرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عن قلقها العميق إزاء العواقب الوخيمة التي قد تُلْحِقُ الضرر بالمدنيين، وكان من ضمنها فرار ما يُقدَّرُ بنحو 135.000 نازحٍ داخليًّا من بلدة ساكي في اتجاه غوما المجاورة في أعقاب تصاعُد أعمال العنف بين القوات الحكومية والجماعات المسلحة غير الحكومية في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، ودعت إلى ضرورة حماية حياة وسلامة المدنيين والأفراد النازحين، ووقْف القتال، وإجراء مفاوضات السلام لحلِّ النزاع، وتخفيف معاناة المدنيين الأبريا، وسط تصاعُد أعمال العنف.
كما أبلغت الولايات المتحدة كُلًّا من “روندا، والكونغو” في 20 فبراير 2024م، خلال الاجتماع الطارئ لمجلس الأمن بالأمم المتحدة، بضرورة الابتعاد عن حافَّة الحرب، وصرَّح نائب السفير الأمريكي بالأمم المتحدة ” روبرت ود” أنه على البلديْن بجانب لاعبين إقليميين الاستئناف الفوري للمحادثات الدبلوماسية، وأن هذه الجهود الدبلوماسية الإقليمية هي الطريق الوحيد نحو الوصول إلى سلامٍ دائمٍ وتفاوضيٍّ، وجاء التحذير الأمريكي بعْد رفْض وزارة الخارجية الرواندية، في 19 فبراير 2024م، لدعوات واشنطن لها بسحْب قواتها ونظم صواريخها “أرض- جو” من شرقي الكونغو، وطالب البيان أمريكا جمهورية الكونغو الديمقراطية بمواصلة دعم إجراءات بناء الثقة، ووقْف التعاون مع جماعة القوات الديمقراطية لتحرير رواندا المسلحة.
ودعت فرنسا أيضًا رواندا إلى وقْف دعمها لحركة “إم 23” المتمردة في شرق الكونغو، والتي كثَّفتْ هجماتها في الفترة الأخيرة، ودعت رواندا إلى سرعة سحْب قواتها من الأراضي الكونغولية، وتؤكد باريس دعْمها لأيِّ وساطةٍ إقليميةٍ من شأنها إنهاء الصراع.
تداعيات محتملة
هناك مجموعة من التداعيات المحتملة إزاء تصاعُد العنف والتوتُّر المستمر بين دولتيْ “الكونغو الديمقراطية، ورواندا”، وتتمثل أبرزها فيما يلي:
- تأجيج الخلافات بين الدولتيْن: من المرجح أن تزداد حِدَّة التباعُد السياسي بين الدولتيْن؛ نظرًا لانعدام الثقة بينهما، وتزايد الشكوك لديهما، وما يصاحب ذلك من استمرار الخطابات التحريضية لمسؤولي الدولتيْن؛ من أجل تأليب الرأْي العام ضدهما، وينعكس ذلك على حِدَّة التنافس الإقليمي بين الطرفيْن في منطقة البحيرات العُظْمَى؛ ما يخلق حالةً من عدم الاستقرار السياسي، في ظلِّ احتمال تورُّط أطرافٍ إقليميةٍ أُخرى في الصراع.
- زيادة حِدَّة مشاعر الكراهية بين شعوب المنطقة: تُرَوِّج حركة ” إم 23 ” لنفسها على أنها تقوم بحماية أقلية التوتسي في منطقة شرق الكونغو في مواجهة القوات الديمقراطية لتحرير رواندا، التي تنتمي إليها أقلية الهوتو، وانتقلت إلى الكونغو الديمقراطية عقب الإبادة الجماعية في رواندا، عام 1994م، وتستمر هذه الأقلية في استهداف المدنيين في جمهورية الكونغو الديمقراطية؛ الأمر الذي يُنْذِرُ باحتمالية اندلاع توتُّرات عِرْقيّةٍ في المنطقة خلال الفترة المقبلة؛ من أجل إعادة حِقْبَةِ الإبادة الجماعية للأذهان من جديدٍ مرَّةً أُخرى.
- تنامِي التنافُس الدولي والإقليمي في شرق أفريقيا: يمنح تصاعُد التوتُّر بين كينشاسا وكيجالي فُرْصة تعظيم الاستفادة على الصعيد الاقتصادي لعددٍ من دول المنطقة، مثل “أوغندا، وبوروندي”، لا سيما فيما يتعلق بتقديم طُرُقٍ بديلةٍ للتجارة الخاصَّة بالكونغو الديمقراطية، بدلاً من رواندا، واستغلال الموارد والثروات في شرق الكونغو، كما أن تصعيد الخلاف بين البلديْن، من شأنه أن يستدعي انخراط القوى الدولية الفاعلة في المنطقة؛ بحجة تخفيف حِدَّةِ الصراع وتسويته لإيجاد موطئ قدمٍ في هذه المنطقة الغنية بالموارد والثروات الطبيعية، مثل الذهب والماس والنفط والمعادن الثمينة، لا سيما في شرق الكونغو الديمقراطية.
- تفاقم السيولة الأمنية في منطقة البحيرات العظمى: قد يؤدي استمرار التوتُّر بين الدولتيْن إلى حالةٍ من عدم الاستقرار الأمني في المنطقة؛ الأمر الذي يُسْهِمُ في اتساع سيطرة وانتشار “حركة 23 مارس” بإقليم كيفو في شرق الكونغو الديمقراطية، بالإضافة إلى احتمال ظهور ميليشيات إرهابية مسلحة جديدة على الحدود بين الدولتيْن، وما يرتبط بذلك انتشار الأسلحة في المنطقة؛ الأمر الذي يُنْذِرُ بتفاقم الأوضاع الأمنية في منطقة البحيرات العظمى، خاصَّةً في ظل انتشار الحركات المتمردة في شرق الكونغو، والتي تُمثِّلُ مصدر تهديد لأمن واستقرار دول الجوار الإقليمي في الكونغو الديمقراطية.
- تفاقم الأزمة الإنسانية وتصاعد تدفقات اللاجئين: منذ تصاعُد الاشتباكات في يناير 2024م، تشير تقديرات حديثة إلى أن أكثر من 200.000 شخص نزحوا من ساكي والبلدات المجاورة في محافظة شمال كيفو؛ بسبب المعارك الأخيرة، ويُضاف هذا العدد إلى أكثر من 6 ملايين شخصٍ نازحٍ في الكونغو الديمقراطية حاليًا، أكثر من 80 % منهم هربوا من ديارهم؛ بسبب الصراع، خاصَّةً في المنطقة الشرقية.
وإجمالًا:
يمكن القول: إنه على الرغم من التصعيد العسكري الراهن في شرق الكونغو، إلا أنه من غير المرجح أن تلجأ كينشاسا وكيجالي إلى الانزلاق نحو حربٍ شاملةٍ قد تتفاقم بانخراط أطراف إقليمية أُخرى، فلن تخاطر رواندا بالانزلاق إلى حربٍ مفتوحةٍ لن تجد تبريرًا لها داخليًّا وخارجيًّا، في ظلِّ الانتقادات الخارجية الموجَّهة لها، وعلى الجانب الآخر، تعاني الكونغو الديمقراطية من تحديات سياسية واقتصادية وأمنية متزايدة، تجعلها غير قادرة على الاندفاع نحو حربٍ شاملةٍ، ولكن ذلك لا يُقلِّلُ من خطورة الفترة الحالية، في ظل دفْع كلا الطرفيْن إلى حافَّةِ الهاوية، والتي سيكون لها تداعيات إقليمية واسعة النطاق، في ظل استمرار موْجات النُّزوح المستمرة لمئات الآلاف من السكان، وتفاقم التوترات الطائفية في هذه المنطقة المضطربة، وتداعيات هذه التوتُّرات على جهود مكافحة الإرهاب في المنطقة.
وربما تستمر المساعي الدولية والإقليمية للضغط؛ لتغليب الحوار الدبلوماسي بين طرفيْ الأزمة؛ حتى لا تتحول المنطقة إلى ساحة قتالٍ إقليميةٍ يصْعُبُ وقْف نزيفها، وإن كان هذا الأمر يبدو صعبًا؛ بسبب تمسُّك طرفيْ الخلاف بموقفه؛ ما يجعل التوصُّل إلى تسويةٍ للأزمة غير مُرَجَّحٍ في المدى القريب، حتى إن السكان المحليين في شرق الكونغو باتوا يطلقون على الصراع الراهن اسم ” الحرب الأبدية” أو ” الحرب التي لا نهاية لها”.
المصادر:
[1] نزوح كثيف شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية مع تفاقم الأزمة الإنسانية، قراءات أفريقية، 2024م، متاح على الرابط: https://qiraatafrican.com/18811/ تاريخ الدخول : 22-2-2024م.