هل الأمور تسير بشكل جيد مع الولايات المتحدة؟

إعداد: مصطفى مقلد

مقدمة:

مع دخول بايدن العام الرابع من رئاسته، كانت قد تبدلت وتغيرت أولويات سياسته الخارجية منذ قدومه للبيت الأبيض، وتغيرت معها بعض توجهاته إزاء بعض الملفات والقضايا، فلا شك أن السياسة الخارجية موضع شد وجذب بين الديمقراطيين والجمهوريين، وتلقى بظلالها على مستقبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، وكذلك على مستقبل الصراعات والدول المعنية والتى سيتم تناولها.

الحرب الأوكرانية:

تمكن الجيش الروسى من تحقيق ازدهار لإنتاجه الحربى، وحصل على مسيرات من إيران، بجانب ذلك تقول كييف إنها تأكدت من استخدام روسيا صواريخ كورية شمالية، وصعدت روسيا هجماتها العنيفة على دونيتسك (شرق البلاد) وسيطرت على بلدة “أفدييفكا” الإستراتيجية الواقعة شرقًا، بذلك تعزز موقف بوتين بشكل لا يقاس، وتزايد احتمالات نجاح بوتين فى تحقيق شيء يمكن أن يدعى أنه انتصار فى أوكرانيا، وذلك بعدما منيت أوكرانيا بانتكاسات مع فشل هجومها المضاد فى عام 2023، ومعاناة القوات الأوكرانية نقصًا فى القوة البشرية والذخيرة التى يزودها بها الغرب، ويمثل ذلك تحولًا جديدًا فى الحرب، ففى مثل هذا الوقت من العام الماضى، بدت روسيا على وشك الهزيمة عندما استعدت القوات الأوكرانية المجهزة بأسلحة غربية متقدمة لهجوم مضاد ضد روسيا.

وفى المقابل، ومع دخول الحرب عامها الثالث، وصف الرئيس الأوكرانى الوضع على الجبهة بأنه “صعب جدًا” بسبب تأخر وصول إمدادات الدعم العسكرية الغربية، وهو أكثر ما تخشاه كييف، فقد عرقل الجمهوريون فى مجلس النواب الأمريكى الموافقة على تمرير حزمة مساعدات جديدة بقيمة 60 مليار دولار لأوكرانيا، ومع ذلك، جدد زعماء “مجموعة السبع” خلال الذكرى الثانية لبدء الحرب تعهدهم بدعم أوكرانيا، و”زيادة كلفة الحرب” على موسكو، من خلال خفض مصادر عائداتها وإعاقة جهودها لبناء ماكينتها الحربية، ويكشف ذلك التعبير عن التسليم بفكرة عدم القدرة على إخراج روسيا من الأراضى التى ضمتها، فالبديل هو استنزاف روسيا وتحسين موقف كييف التفاوضى.

ولكن لا مجال لمفاوضات جدية حاليًا، ويمكن قراءة ذلك فى تفاعلات القوى الدولية، فالصين التى تزامن طرحها لخطتها للسلام – بخصوص الحرب فى أوكرانيا – مع تعرض روسيا لهزائم متتالية، تعود اليوم – مع تحقيق روسيا مكاسب على الأرض – لتعلن عبر وزير خارجيتها خلال مؤتمر ميونخ للأمن أن الظروف الحالية غير مناسبة للحديث عن السلام، وهو ما يعبر عن ارتياح الصين بشأن رهانها الإستراتيجى على الرئيس الروسى.

كذلك أعلن البيت الأبيض فى حال حصوله على تأكيدات، أن الولايات المتحدة ستفرض عقوبات جديدة على إيران، بعد تداول أنباء عن نقل صواريخ باليستية من إيران إلى روسيا، لكن إيران نفت اتخاذها تلك الخطوة، وتنظر إيران للحرب الأوكرانية على أنها أحد ساحات المواجهة مع الغرب، وهو ما يتحقق أيضًا لدى كوريا الشمالية، حيث تتهمها واشنطن بإرسال ذخائر ومعدات عسكرية لروسيا مقابل الحصول على تكنولوجيا عسكرية روسية وتعزيز نفوذها وتوسيع شراكاتها، بالتالى فاستمرار الحرب يحقق مصالح أطراف عدة، ومع ذلك فإن العقوبات المفروضة على روسيا وحاجة الولايات المتحدة للمضى قدمًا فى ملفات أخرى، خاصة بعد وقف مساعداتها لأوكرانيا وبالتالى تراجع دورها نسبيًا عما مضى، قد يهيئ الفرصة لمحادثات أمريكية روسية لوقف الحرب، فى لحظة تحتاج “نضج” لدى الطرفين بأن الحرب لم تعد تعبر عن المصلحة.

حرب غزة:

ما برحت الإدارة الأمريكية تردد دعمها لمبدأ حل الدولتين كأساس عادل ودائم للقضية الفلسطينية، وهو ما ارتضاه المجتمع الدولى والشرعية الدولية ممثلة فى قرارات الأمم المتحدة وأجهزتها، والتى تنكر على إسرائيل استمرار سياسات الاستيطان، لكن المواقف الفعلية للإدارة الأمريكية مناقضة لخطابها، شككت الولايات المتحدة فى اختصاص محكمة العدل الدولية
فى النظر فى القضية الفلسطينية، بعد قرارٍ سابقٍ للجمعية العامة للأمم المتحدة صدر فى ديسمبر 2022 بطلب من محكمة العدل الدولية أن تصدر الرأى الاستشارى حول الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الفلسطينيين فى تقرير المصير، واحتلالها للأرض الفلسطينية منذ عام 1967، بما فى ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديمغرافى لمدينة القدس وطابعها ووضعها، واعتمادها تشريعات وتدابير تمييزية فى هذا الشأن.

واعتبر القائم بأعمال المستشار القانونى لوزارة الخارجية الأمريكية، أن محكمة العدل لا يمكن أن تأمر بانسحاب فورى للقوات الإسرائيلية من الأراضى المحتلة فى المرحلة الراهنة، مشيرًا إلى أن “أى تحرك نحو انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية وغزة يتطلب مراعاة الاحتياجات الأمنية الحقيقية لإسرائيل”.

هذا بالتوازى مع عدم طرح الإدارة الأمريكية أى رؤية يمكن بلورتها وتحديد خطوات عملية لإنشاء دولة فلسطينية رغم ما أفضى إليه إهمال الولايات المتحدة لحق الفلسطينيين فى إنشاء دولتهم من هجوم 7 أكتوبر وعدم اكتراث بايدن لاستهداف 30 ألف مدنى، وظهر ذلك فى استخدام الفيتو فى مجلس الأمن لإفشال مشروع قرار بإيقاف الحرب فى غزة فورًا لأسباب إنسانية كانت قد تقدمت به الجزائر مؤخرًا، بجانب تركيزها على إيجاد حل لملف الرهائن على حساب باقى الملفات مثل وقف الحرب وإدخال المساعدات.

ومع قيام دول إقليمية بالضغط على حماس للاندماج مع منظمة التحرير الفلسطينية والقبول بمشروعها السياسى كخطوة من الجانب العربى لتهدئة الأمور والدفع بمسار التسوية السياسية، لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بانحياز مطلق لإسرائيل، فى وقت أصبح فيه “حل الدولتين” أكثر جاذبية للقوى الكبرى مثل الاتحاد الأوروبى وبريطانيا والصين وروسيا، وحتى البرازيل كقوة متوسطة التى سببت تصريحات رئيسها أزمة دبلوماسية مؤخرًا مع إسرائيل، يزيد الموقف الأمريكى بذلك التوترات فى الشرق الأوسط ويطيل أمدها.

اليمن والبحر الأحمر:

بعد صعود بايدن السلطة، ألقى كلمته الأولى بشأن سياسته الخارجية فى فبراير 2021، وتناول خلالها ملف الحرب فى اليمن، وقرر إنهاء الدعم الأمريكى لكافة العمليات العسكرية الهجومية وما يتعلق بها من صفقات تسليح، ودعم جهود الأمم المتحدة لحلّ النزاع، وتعيين مبعوثًا خاصًا لليمن، واستهدف من وراء ذلك إخراج الولايات المتحدة من تفاصيل الحرب، من أجل تحويل الموقف الأمريكى إلى موقف محايد للعب دور الوسيط، وهو بذلك تطور طبيعى لسياسة كل من الإدارتين السابقتين لإدارة بايدن.

غير أن قيام الولايات المتحدة بتشكيل تحالف حارس الازدهار فى البحر الأحمر لمواجهة هجمات الحوثيين هناك، جعل تداعيات تلك الخطوة موضع تساؤلات، فلم تقم أى دولة فى الإقليم بدعم التحالف وتوفير الإسناد والمتابعة وهو ما يزيد من تحديات التحالف، الذى يجد نفسه متورطًا فى حرب لا أفق زمنى لها، كما أن الضربات على الأهداف الحوثية مثل غرس القدمين
فى الرمال المتحركة، فالأسلحة تتدفق من إيران كما أن للحوثيين أسلحتهم التى يصنعونها بأنفسهم، كما أن أهداف التحالف -واقعيًا- تهدد بل تُفشل السياسة التى سلكتها الإدارة الأمريكية كلاعب وسيط فى الصراع اليمنى، خاصة مع توسع مجال الاستهداف الذى طال صنعاء، كذلك يفتح لإيران جبهة أمامية جديدة لمواجهة الولايات المتحدة ما يعنى ساحة جديدة لقواعد الاشتباك الأمريكى الإيرانى ما يقلل فرص تعرضها هى لهجمات أمريكية.

ووفر التأنى والترقب السعودى تجاه تلك المواجهة مساحة مهمة للمناورة والنقاش بينها وبين إيران، وبينها وبين الحوثيين، ما قد تستفيد منه السعودية مستقبلًا بعد أن أخرجت نفسها من الصراع فى اليمن، وتنتظر استكمال محادثات السلام، الذى يمكن أن يعود لها الحوثيون وهم أضعف حركيًا، وهو ما سيعنى أن الولايات المتحدة ستعانى من صداع مزمن فى اليمن فقد أثارت استعداء الحوثيين دون القضاء عليهم.

النووى الإيرانى:

كان لدى بايدن فى بداية حكمه رغبة فى العودة للاتفاق النووى الإيرانى، وبدأت الولايات المتحدة إجراء مفاوضات غير مباشرة مع إيران، لدفع إيران على اتخاذ خطوات إيجابية مقابل تخفيف العقوبات الأمريكية، وبحلول صيف العام 2023 مع تطور الأحداث، بدا أنهما قد توصّلا إلى تفاهمٍ مؤقت لخفض التصعيد، حيث تم تخفيض التوترات إقليميًا، وأبطأت إيران عمليات التخصيب عالية المستوى للمرة الأولى منذ العام 2021. وفى المقابل، أفرجت الولايات المتحدة عن بعض الأموال الإيرانية المُجمَّدة، وتبادل الجانبان بعض السجناء فى سبتمبر 2023.

وكان من المفترض أن تعود إيران والولايات المتحدة إلى طاولة المفاوضات فى 18 أكتوبر
فى سلطنة عُمان، حيث تبدأ محادثات أشمل، لكن ذلك لم يحدث حيث غرقت المنطقة فى تداعيات هجوم 7 أكتوبر، والذى يظهر الآن هو أنه لا يوجد احتمال لاستئناف محادثات بخصوص النووى الإيرانى.

وقال المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية “رافائيل غروسى” إن إيران تواصل تخصيب اليورانيوم بما يتجاوز بكثير حاجات الاستخدام النووى التجارى، على رغم ضغوط الأمم المتحدة لوقف ذلك، ووجود حاجة ملحة لزيارة طهران شهر مارس المقبل لإنهاء حال “التباعد” فى المواقف، لكن ما زالت طهران لديها أسباب لعدم صنع سلاح نووى أو حتى تخصيب اليورانيوم إلى مستويات صنع الأسلحة، فذلك يمكن أن يدفع إسرائيل أو الولايات المتحدة إلى توجيه ضربة مباشرة للمفاعلات النووية على الأراضى الإيرانية فى وقت وصل التوتر فيه بالفعل لمستويات عالية، كما تخاطر بإثارة توترات مع السعودية، وهى فى حاجة الآن لإبقاء تلك العلاقات على مايرام.

إذن فالولايات المتحدة ليست فى عجلة من أمرها لجعل ذلك الملف يطفو مجددًا على سطح أولوياتها فى الفترة الحالية.

قانون خفض التضخم:

كان الرئيس بايدن قد وقع على قانون خفض التضخم لعام 2022، وتضمن التشريع الشامل البالغ 750 مليار دولار، 369 مليار دولار من الاستثمارات فى برامج المناخ والطاقة النظيفة، ويعد هذا القانون أكبر استثمار فى الطاقة النظيفة فى تاريخ العالم، وتشريع شامل مصمم لإزالة الكربون من الاقتصاد الأمريكى، وإعادة تشكيل لسلاسل التوريد العالمية، وكسر الاعتماد على الصين، لكن يرى محللون أن قانون خفض التضخم هو اسم مضلل، فالهدف الأول والأساسى ليس خفض التضخم، وخاصة على المدى القصير، بل هو جزء من السياسة الصناعية، وسياسة المناخ، والسياسة التجارية، ويقوم التشريع على الإعفاءات الضريبية المصممة لجذب الاستثمار إلى الاقتصاد الأمريكى، وتم إقرار قانون الرقائق والعلوم أولًا، وهى سياسة صناعية أصغر بكثير، وتشمل تمويل لتحفيز الأبحاث وإنتاج أشباه الموصلات فى الولايات المتحدة.

تعمل هذه التشريعات على تنمية الاقتصاد من خلال الاستثمار فى الطبقة المتوسطة، فهو يربط بين الوظائف ذات الأجور الجيدة وبرامج التدريب المهنى وحوافز الطاقة النظيفة، ويعبر عن جوهر السياسة الخارجية لأمريكا، فتلك الخطوة مصممة لإعادة الولايات المتحدة كلاعب رئيسى فى الصناعة العالمية وفى المعركة ضد تغير المناخ، ولاشك أن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين هى الدافع الأساسى وراء تلك التشريعات، ويعكس ذلك التحول المشترك بين الحزبين الجمهورى والديمقراطى، حيث انتهج بايدن هذا التحول من خلال الإعانات، وهو ما فعله ترامب من خلال التعريفات الجمركية.

وتستهدف الولايات المتحدة وأوروبا معًا السيطرة بنحو 50 فى المئة من إنتاج أشباه الموصلات فى العالم، ويخضع ذلك الجانب للأبعاد الجيوسياسية، فقد خُصص 500 مليون دولار من تمويل “قانون تحفيز انتاج الرقائق” لوزارة الخارجية لتمويل توسع مصانع أشباه الموصلات فى سبع دول، منها فيتنام والفيليبين وإندونيسيا وكوستاريكا وبنما، بوصفهم شركاء محتملين للعمل فى تنويع سلاسل إمداد أشباه الموصلات.

غير أن شركاء الولايات المتحدة، من بين أكثر البلدان عرضة للتأثر سلبًا، فعبر “ماكرون” أن الولايات المتحدة تقضى على جزء كبير من قطاع الصناعة فى أوروبا، وحذرت كوريا الجنوبية من اتساع “حرب اقتصادية” يغذيها الدعم الحكومى والامتيازات الضريبية التى قد تسبب أوضاعًا أسوأ فى جميع الدول، فتأثيرات كل هذه السيولة المتدفقة، هو أن نشاط الشركات الأجنبية ينجذب إلى الولايات المتحدة للاستفادة من التمويل المتاح فى الولايات المتحدة.

إن حكومات دول عدة، مثل هولندا واليابان، ليس أمامها سوى القبول بتحرك واشنطن أو أن تأتى بسياسات مشابهة، حيث اعتمد الاتحاد الأوروبى قانون يفتح مجال التمويل الحكومى بقيمة (47.2 مليار دولار) أمام الشركات، ومع ذلك، نظرًا للسيولة الكبيرة التى تتمتع بها دول الاتحاد الأوروبى واليابان وكوريا الجنوبية، تستطيع هذه البلدان مجاراة الولايات المتحدة إلى حد ما لكن ليس كثيرًا، فوزير الاقتصاد الدنماركى صرح أنه من المرجح أن تخسر أوروبا إذا حاولت التنافس مع الولايات المتحدة وآسيا من خلال تقديم المزيد من المساعدات الحكومية لشركاتها، بجانب ذلك هناك دول لا يسعها المنافسة، فالمملكة المتحدة، باقتصادها المتعثر، تملك قدرًا محدودًا من التمويل الجديد ردًا على قانون خفض التضخم.

كذلك الجنوب العالمى الذى يعانى من قانون خفض التضخم، فهناك دول مثل تشيلى والهند، وهما دولتان رائدتان فى الهيدروجين الأخضر، لكن الآن لا تستطيع تشيلى أن تتحمل إعانات الدعم التى تتمتع بها الولايات المتحدة، لذا فقد تم القضاء على ميزتها الطبيعية المتمثلة فى وفرة الطاقة المتجددة.

فى المقابل، تضاعف الصين جهودها لتطوير قطاع صناعة الرقائق فى وجه ما تعتبره الصين محاولات “احتواء” تقوم بها الولايات المتحدة، بذلك يكون قد غيّر “قانون خفض التضخم” العالم، فيرى مراقبون أن هناك انتهاك لقواعد منظمة التجارة العالمية، حيث كانت الحكومات تضع القواعد والإطار الذى تعمل ضمنه الشركات، لكن حاليًا الحكومات تتنافس بأموالها، وهو ما قد يكون سيئًا بالنسبة للعلاقات الدولية والاقتصاد الدولى.

كلمات مفتاحية