مخاوف مُتصاعدة: ماذا بعد طلب ترانسنيستريا حماية روسيا؟  

إعداد: ميار هانى

باحثة فى الشأن الدولى

دعت سلطات ترانسنيستريا، الإقليم الانفصالى غير المُعترف به فى مولدوفا، الحماية من روسيا، خلال اجتماع النواب فى دورة استثنائية للكونغرس، الذى استضافته تيراسبول فى 28 فبراير الماضى، بسبب ضغوطات متزايدة من مولدوفا تزيد من سوء حالتهم الاجتماعية والاقتصادية، والتحذير من “عملية إبادة” قد يتعرض لها سكان المنطقة. وذلك قبل يوم واحد من خطاب حالة الأمة السنوى للرئيس فلاديمير بوتين، وهو ما أثار مخاوف من قِبل البعض باعتبارها دعوة لهجوم روسيا السرى على مولدوفا، وتكرار الكرملين لسيناريو عام 2014 مع التدخل لحماية الانفصاليين الروس فى منطقة الدونباس، شرق أوكرانيا، واتخاذها نقطة الانطلاق لحرب الدونباس ولسيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم، ويتزامن ذلك مع استعداد مولدوفا لإجراء انتخابات فى أكتوبر القادم، وسط محاولات من المعارضة الموالية لروسيا إلى تعزيز مكانتها.

ومن الجدير بالذكر أن إجراء تلك الدورات الاستثنائية أمر نادر الحدوث، وتعد تلك الدورة الاستثنائية السابعة منذ استقلال ترانسنيستريا، وقد نتج عنهم جميعًا قرارات رئيسية، بما فى ذلك إعلان استقلال الإقليم فى عام 1990، والموافقة على دستور ورموز الدولة عام 1991، ومناشدة روسيا بالاعتراف باستقلال الإقليم فى عام 2006، وأخيرًا إقرار النواب بحماية موسكو للإقليم الانفصالى من الضغوطات المتصاعدة من قِبل مولدوفا.

خـلـفـيـات الـصـراع

أعلن إقليم ترانسنيستريا، الواقع بين أوكرانيا من الشرق ومولدوفا من الغرب، انفصاله عن مولدوفا فى عام 1990؛ ويعود تاريخ الصراع إلى أواخر ثمانينيات القرن الماضى، مع إقرار المجلس الأعلى لجمهورية مولدوفا قانون اللغة عام 1989، الذى اعترف باللغة المولدوفية باعتبارها اللغة الرسمية الوحيدة فى البلاد، دون الاعتراف باللغة الروسية الأكثر انتشارًا آنذاك بالإقليم، وذلك بالتزامن مع تخفيف الاتحاد السوفيتى قبضته على دول أوروبا الشرقية آنذاك، وهو ما نتج عنه اندلاع صراع بين الانفصاليين الموالين لروسيا من ناحية، والقوات الموالية لحكومة مولدوفا من ناحية أخرى، أسفر عن مقتل ما بين 2 و3 آلاف شخص، حتى التوصل إلى وقف لإطلاق النار عام 1992 بوساطة روسية، وترابط فى هذه المنطقة فرقة عسكرية من الجيش الروسى “قوات لحفظ السلام”، لمنع الاحتكاكات مع شيسيناو، إلى جانب حراسة الأسلحة الروسية الموجودة فيها، وما زالت تتواجد حتى اليوم بقوام يبلغ قرابة 1500 جندى روسى، ومنذ ذلك الحين، تم تجميد الصراع لفترة طويلة من الزمن.

ولم يحظَ الإقليم باعتراف من قِبل المجتمع الدولى، بما فى ذلك، روسيا، باستثناء منطقتى أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا غير المُعترف بهما. وعلى الرغم من أن اللغة الروسية هى اللغة الرسمية فى ترانسنيستريا، إلا أن سكانها يتميزون بتنوع عرقى كبير، إذ كشف تعداد عام 2015، الذى أجرته السلطات الانفصالية فى ترانسنيستريا، أن حوالى 30% من سكان الإقليم، الذى يبلغ عددهم حوالى 470,000 نسمة، يعتبرون أنفسهم روسًا، بينما يعتبر نحو 29% منهم أنفسهم مولدوفيين، وحوالى 23% أوكرانيين، وهناك عدد كبير من سكان الإقليم يحملون جنسيات مزدوجة أو ثلاثية تتضمن مولدوفا، روسيا، وأوكرانيا.

تم اعتبار ترانسنيستريا بمثابة “ثقبا أسود” فى أوروبا، كما ذُكر فى تقرير صادر عن البرلمان الأوروبى فى عام 2002، وذلك لاعتماد المنطقة الانفصالية على دعم روسيا السياسى والاقتصادى أكثر منه عسكرى، وتجلى الدعم الاقتصادى فى مواصلة موسكو تزويد الإقليم بالغاز المجانى منذ عام 2005، وزيادة المعاشات التقاعدية والرواتب للحفاظ على الاقتصاد، كما اعتبرت أكبر سوق لصادرات ترانسنيستريا لمدة 25 عامًا، بالإضافة إلى اعتماد الإقليم على الأعمال غير المشروعة، والتى لعبت موسكو وكييف دورًا فيها لسنوات عديدة، فمنذ عام 1992، أنشأ المسؤولون الاقتصاديون الروس وأعضاء النخبة الحاكمة فى أوكرانيا حلقة تهريب تركزت على الإقليم، ومثلت الموانئ الأوكرانية نقطة حيوية لاقتصاد ترانسنيستريا من خلال نقل البضائع من وإلى أوديسا وغيرها من الموانئ على البحر الأسود، وهو ما أعاق محاولات مولدوفا فى ممارسة أى سيطرة اقتصادية عليها، فضلًا عن انجذاب عدد من أعضاء النخبة فى مولدوفا لتلك المعاملات غير المشروعة مع مرور الوقت.

ولطالما كان يُنظر إلى المنطقة الانفصالية باعتبارها تعتمد ماليًا على روسيا، إلا أن شهدت العلاقات التجارية مع أوروبا تقدمًا ملحوظًا فى الآونة الأخيرة، وتحديدًا منذ اتفاق الشراكة عام 2014 بين الاتحاد الأوروبى ومولدوفا، والذى خفض أو ألغى التعريفات الجمركية على السلع المولدوفية مع دخوله حيز التنفيذ فى عام 2016، وهكذا استفادت ترانسنيستريا من نفس شروط التصدير التى استفادت منها مولدوفا، كما استفادت أيضًا من الإعفاءات الضريبية على الواردات من الاتحاد الأوروبى – فى حين دفعت الشركات المولدوفية ضرائب الاستيراد للدولة، وتشكل التجارة بينه وبين الاتحاد الأوروبى نحو أكثر من 70 فى المائة، وفى الوقت نفسه، شهد حجم التبادل التجارى مع روسيا انخفاضًا كبيرًا؛ إذ انخفضت الصادرات إلى روسيا من 909 ملايين دولار بين عامى 2007 و2010 إلى 232 مليون دولار بين عامى 2015 و 2018 واستمرت فى الانخفاض. وقد يبدو الأمر متناقضًا، إلا أن تتبع  ترانسنيستريا النموذج ذاته التى تتبعه روسيا، فهى تقيم شراكات اقتصادية مع الغرب، لكنها تعزز سياساتها ومصالحها، ولا يأتى ذلك مع أى التزامات سياسية أو اقتصادية.

الـحـرب فى أوكـرانـيـا تـشـعـل قـضـيـة تـرانـسـنـيـسـتـريا

مع اندلاع الحرب (الروسية  –الأوكرانية) قبل عامين، أصدرت السلطات الأوكرانية أوامر بإغلاق ميناء أوديسا وكامل حدودها مع ترانسنيستريا وتأمينه بالدبابات، الأمر الذى تسبب فى نقص فى الموارد والإمدادات الروسية والتى كانت تأتى عبر ذلك الميناء الأوكرانى، فضلًا عن توقف الأعمال غير المشروعة. وبالتالى بات الوصول إلى الإقليم منحصرًا على حدوده مع مولدوفا، والتى قامت بإغلاق مجالها الجوى أيضًا أمام الطائرات الروسية، وهو ما يمنح مولدوفا والاتحاد الأوروبى السيطرة على تدفقاتها الاقتصادية.

كما تبنت شيسيناو، عاصمة مولدوفا، حزمة من السياسات التى أثارت قلق سلطات ترانسنيستريا؛ حيث جرت المصادقة، فى مطلع العام الجارى، على تشريع يلزم الشركات فى إقليم ترانسنيستريا بالتسجيل ضمن الإطار القانونى لمولدوفا للحصول على تصاريح لاستمرار النشاط التجارى، وأيضا الإلزام بدفع رسوم جمركية. ووفقًا للسلطات، يهدف التغيير فى القوانين المتعلقة بالشركات فى ترانسنيستريا إلى دمج هذه الشركات بشكل تدريجى فى النظام الاقتصادى والتجارى الوحيد فى مولدوفا، ولضمان المنافسة العادلة لجميع الشركات فى البلاد دون تمييز. إلى جانب إقرار البرلمان المولدوفى قانونًا، فى عام 2023، يجعل “الانفصالية” جريمة جنائية يمكن أن تنطبق على أى مسؤول بالإقليم، فضلًا عن خطط تتمثل فى حظر السيارات التى تحمل لوحات ترخيص ترانسنيستريا. وبالتالى، تغير كيشيناو، لأول مرة منذ عقود، قواعد اللعبة. وهو ما أثار غضب النظام الانفصالى فى تيراسبول، عاصمة ترانسنيستريا، واتهام مولدوفا بفرض “حصار اقتصادى”.

وفيما يتعلق بالمسار التفاوضى، جرت المفاوضات بين مولدوفا وترانسنيستريا، حتى عام 2019، من خلال منصة التفاوض “5 + 2” التى كانت وروسيا وأوكرانيا ومنظمة الأمن والتعاون فى أوروبا مشاركين بصفة “وسطاء”، وكانت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى يحظيان بصفة “مراقب”، ومع انخراط وسيطين مهمين، موسكو وكييف، فى صراع عسكرى نشط، تجعل استئناف المحادثات لحل قضية ترانسنيستريا أمرًا فى غاية الصعوبة.

تـبـعـات مُـحـتـمـلـة

أولًا – تجديد موسكو التزاماتها اتجاه تيراسبول:

فى استجابة لدعوة ترانسنيستريا، أكدت روسيا أن أولوياتها الحالية تتمثل فى توفير الحماية لجميع المواطنين الروس داخل وخارج حدودها، وفى وقت لاحق أكد وزير الخارجية الروسى “سيرغى لافروف” أن موسكو “ستفعل كل شيء لعكس هذا الاتجاه واستئناف العملية السياسية” عندما سئل عن الوضع فى ترانسنيستريا فى فبراير.

ثانيًا – تحركات غربية لدعم مولدوفا:

أعربت الحكومات الغربية عن مخاوف إزاء تحركات روسية مُحتملة لاستهداف مولدوفا باعتبارها الحلقة الأضعف التى قد تسعى موسكو لزعزعة استقرارها، حيث أكدت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، أن وزارتها “على علم” بمحاولات روسيا لزعزعة استقرار مولدوفا مع قبول ترشيحها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وفى ظل التوترات الحالية، تقوم الرئيسة المولدوفية “مايا ساندو” بزيارة رسمية إلى فرنسا، الخميس المقبل، لتوقيع اتفاقيتين دفاعية واقتصادية، وبحث الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون مع قادة غربيين سبل تعزيز الدعم لمولدوفا وتمكينها من مقاومة التدخل الروسى فى شؤونها الداخلية.

ثالثًا – تبنى مولدوفا نهج أكثر تدريجية:

يُتوقع أن يستمر نهج مولدوفا الناعم فى محاولاتها لحل قضية ترانسنيستريا بالوسائل السلمية وبطريقة لا تعوق مسارها المؤيد للاتحاد الأوروبى، دون الحاجه للجوء إلى طاولة مفاوضات، وبدلًا من ذلك، الاستمرار فى تبنى سياسات اقتصادية ولكن أكثر تدريجية تهدف لتحقيق الاندماج الاقتصادى لترانسنيستريا فى اقتصاد مولدوفا، دون محاولة استفزاز روسيا من خلال تبنى نهج أكثر حدة، وخصوصًا مع اقتراب الانتخابات الرئاسية المقرر انعقادها فى أكتوبر القادم، لتجنب أى تصعيد محتمل.

وخلاصة القول، يمكننا اعتبار أن تنظيم جلسة استثنائية لمجلس النواب لالتماس الحماية من روسيا هو بمثابة محاولة لجذب الانتباه الدولى إلى وضع الإقليم، وممارسة الضغط على مولدوفا للتخفيف من سياساتها الاقتصادية الهادفة لإدماج المنطقة فى اقتصادها، وليس لدعوة موسكو إلى القيام بعمل عسكرى. وبالمثل، إظهار لكيشيناو أنها على استعداد، إذا لزم الأمر، لاتخاذ إجراءات تصعيدية. ومع اقتراب إجراء الانتخابات الرئاسية فى مولدوفا، يرجح أن يتجنب الحزب الحاكم أى تحركات من شأنها حدوث اضطرابات خطيرة.

كلمات مفتاحية