إعداد: رضوى رمضان الشريف
سعت تركيا دؤوبة منذ مطلع القرن الواحد والعشرين بإقامة روابط سياسية واقتصادية عبر القارة الإفريقية من خلال المساعدات والتجارة، كجزء من أجندة لتوسيع انتشارها في جميع أنحاء العالم، وقاد هذه الأجندة، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في البداية كرئيس للوزراء التركي حتى عام 2014 ومنذ ذلك الحين كرئيس للدولة، فقام بتنمية العلاقات مع القادة الأفارقة، وساعد الشركات التركية على الوصول إلى أسواق جديدة ومشاريع ممولة تضع تركيا كحارس للثقافة الإسلامية في إفريقيا ذات الأغلبية المسلمة، وذلك في محاولاتها لكسب النفوذ في إفريقيا.
يأتي الاهتمام التركي بإفريقيا بشكل متزايد مع إغلاق الاتحاد الأوروبي أبوابه في وجه أنقرة، إذ بدأت الأخيرة في السعي إلى الحصول على فرص جديدة وتطبيق سياسة نشطة في دول شرق أفريقيا، لا سيما إثيوبيا والصومال، قبل أن تحول أنظارها إلى دول غرب القارة مؤخراً.
و تأتي العلاقات بين تركيا والعديد من الدول الأفريقية وسط منافسة شديدة بين القوى الغربية والآسيوية التي تتصارع لزيادة نفوذها في القارة والوصول إلى مواردها الطبيعية؛ فتأتي المنافسة العالمية في القارة من الاعتقاد بأن إفريقيا لاعباً رئيسياً في النظام الدولي مع الأخذ في الاعتبار دورها المتزايد على الساحة العالمية.
في الواقع، كانت المنطقة دائمًا منطقة صراع سياسي واقتصادي، وعندما نفكر في آخر 200 عام من القارة الأفريقية، نرى أن المنطقة في بعض الأحيان منطقة منافسة، وأحيانًا مكان نُهبت فيه مواردها الغنية، وقوضت النسيج الاجتماعي والمؤسسات التقليدية من قبل القوى الاستعمارية.
وعلى مر السنين، ازداد دور تركيا في القارة الأفريقية بشكل مستمر، وقد تُرجم هذا إلى علاقات أقوى بين تركيا وأفريقيا، فجاء تطور سياسات تركيا تجاه إفريقيا في إطار سياسة مربحة للجانبين وهي مدفوعة أساسًا بأبعاد اقتصادية وإنسانية وأمنية.
فكانت إفريقيا جزءًا مهمًا من جدول الأعمال التركي لعام 2021 بالنظر إلى الرحلة الدبلوماسية التي قام بها الرئيس أردوغان إلى عدة دول إفريقية، وعقد المنتدى الاقتصادي والتجاري في أكتوبر الماضي، وأخيرًا وليس أخراً، قمة الشراكة التركية الأفريقية التي انعقدت هذا الشهر في اسطنبول.
انعقدت القمة التركية الافريقية في وقت تتعمق فيه الانقسامات المنهجية في النظام العالمي؛ حيث تحاول فرنسا والصين وحتى روسيا إعادة الهيمنة على وجودهما في القارة. ومن ناحية أخرى، تستمر الصراعات في القارة في التوسع، فازداد عدد الانقلابات العسكرية في السنوات الأخيرة.
ماذا تعني القمة في هذه المرحلة؟
بالنسبة لأفريقيا، يُنظر إليها على أنها فرصة لتعميق وتطوير التعاون مع تركيا في مجالات جديدة؛ فبالإضافة إلى المساعدات الاقتصادية والتعليمية والتنموية، ترغب العديد من الدول الأفريقية في زيادة تعاونها العسكري بين القارة وتركيا.
تنظر معظم دول القارة الآن إلى تركيا على أنها جهة فاعلة يمكن إقامة علاقات قوية معها على أساس سياسي متمحور حول الأمن، بعيدًا عن جهة فاعلة تركز على المساعدة في التنمية الاقتصادية، وبالتالي تمثل هذه القمة حجر الزاوية لهذا التحول.
أما بالنسبة لتركيا، كانت إفريقيا دائمًا قارة أقيمت فيها علاقات قوية تستند إلى مصالح متبادلة ومشتركة، حيث أتاحت الفرصة لتركيا لإعادة الاتصال مع القارة من خلال خطة العمل الأفريقية، التي أعدتها في عام 1998، وقد شجعت هذه العملية الشراكات الاستراتيجية والتعاون على المستوى الثنائي وأصبحت تدريجيًا إضفاء الطابع المؤسسي على مؤتمرات القمة التركية الأفريقية التي تعقد كل خمس سنوات.
فتواصل تركيا تعميق علاقاتها مع إفريقيا في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، وخاصة التعليم، وهي أدوات مهمة للغاية لإنشاء والحفاظ على علاقات دائمة وقوية وعميقة بين المجتمعات.
سياسات بناء السلام التركية وحل النزاعات في إفريقيا
تعتمد سياسة تركيا تجاه إفريقيا بشكل خاص على عناصر القوة الناعمة مثل المساعدات الإنسانية والعلاقات التجارية وفرص المنح الدراسية للطلاب الأفارقة ورحلات الخطوط الجوية التركية وأنشطة الدبلوماسية الدينية.
ومع ذلك، بدأت أنشطة ومبادرات التعاون العسكري في مجال حفظ السلام مؤخرًا تحتل مكانة مهمة في علاقات تركيا مع الدول الأفريقية. وبهذا المعنى، فإن الدولة الأبرز في سياسة تركيا تجاه إفريقيا هي الصومال. بعبارة أخرى، يتضح استعداد تركيا وتصميمها على بناء السلام وحل النزاعات في إفريقيا في سياساتها بشأن الصومال.
عندما تبرز مسألة التعاون العسكري التركي مع الدول الأفريقية إلى الواجهة، يمكننا القول إن السبب الرئيسي الذي يخطر ببالنا في وجود تركيا في الصومال هو افتتاح أكبر منشأة تدريب عسكري لتركيا في الخارج في مقديشو في 2017.
من ناحية أخرى، بذلت تركيا أيضًا محاولات وساطة بين الصومال وجمهورية أرض الصومال، فتم عقد أول اجتماع شامل بين رئيسي البلدين في أنقرة في أبريل 2013.
ومع ذلك، فإن المبادرات في هذا المجال أقدم بكثير، وأنقرة لديها اتفاقيات تعاون في الصناعة العسكرية / الدفاعية مع العديد من البلدان الأفريقية. على سبيل المثال، في إطار اتفاقيات التدريب العسكري والتعاون الفني المختلفة الموقعة بين تركيا وغامبيا منذ أوائل التسعينيات، يقدم الخبراء الأتراك التدريب للجيش والشرطة والدرك الغامبي.
كما تساهم تركيا في بعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام المنتشرة في البلدان الأفريقية، فكانت أول بعثة للأمم المتحدة تساهم بأفراد عسكريين في إفريقيا هي عملية الأمم المتحدة الثانية في الصومال (UNOSOM II).
وساهمت تركيا أيضا في قوة المهام المشتركة متعددة الجنسيات (CTF-151)، التي أُنشئت في عام 2009 في نطاق مكافحة القرصنة في خليج عدن وبحر الصومال وفي المحيط الهندي، كما تولت قيادة هذه القوة ست مرات.
كما يمكن أن نرى، فإن مساهمات تركيا في ضمان السلام والأمن في القارة الأفريقية واسعة جدًا، ولكن سيكون من المفيد تعزيز أنشطتها في هذا المجال بشكل أفضل والتأكيد على مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأفريقية.
كيف يختلف نهج تركيا تجاه إفريقيا عن الغرب؟
إن أحد الأسباب يكمن في إشكالية العلاقات بين الغرب وأفريقيا عبر فرنسا وأمريكا، حيث لا يزال هناك عنصرية وتمييز ضد الأمريكيين من أصل أفريقي، وينعكس هذا الموقف لامحالة في السياسة الأمريكية الأفريقية.
كما دفعت المشاعر المعادية لفرنسا من جماعات الإسلام السياسي تركيا -التي لديها علاقة مشحونة مع فرنسا-لتقديم نفسها كشريك أمني بديل، مما ساعد في تفاقم التوترات، حيث تدعم تركيا حركات الإسلام السياسي في المنطقة وفي الشمال الأفريقي، فهي تبحث عن حلفاء جدد بعد سقوط جماعة الإخوان في السودان، كما لدى تركيا مشروعاً توسعياً يبدأ من ليبيا متجها نحو منطقة الساحل والصحراء وغرب أفريقيا، ومن هناك تستطيع تركيا بالتعاون مع بعض قوى الإسلام السياسي في المنطقة، بهدف تغيير موازين القوى عبر التنظيمات المتطرفة التي ترغب أنقرة في نسج خيوط الارتباط بينها في ليبيا.
ومن ناحية أخرى، لا تعترف فرنسا بأخطائها وتدفع تعويضات للجزائر، فلا يزال التوتر قائماً بين فرنسا والجزائر بسبب الجرائم الإنسانية والمجازر التي حدثت خلال فترة الاستعمار الفرنسي. ومن ثم، فإن الجوهر المضطرب للعلاقات بين الغرب وأفريقيا في ظل الاستعمار يعزز البحث عن بدائل.
وهنا يأتي دور تركيا التي ظهرت كبديل لا يتمتع بسمعة استعمارية مثل الدول الغربية عندما يتعلق الأمر بالانخراط مع الدول الأفريقية، فيقدر الأفارقة نضال العثمانيين ضد القوى الاستعمارية، وعلى الرغم من أن تركيا لم تكن حاضرة ونشطة في المنطقة لفترة طويلة مقارنة بالدول الغربية، إلا أن تركيا تتمتع بميزة طبيعية في زيادة نفوذها على عكس دول الغرب مستغلة بذلك الخطاب السياسي الذي يلعب دور كبير في رسم السياسة الخارجية التركية.
في الواقع، كانت توغلات تركيا في القارة حتى الآن بشكل أساسي تمرينًا على إبراز القوة الناعمة من أجل حشد تأييد وولاء إفريقي، حيث تركز أنشطة تركيا في المنطقة في الغالب على دعم التنمية والمشاركة التجارية.
كما تعتمد تركيا أيضاً في أجندتها للتوغل في إفريقيا على الخطاب الديني مستغلة حركات الإسلام السياسي في دول مثل نيجيريا ومالي والنيجر والسنغال، بهدف نسج شبكات نفوذ ومصالح تركية على أراضيها، كما أن الخطاب التركي يلقى قبولًا لدى بعض الأفارقة، لا سيما أن أردوغان يتبنى خطاباً معادياً للممارسات الغربية واتهامها بنهب ثروات القارة.
كما تتمتع تركيا بميزة أخرى مهمة وهي، عدم وجود ماض استعماري لها في القارة الافريقية، بل على العكس من ذلك، لديها سمعة إيجابية بشكل عام، وهذا الأمر على وجه الخصوص سيؤدي إلى جعل تركيا تتقارب بسهولة مع هذه الدول في المجال السياسي، والتعاون في مختلف القضايا الإقليمية والعالمية.
ومن الدوافع الأخرى للتمدد التركي، هو السيطرة على الموارد والثروات وطرق المواصلات، وعلى أكبر عدد من مناجم اليورانيوم والذهب في دول المنطقة، وتأمين الحصول على الطاقة، إذ تفتقر أنقرة للموارد النفطية الكافية، وتستورد ما قيمته 50 مليار دولار سنوياً منها.
ختاما، منذ وصول أردوغان وحزبه العدالة والتنمية للحكم عام 2002 شهدت الدبلوماسية التركية الأفريقية نقلة نوعية، حيث ارتفعت عدد سفارات أنقرة في أفريقيا من 12 إلى 42 وهو ما يؤكد محاولة تركيا تعزيز حضورها في إفريقيا الغنية بثرواتها.
إن النموذج التركي الذي ينطلق من طموحات وطنية قوية وأحلام إمبراطورية تاريخية، يستند في مشروعه التوسعي على استخدام القوة العسكرية في البر والبحر جنبًا إلى جنب مع الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية، وتمثل حالة الضعف والهشاشة التي تعانيها الدول الإفريقية مثل ليبيا والصومال وضعا مثاليا للاستغلال من قبل العديد من القوى المتوسطة الطموحة وعلى رأسها تركيا، وهو ما يكرر حالة التدافع الأولى على إفريقيا من قبل القوى الأوروبية خلال الفترة الإمبريالية.
ولكن لا ينبغي المبالغة في تقدير وزن تركيا الحقيقي في التوازن الإقليمي الحالي والمستقبلي، فنعم، اكتسبت تركيا مساحة نفوذ سياسية واقتصادية وثقافية جديدة في العديد من البلدان الإفريقية خلال العقد الماضي، ومع ذلك يجب تقييم الجهود التركية في ضوء حقيقة أن السياسة التركية تواجه قيودا عديدة مثل وضع الهشاشة الكامنة لنظامها الاقتصادي والمالي والسياسي مما يولد تناقضًا جوهريًا مع الواقع الداخلي للبلاد.
من المتوقع أن يعتمد مستقبل العلاقات بين إفريقيا وتركيا حتما على التطورات المستقبلية داخل تركيا نفسها وتأثير ذلك على توجهات سياساتها الخارجية، فربما تركز تركيا على الأولويات الأكثر إلحاحًا، مثل تورطها في الصراع السوري، والتحديات الإنسانية والأمنية المختلفة على طول حدودها السورية، والقضايا العالقة في منطقة شرق المتوسط.